حديثي هنا عن الراحل الكبير أبي سهيل الوزير والمفكر والشاعر والأديب والإنسان، المتسع في روحه وخلقه لمعارفه، ومحبيه والمؤمن الذي اختار طريق إيمانه دون وصاية أو وسيط، إنّما عبر العلاقة المقدسة بين الإنسان وربه ورسوله التي لم ولن تعطي أي أحد وكالة ولا شهادة اعتماد يقدمها للناس، إنما هي عند مولانا الأجلّ الأعلى الذي يحتفي بغازي في رحمته وبحبوحته. لذلك فإن حديثي هو عن ذاكرة التاريخ ماذا حملت لغازي وكيف عَرَفَتْهُ وأدرك تماماً أنّ غيري يعرف الكثير عنه لكنني أشعر بمسئولية مضاعفة أمانة للقلم وأن الفقيد الكبير كان من موطني الصغير الأحساء كما هو موطننا الأخضر ووطننا العربي الكبير الذي عاد لينعى غازي بكل هذا السجل من مساجد الأحساء التي لو أودعته ثراها لسبح فوق الأعناق إلى هناك في فلسطين هي كانت قضيته لم تزل طرية في صدره إنها ثورة الأحرار لحق المقدسات والعدالة الإنسانية فكان نعي قيادتها لغازي القصيبي المتمثلة في حركة المقاومة الإسلامية حماس رابطاً يُذكّر بتاريخ هذا الرجل منذ محضن الحركة العروبية المتضامنة مع المقاومة في إقليم الأحساء حتى آخر بيت كتبه للشهداء والمقاومين.
ولقد ثمنت عالياً ثقافة الاحترام والاعتراف بشخصية الفقيد عند المختلفين معه كما جرى ذلك من أقلامٍ عديدة، وهذه الأخلاقيات هي المنهج بين المختلفين في دستور الثقافة العربية النبيلة ولولا تلك الحرب اللعينة التي فُرضت على المنطقة في أوائل التسعينات لكانت علائقنا العربية الثقافية أفضل وهي أصولٌ لا تزال تجرنا للثوابت عروبياً وإسلامياً، وإذ أكتب فإنما من هذه الروح الجامعة ولو لم تكن لي مع الفقيد أي صلة على المستوى الشخصي، نبقى نحمل مدارات مختلفة من المواقف فتجمعنا قيمٌ عديدة وقضيةٌ مركزية نطوف حولها حتى الرحيل للملأ الأعلى.
وأبدأ من قصة أسرته حين سألني الناس خارج الأحساء لماذا أسرة القصيبي، إنّ هذه الأسرة لها تاريخٌ لا يُمحى من ذاكرة الأحسائيين فزعيمها التاريخي سعد كان يشفع في رقاب وأيدٍ ويهب من ماله لإطلاق من يواجه هذا المصير وهي حالات بالعشرات فلو كانت واحدة والله يقول جلّ في علاه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. فكيف بتلك النفوس. وكانت لهذه الأسرة ولا تزال مساهمات لإعانة الفقراء والمضطرين وهي لا تزال جزلة في ذلك وترعاها الوالدة العزيزة حرم المرحوم الشيخ عبد العزيز القصيبي، وكان لغازي مدارات تبرع لا يعلمها الكثير وكان عطاؤه وتبرعه خارج أي مسار من استغلال المنصب لتحقيق ثروة أو إقطاع أو نفوذ وإنما من ماله الخاص ونصيبه في ثروة أسرته المحدودة مقارنة بالآخرين. لا يعرف التاريخ أرضاً اقتطعت لغازي أو وكالة منحت له أو شركة سجلت باسمه في الباطن تغترف من الثروة دون رقيب أو حسيب إنما جعل حسابه مع الحسيب الأكبر، ولذلك كان يُهدي من ماله الخاص لا من مال اُستثمر باسم وزارته.
ولقد كان غازي القصيبي في ميدان متقدم من صدارة الشعر العربي المعاصر، حافظ على قوة القافية الشعرية في إبداع المعاني أكان إنسانياً في الغزل والمروءة أو في الفكر التضامني، ولولا مشاغله الوزارية لكان في صدارة التصنيف في الوطن العربي وهو كذلك سوى أنّ طبيعة العمل الوزاري تختطف بعض الضوء من مشاهير الفكر وتبقى هناك مساحات من تطور القناعة الأيدلوجية لغازي تغيرت من زمن لآخر قد كانت ناصعة في الختام فكراً وروحاً.
خاض غازي كفاحاً إصلاحياً إدارياً لا يختلف فيه منصف المختلف والمتفق وحاول أن يكرس نظرية الإدارة التي شهد الجميع لكتابه أنها ذات صدارة في علم الإدارة أراد أن يستودعها لحركة النهضة العربية الحديثة التي تطرح أسئلتها بقوة لماذا نحن متخلفون، غير أنّ تجربته وكفاحه في وزارة الصحة ومتابعة أخطاء الأطباء والمسئولين الإداريين في المستشفيات كانت ولا تزال علامة فارقة في التاريخ الوطني السعودي ولا يزال الناس يمطرون غازي بالرحمات وخاصة حين اكتشف الجميع ما نعانيه حالياً وعلى مدار تجاوز العقدين من كوارث الأخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية والأهلية أو برامج العلاجات الخاصة لتلك الشركات البرجوازية المسماة مستشفيات خاصة، كانت لغازي مدارات صعبة في تحقيق ما كان الجميع يعتقد أنّ غازي مشفقاً فيه على الوطن والمواطن في وزارة المياه وحملات الترشيد وفي قضية حيوية جداً للغاية تَصدّى لها غازي بشجاعة رغم كلفتها وكونها تلاقي تكتل رجال الأعمال والمصالح، وكان من الواضح كيف جعل غازي مهمة وظيفة لكل مواطن نصب عينيه لكن ذلك المسار كان معقّداً ويحتاج إلى أولويات لم تكن في يد غازي ولا يكفيها صفاء نيته لتحقيق الهدف السامي.
ولكن استمر الناس يعرفون غازي بفلسفته الخاصة وتعرض في القديم والجديد لحملات فكر موجهة فيها ما هو كان يطرح خياره وتصوراته الفكرية للأحكام الإسلامية اتفقنا أو اختلفنا معها وفيها ما كان موجهاً لإسقاط غازي لأنه غازي، وهنا وقفة لا بد منها، لم يكن غازي القصيبي مشابهاً للصورة التي تُصدّر عنه وكان في سلوكه الشخصي للحياة التعبدية كما ينقل عنه وفي إدراكه لمعاني الوعي الإسلامي يحمل قناعاته الخاصة وخلاصة تجربته التي كانت تعتمد مدار الشرع والفهم الإسلامي، هكذا كانت تنطق تجربته لكنّ غازي أصّر على أن لا يستمنح أو يستمطر عطف أحد ولا يعطيهم وصاية لإدخاله الجنة فالله أعلم بالسرائر ولا كهنوت في هذا الدين، وهذا لا يعني أنّ غازي لا يخطئ لكن المقصود صلابته في تكريس موقفه الذي يعتقده دون وصاية. أعرف أساتذة كباراً من نبلاء المجتمع يعتقدون العلمانية المطلقة ومع ذلك فهم يسعون إلى مُداراة ذلك والإيهام بخلافه في حياتهم الشخصية فيما كان غازي في عبادته ووعيه وكتاباته الأخيرة ينطلق من مدارات التصور الإسلامي حسب وعيه لا إملاء الآخرين لكن دون أن يسترضي أحداً، وهو يتطلع فقط إلى من ناجاه في قصائده فمن يحول بينه وبين مولاه.. طب نفساً أبا سهيل أنت في حِماه.