لم تكن تلك (الرسالة) التي وصلتني عصر ذلك اليوم رسالةً عادية، ففي تلك اللحظة كان الهاتف على موعد مع (رسالة) من الأستاذة الكريمة (أمل القثامي) جاء فيها: ((أسقي الزهور في غيابك.. ولكنها ترفض أن تنمو))، وحين حوَّلتُ عيني إلى الأسفل وجدت الرسالة مُذيَّلةً ب((غازي القصيبي رحمه الله))، في البداية لم أستوعب المقصود بهذا (الدعاء)، ولم أعِ ما تعنيه هذه (الرسالة)، حتى إذا ما أعدتُ قراءتها مرة أخرى بدأت ملامح (الرؤية) تتضح، وخبر (الرسالة) يتبيّن، وحدث ما كنتُ أخشاه، فهرعتُ إلى مواقع (الإنترنت) للتأكد من صحة هذا الخبر، فإذا بها جميعاً تنعى هذا (الرجل العظيم)، فعن أي شيء أتحدث؟ وبأي لغة أتكلم؟ وماذا سأقول وأنا أكتب هذه الكلمات المتقازمة أمام هذا القامة الكبيرة الاستثنائية؟
لقد رحل (غازي القصيبي) الرجل (الاستثناء)، الذي يكاد يكون الوحيد تقريباً الذي تولّى أربع وزارات، وعاصر أربعةً من ملوك مملكتنا الغالية، كان خلالها نجماً فوق العادة، كما كان أميناً وشريفاً حتى آخر يوم من حياته، لم تطله شائعة مغرضة أو تهمة باطلة.
لقد خلَّف (القصيبي) إرثاً عظيماً كوزير للعمل، كان خلاله بمثابة (المهندس المعماري) الذي يرى (التحديات)، ويبحث عن (الفرص)، ويحرص دائماً على تقديم أفضل الحلول العملية الممكنة لإحداث تغيير جذري في سوق العمل.
لقد رحل (القصيبي) الذي فور أن قرأتُ له قبل أسابيع قصيدته التي كانت بمثابة (نعيٍ رسميٍّ) لنفسه، حتى شعرتُ حينها بالأسى على فقدان رجلٍ كهذا، أحسستُ - والعبرة تخنقني - أننا لن نعرف قدر هذا الرجل إلاّ بعد رحيله، لقد كان في أشد لحظات الألم يبتسم، ولا يمكن أن ينسى أصدقاءه وزملاءه، محباً للخير في صحته ومرضه، هَمُّه الوطن والمواطن في كل وقت.
لقد رحل (غازي القصيبي) جسداً، إلاّ أنّ حضوره (الأدبي) و(الثقافي) لن يغيب أبداً، بل سيكون مَحطةً مُهمةً، لا يُمكن تجاوزها لمن يريد دراسة (الأدب السعودي) وتحوُّلاته.
كان (غازي) منذ طفولته (شاعراً) بالسليقة، ليس فقط لأنه امتلك قدرة سبك الكلمات في عقود القصائد أو الكلمات الرسمية أو الروايات بصيغة متميزة التفرّد، كما يسبك الصائغ الفنان حليةً ثمينةً نادرة المكوّنات، فما أكثر القادرين على النظم، وما أقل الشعراء الحقيقيين بينهم، إنما كان (شاعراً) بالفطرة؛ لأنه عاش وهو يُحسُّ (نبض الحياة) وضغوطها ومستجدّاتها بروح (شاعر)، ويراها بعينيْ (شاعر)، ويحلم بها بسعة أفق خيال (شاعر) فذ.
لقد كانت إسهامات الفقيد الراحل في حقول فنون (الشعر) و(الأدب) و(القصة) علامةً فارقةً في سماء الأدب (المحلِّي) و(العربي)، ولطالما كانت (الأعمال الأدبية) لصاحب (شقة الحرية) محل (جدل) و(نقاش) و(احتفاء) (الأوساط الثقافية) التي لم يكن بعيداً عنها رغم انشغالاته الإدارية بوصفه وزيراً للعمل، فرواياته ومؤلفاته هي ضمن الأكثر توزيعاً حيثما حلّت في (معارض الكتب)، ولا تكاد مكتبة مثقف سعودي تخلو من بعض كتبه، فقد كان رافداً للمكتبة الأدبية بمجموعة دواوين من أهمها: (صوت من الخليج)، (الأشج)، (اللون عن الأوراد)، (أشعار من جزائر اللؤلؤ)، (سحيم)، (للشهداء)، وغيرها، وأعمال روائية من أبرزها: (شقة الحرية)، (العصفورية)، (سبعة)، (هما)، (سعادة السفير)، (دنسكو)، (سلمى)، (أبو شلاخ البرمائي)، وصولاً إلى آخر إصداراته في الرواية: (الجنية)، وحتى وهو على فراش المرض لم يتوقف قلمه، ولم يجف نبع إبداعه، فأهدى لنا ثلاثة كتب خلال العام الذي كان فيه على فراش المرض.
لقد كان (القصيبي) (استثناءً) في زمنه وزمن سابقيه، مثبتاً أنّ (الإبداع) لا يتعارض مع (الإدارة)، وأنه من الممكن أن يكون (الوزير) و(السفير) (شاعراً) ويحقق الحضور والتميُّز في عمله، وقبله حلم بعض الشعراء - ليس آخرهم (المتنبي) - بأعمالٍ قيادية، لكنها منعت عنهم؛ لأنّ النظرية التي سادت هي أنّ الحُكَّام لا يضعون مصير الناس بين يديْ (شاعر)، غير أنّ (القصيبي - الاستثناء) أثبت بحنكته خطأ تلك النظرية، فكان (مسؤولاً) و(شاعراً) و(روائياً) و(كاتباً) و(صديقاً) لكثيرٍ من المبدعين وغير المبدعين.
لعلّ الراحل الدكتور (غازي القصيبي) قد أدرك في وعيه الباطن أو بعقله الفطن أهمية المزاوجة بين (الفنان) و(السياسي)، فاختطّ طريقه (الخاص) و(الاستثنائي) لكتابة (سيرته الذاتية) على أرض ممارساته الحياتية فكراً وعملاً في مسيرة حافلة بالعطاء في خطّين متوازيين: خط (الأديب) و(الفنان)، وخط (الوزير) و(المدير) (المسؤول) بالدولة، فقد كان - رحمه الله - واحداً من القلّة النادرة التي قبلت بالسير في (المعادلة الصعبة) التي جمعت روح
(الشاعر) و(الروائي) و(الفنان) و(المبدع)، و(القدرة الاستثنائية) على (الضبط) و(الربط) في الوظائف التي شغلها، سواء كأكاديمي في جامعة الملك سعود بالرياض، أو المناصب المختلفة التي تولاّها، وزيراً للصناعة والصحة والمياه والعمل.
ولأنه (استثنائي) فقد أعيا قوالب التصنيف، وحارت بشأنه كل التراجم، ولأنه كان جريئاً لا يخشى رماح النقد الجاهل أحياناً والحاقد أحياناً أخرى، كان يقول رأيه لأنه كان على ثقة من أنه بذلك يقدم مصلحة الوطن على أي مصلحة أخرى، ومن لم يكن يستوعب أفكاره في حينها عاد وتراجع، فكاد يكون الوحيد الذي تعامل مع العمل الحكومي والشأن العام بصدق، وعرف الظاهر والخافي، واستطاع بحدس الحكيم أن يشعر بما لا نشعر به.
لقد كان (غازي القصيبي) ديواناً مليئاً بالعبر والحكم، ومترعاً بالإبداع وبالأخبار وبالتناقضات، لقد كان (غازي) باقةً من كل هذه، ولكن ما يميِّزه هو أنه قادر على (صياغة المعاني) في روعة وإبداع، ولا يمتلك هذه القدرة سوى الندرة من الذين آتاهم الله قوة (البيان) وسحره، فقد ملأ الدنيا طولاً وعرضاً، وذاع صيته فى الداخل والخارج، وفرض نفسه وارتفعت قامته وهامته تيهاً وشموخاً وكبرياءً كان جديراً به.
لقد كان الراحل مجموعة رجال في رجل واحد، فهو (المفكِّر) الذي لا يُشقُّ له غبار، بما تركه في (الساحة الثقافية) من رصيد معرفي بديع، وهو (الدبلوماسي) المتميّز، برؤيته التي تزاوج بين روح المثقف وصاحب المواقف المبدئية، خصوصاً فيما يتعلّق بقضايا الأمة واستحقاقاتها، وبين واجبات الوظيفة وضروراتها القصوى، وهو (رجل الدولة) الذي عشق التغيير والتجريب والحركة والانعتاق من الإدارة التقليدية، وهو (الإنسان) الذي لا تُعَد أولوياته ولا تحصى في هذا المجال، وهو (المتحدث) المؤثر المقنع، و(الخطيب) اللامع، صاحب الآراء والأفكار النيّرة، والرؤى المستقبلية الاستشرافية، وهو (الأكاديمي) المتخصص، و(رجل الإدارة) المتميّز.
رحمك الله يا غازي، وغفر لك، وأسكنك فسيح جناته، فستبقى في ذاكرة الوطن ابناً باراً، وعَلَماً من أعلامه.
Omar1401@gmail.com