Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/08/2010 G Issue 13839
الخميس 09 رمضان 1431   العدد  13839
 

بين رحلة فقيد الإنسانية ورحيله
د. عبدالله التطاوي (*)

 

لم يكن رحيل الأديب المبدع، والمفكر الفذ، والإداري الناجح، والسياسي الماهر فقداً من المملكة الشقيقة بقدر ما اتسع الخطب إلى كونه فقيد الأمة كلها لتمتد إلى بعد إنساني أوسع، ومن ثم تظل صورة المغفور له - بإذن ربه - غازي القصيبي - مرتسمة في أذهان البشر بقدر ذلك النسيج المتداخل في تجارب إبداعه ومنجز عمله على السواء.

ففي إبداعه تداخل الذاتي مع الوطني مع القومي مع الإنساني حتى بدت الدوائر متراكبة بدقة وإحكام ربما كان مصدره ذلك الفيض الإبداعي الذي عزز تجربة الشاعر المتألق حين راح يسبح بمخيلته في فضاءات اللامحدود لينتج لنا إبداعاً رفيع المستوى في كل ما نظم فيه شعره حيث راح يعيد اكتشاف الإنسان في موقفه من الكون بكل مكوناته ومقوماته وأبعاده ومساقاته وصراعاته وكان يكفيه أن يكون شاعراً كبيراً - فحسب - يحكي قصة تفاعله مع موروثه الأدبي إحياء وحواراً ومساءلة ومراجعة إلى جانب قدراته الابتكارية التي وضع بها علامة متميزة بين شعراء العربية الكبار في مفرداته وتراكيبه وصوره وموسيقاه وإيقاعاته التي عكست كثيراً من حرارة تجاربه، وقصة معاناته، وخصوصية مواقفه الإنسانية.

شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يمنحه من القدرات ما اخترق به سقف النجاح حتى أصبح (حالة) أو ظل (استثناء) على النحو الذي طالما طرح حوله بعيداً عن المغالاة أو المبالغة، حيث أحسنت الجزيرة صنعا في شراكتها مع نادي الرياض الأدبي حين أقاما تلك الأمسية الرائعة حول ذلك الرجل (الاستثناء) بكل ما تمتع به من الهبات والمنح الربانية مع اجتهاد الإنسان إلى حيث يكون البحث عن الذات والآخر مجدياً إلى أبعد مدى.

استطاع الراحل العظيم أن يترك بصمة في عالم السياسي، والمفكر، والأديب، ورجل الدولة من الصحة إلى العمل، فضرب فيها كلها مثلاً أعلى في إدارة الوقت التي تعد المدخل الأول وعليها الرهان الأقوى في تقدم الأمم والشعوب، فما بالك إذا ما وجدنا الندرة النادرة من أمثال القصيبي بمثل تلك العبقرية الفذة التي أحسن فيها وبها فأجاد في كل مسعى واتجاه حتى بدا موسوعي الأداء، واضح المنهج، دقيق الرؤية، قادراً على العطاء في كل إنجاز متخصص بما جعله نموذجاً حياً حتى بعد مواجهة الحقيقة الخالدة التي طالما التقت حولها الإنسانية في حتمية ملاقاة الموت، فما خلقنا إلا لكي نموت، وما وجد الموت إلا لكي نموت مهما طالت الأيام، وتوالت الآجال، ليبقى الإنصاف حقاً واجباً تجاه الرجل إذا ما أخذنا بقولة ابن الرومي حول فلسفة الموت (مع وضع (إذ) بدلاً من لا النافية في بيته الثاني).

قد قلت إذا مدحوا الحياة فأكثروا

للموت ألف فضيلة لا تعرف

فيه أمان لقائه بلقائه

وفراق كل معاشر (إذ) ينصف

وقديماً رثى بعض الشعراء أنفسهم من باب تعزية الذات، أو استشعار الوضعية المجتمعية التي طالما تمنوها لأنفسهم بعد الموت، ولكن الدكتور غازي - رحمه الله - لم يشغل برثاء النفس في حياتها الفانية بل تركها لمحبيه لينتشر عطاؤه الثر الذي طالما أثار الدهشة والانبهار لكل قرائه ومريديه من أبناء الأمة داخل الوطن وخارجه، فكان له من اسمه نصيب حيث غزا طيلة رحلة حياته العامرة بالعطاء، غزا في عالم الفكر والأدب والإبداع بقدر غزوه في عالم الإدارة والسياسة والعمل المتخصص على كل مستوياته ودوائره، تاركاً المرثية لمن حوله من الذين قدموا له في حياته صورة من حبهم لشخصه وصفاته، وعشقهم لفنه وإبداعه، وولعهم بسيرته وسلوكه خلال تلك الأمسية الاستثنائية التي تحسب في ميزان حسنات من نهضوا بها.

ولأننا جميعا راحلون، وكل منا ينتظر يومه ودوره ليلحق بفقيدنا الكريم الذي طالما ذاعت صور من كرم إبداعه عبر دواوينه وقصائده ومقطعاته، وعبر عطاءاته الأخرى في مجالات عمله بما يشهد له به أبناء الوطن.. ولأننا جميعاً نعيش في هذا العالم أسرى الآمال والآلام والطموحات فمن الواجب أن نعيد قراءة حدث وفاته ورحيله، وأن نتلمس العظة والعبرة كلما مات عظيم في مثل منزلته حيث يظل نجمه متألقا في سماء الصورة الشعرية، بقدر تألقه في كرم الأخلاق، وصدق العمل، وحسن المقاصد التي ضرب فيها المثل الأعلى في الانشغال حتى بمحنة الإنسان المعاق وتعزيز قدرته على التحدي والتعايش مع صراعات الأحياء.. رحمه الله رحمة واسعة، ونفع بعلمه وفكره وإبداعه وسيرته الطيبة كل أبناء الأمة الذين فقدوا بفقده علما من الأعلام الشوامخ الذين مثلوا عنصرا رئيساً في معزوفة الكبار ومسيرتهم، وحققوا وجودهم ضمن كوكبة العطاء الوطني والإنساني بلا حدود.. ليبقى معه عمله الصالح، وله الدعاء الطيب بأن يسكنه ربه فسيح جناته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).

(*) المستشار الثقافي المصري بالرياض

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد