Al Jazirah NewsPaper Tuesday  17/08/2010 G Issue 13837
الثلاثاء 07 رمضان 1431   العدد  13837
 
الغذامي وسر نجاح القصيبي
عبد الله بن محمد السعوي

 

الدكتور عبدالله الغذامي - حفظه الله - في لقاء له مع إحدى القنوات الفضائية بعد رحيل غازي القصيبي الذي وافاه الأجل يوم الأحد الفارط أشار الدكتور الغذامي إلى قضية مهمة بل هي أحد عوامل ما حققه الراحل رحمه الله من نجاح على المستوى العملي وهي قضية الوقت وكيف كان يتعاطى معها الفقيد وأنها كانت أحد أبرز الأسرار التي تقف خلف تلك النجاحات التي يحرزها على الصعيد العملي والوظيفي, وسبق أيضا أن استمعت إلى الراحل في مقابلة تلفزيونية معه أكد على أنه لا يحرص كثيرا على الارتباط بالمناسبات الاجتماعية وذكر أنه قد يمضي عليه أربع سنوات دون أن يحضر ما يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من تلك المناسبات وهذا ما يجعلنا نعرف السر خلف ذلك الإنجاز الثقافي الضخم الذي بطبيعة الحال نتفق فيه معه ونختلف أيضا ولكن يبقى هذا الإنجاز علامة بارزة على شخصية عامة لم يصرفها تعدد مسؤولياتها عن التعاطي مع الثقافة والتواصل مع متباين الأوعية المعرفية في ظل زمن بات فيه الناس يتعللون بأدنى الأشياء وكأنهم يبحثون عن أي مسوغ للعزوف عن مصادر المعرفة!

إن التوظيف الإيجابي للوقت من خلال رصد تجلياته هو أحد الأسرار التي تقف خلف ذلك النجاح الذي يحرزه العظماء على تباين مشاربهم وخلفياتهم الثقافية والذين - بفعل ما أبْلوا من بلاء حسن - نقشوا أسماءهم في قلب الضمير البشري بفعل عمق حضورهم وأدائهم المتميز, ولا يتصور تجسيد أي صورة من صور النجاح من غير تلك البرمجة الوقتية التي تعبر عن مستوى عال من الرصانة الذاتية والتوقير التبجيلي للقيمة الزمنية والإعلاء من شأنها وتوسيع حجم استغلالها وارتضاء تلك الآلية نمطا يوميا للحياة بحسبها إحدى أبرز الآيات الفارقة بين الشعوب التي أحرزت تقدما ملحوظا في مسار السلم الأممي وبين تلك الشعوب التي لم تسعفها إمكاناتها الذاتية لتحقيق مستوى يذكر على هذا الصعيد.

هناك من يتحرك في أفق محدود ويعيش حياته بطريقة روتينية فيتسرب الوقت منه ويتفلت من قبضته وتضيع دقائقه وهو لا يأبه بذلك فهو يتعاطى مع ذلك بكل استرخاء وعدم اكتراث وليس لديه أجندة عملية تحدوه للحصول على أكبر قدر متاح من المكتسب الزمني! بينما لو تأملت مثلا في حياة غازي القصيبي لألفيت رجل دولة تقلد عدة مناصب وتسنم عدة مسؤوليات وتنازعته مفردات عدة كل واحد منها يصد الاستغراق فيه عن غيره ولكن ومع ذلك كله استطاع الراحل أن يوازن بين مشغولاته فلم يطغ جزء منها على آخر, ولم تصرفه عن الثقافة والأدب حيث نجده شاعرا غزير الشعرية وأيضا لديه زخم روائي وتأليفي وهو كذلك كاتب مقالة بالإضافة إلى مباشرة بعض الأعمال الإنسانية كتبنيه لجمعية الأطفال المعوقين.

إن الوقت هو الحياة ولو تأملنا وعلى نحو معمق في الخطاب القرآني لألفيناه يحتفي وعلى نحو بالغ بالوحدات الزمنية ويحث الوعي المتماهي مع مؤديات خطابه على رفع درجة العناية بها وتوظيفها على النحو اللائق بأمة كانت في أيام ألقها وتألقها الحيوي تجسد وبآلية احترافية أروع الأمثلة في تنظيم الوقت الذي يمثل بالإضافة إلى اعتبارات عديدة, لاسِيما يُعرف من خلالها أولئك الناجحون في المشوار الحياتي الذين ينظمون أوقاتهم فلا تمر مرور الكرام وإنما يقتنصونها بطريقة منهجية تحفز الهمم نحو القمم ويحولونها إلى واقع عملي آخذين في عين الاعتبار تلك المستجدات والحالات الطارئة, وتلك الأوقات التي يجب إنفاقها في العناية بمقتضيات البقاء على قيد الحياة كالأكل والشرب والنوم وأيضا تلك الأوقات التي يجب أن تخصص لأداء الأنشطة التعبدية والشعائر الدينية كالصلوات وكصلة من يمتون لهم بصلة وتلك الأوقات التي يفترض تَمحضها للتزود من أسرار المعرفة. إن ثمة عوامل متعددة تدعو الإنسان إلى سوء توظيف الوقت وإهدار لحظات حياته وعدم قيامه بالبرمجة الزمنية ومن أهم تلك العوامل كون الإنسان يعيش في بيئة لا يمثل الزمن لها أية قيمة في معادلات الرؤية بل هي تزيد روح الفوضوية المقيتة ترسيخا لأنه لم تترسخ فيها المفاهيم الحضارية التي تجعل الفرد يحيا حياته بفعالية, فمثل هذا كجزء من الحالة البيئية يصعب عليه الانتفاع من وقته على النحو الأمثل, فالعيش في وسط منظومة ثقافية لا تعلي مكوناتها من قيمة الإحساس بالمسافات الزمنية شأن لا يعين على الإفادة من الوقت فضلا عن إظهار مستوى كبير من البراعة التنظيمية لكافة أجزائه التي هي ليست مجرد إطار للحوادث فحسب؛ إن مثل تلك المنظومة البيئية تملك براعة فائقة في إهدار الطاقات وتفتيت القوى وبث عوامل الإحباط التي تعيق المضي نحو الهدف بأكبر قدر ممكن من ضمانات المسير. أيضا حب الراحة والميل نحو الدعة والركون صوب الكسل, فالشخص الذي يخلد إلى مخدعه مستدبرا تلك الأنشطة التي يفترض أن يؤديها هذا لا شك أنه مثقل بعوامل التثبيط وهو لقمة سهلة لمتتاليات هبوط الهمة التي لا تجعل الوقت في صدارة اهتماماته الأمر الذي قد يفضي به صوب الانزلاق بلا وعي في الأنماط السلوكية المدمرة للذات على نحو يفقده سر طلاوة الحياة. أيضا عدم وجود الهدف الاستقطابي المرسوم وعدم التخطيط الذي يعين على نسج خيوط التقدم كل هذا يجعل الإنسان يعيش في أحلام رومانتيكية وأمنيات جوفاء. إن التخطيط في أبسط صوره يتمثل في تلك القائمة من الممارسات التي تحسن سوية الفرد وترشّد الخط العام للشخصية وتعلي من درجة تراتبيته في السلم الاجتماعي.

ومحصول القول: إن الروح العملية والنهم الحركي عند غازي القصيبي ودقة تعامله مع الوقت كل هذا لا يجوز أن يكون محصورا في حالات فردية, بل يجب أن يكون ديدنا كليا تخيم روحه على الوعي العام, ولا مراء أن صاحب الوعي المتوقد هو الذي لا يغرق في التفاصيل الهامشية, بل يتحلى بإحساس عميق تجاه الوقت حيث يمضيه منصرفا نحو العمل والإنتاج والدخول في سياق حركة متتالية على هذا الصعيد, فوقته مجدول, حافل بالالتزامات ومزدحم بالبرامج العملية أو العلمية وهو دائما يتطور على نحو لا يقف عند حد. القلم والمفكرة يلازمانه على طول الخط فهو دائما يدون ارتباطاته والتزاماته والسانحات في ذهنه انطلاقا من قناعته بأن قضية الوقت محسومة دينيا وليس في وقت المرء الإيجابي فراغ, بل هو ينظم حركته اليومية على النحو الذي يضيف إلى رصيده الكثير من آيات الازدهار. إن حياته ليست مجرد أحداث عشوائية, بل هي سلسلة متنوعة من التحديات المثيرة والتجارب المثمرة والثرية.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد