Al Jazirah NewsPaper Friday  27/08/2010 G Issue 13847
الجمعة 17 رمضان 1431   العدد  13847
 
من حقيبة الأسفار في رمضان 3-3
د. محمد بن سعد الشويعر

 

لا شك أن المسلم في بلاد الغُربة عندما يقبل عليه شهر رمضان بتسارع آخر أيام شعبان على الانصرام فإنه يحمل هماً كبيراً، كيف يكيّف أوقات الأكل في رمضان، وإن تيسّر له وجود من يعينه،

فإن ضرورة التنقل وعدم الاستقرار يجعله في حيرة من حيث التكيّف مع أوقات الأكل، والتحرج من الأكلات الجاهزة والمطاعم، وخاصة اللّحوم المشبوهة، ولحم الخنزير المرغوب عندهم وكثرته، وإذا تحرّج الإنسان منه فلن يَسْلَم من دهنه الذي يُقلى به كل شيء، كالحلويات والبسكويت والمعجّنات التي يدخل في تركيبها مشتقات الخنزير، إلا أن أحد المسلمين في هذه المدينة الجُدد (مونتجمري) وكان يعمل في «مول» كبير أخذ بأيدينا لجناح الأطعمة والمعلّبات، وبين لنا بكتابات تحذيرية لأن اليهود في أمريكا لا يأكلون الخنزير ولا يستعملون دهونه، ولما كانوا هم أغلب ملاّك الأسواق التجارية هناك، فقد حَرصوا على تلك التحذيرات، فصار كل من يتحاشى الكحول والخنازير ديانة أو رغبة أو بإرشاد طبي، يلجأ للأسواق التي ملاكها يهود. لكن بعض المتعصّبين من اليهود يؤذون المسلمين في مساجدهم بكتابات وتهديدات تصل البوليس.

وأكثر المسلمين هناك عرفوا ذلك، وصاروا ينبّهون ويتواصون مع كل وافد من المسلمين هناك بهذا.. ,هذا ما حصل لنا إذ نجد في بعض الأسواق إذا كان فيها مُسلم يعمل، ينبهنا لهذا الأمر.

ولذا فإن المسلمين في أمريكا سواء من المقيمين أو الطلبة أو غيرهم هم خير من يحمل عن كاهل الوافد الجديد على تلك الديار بعض الصّعاب في شهر رمضان بصفة خاصة، وفي غيره عموماً، ويعينه في بلاد الغربة على تخطّي الصعاب، سواء في أكله وشربه، أو في عباداته، ومعرفة الأوقات واتجاه القبلة إذا لم يحمل «بوصلة» وفي تعريفه بالمساجد ويفرحون بكل قادم جديد.

والمسجد في حياة غالبية مسلمي أمريكا حسب الأماكن التي زرت في رحلاتي المتعددة، وفي هذه حيث مررت بأكثر من عشر ولايات، فهو يمثل شيئاً مهماً بالنسبة للمسلمين هناك، لأنه يمثل إخوة الإسلام، فيربطهم بوشائج المحبة والألفة، فهو:

الملتقى لأداء العبادات، وهو ملتقى الدراسة والتباحث، وفيه يتعارفون ويتعلمون العربية، وشؤونهم الدينية، وفيه يتصلون ببعضهم ويأخذون أخبار بلادهم، ويتباحثون أمورهم، وفيه يلتقون بكل وافد، ليشعروه بالاطمئنان، ويأتي إليهم من يرغب معرفة أحوالهم وهو مكتب الاتصال الداخلي والخارجي، ووسيلة التعريف بمسلمي كل بلد في داخل أمريكا وخارجها، فيشعر الغريب بالاطمئنان، وراحة البال كما عبر عن ذلك امرؤ القيس بقوله:

أجارتنا إنا غريبان ها هنا

وكلّ غريب للغريب نسيب

ومن واقع من قابلنا: لعلنا لو أردنا أن نأخذ نموذجاً، ليوم واحد من أيام حياة أولئك، وليكن أول يوم من رمضان الذي شهدته معهم، وحددنا فيه عدد الساعات التي يقضونها فيه، مع ترتيب ذلك الوقت، لاتضح لنا أن بعض توزيع ذلك اليوم:

أن هؤلاء يذهبون لأعمالهم كل يوم مبكرين، وفي الغالب فإن مسلمي أمريكا من دول إسلامية شتى، ومن ذوي الوظائف الصغيرة عمالاً أو أصحاب مهن، وخاصة في المدن التي بها مصانع السيارات، ومع حاجتهم وعوزهم، فإن بعضاً منهم طلبوا من زوجاتهم ترك العمل لمصلحة أكبر، وهي سلامة العقيدة، وتربية الأطفال، وعفاف النساء، واجتناب الأعمال المختلطة.

لقد تحدثت مع شخص أسلم جديداً، وتسمى بعبدالله، وهو نموذج لأترابه، فإذا هو جامعي، ويعمل منظفاً وماسحاً للبلاط في أحد الأسواق التجارية الكبيرة في ضاحية المدينة ومرتبه الشهري في حدود (400) دولار لكنه يعتبر قليلاً بالنسبة لمستوى المعيشة والغلاء والأجور. أما زوجته فتحمل الماجستير في الإدارة، وتجيد الضرب على الآلة والاختزال، وتعمل متبرعة في المركز الإسلامي التابع للمسجد، وكانت قبل إسلامها واسمها فاطمة تعمل في إحدى الشركات الكبرى، وتركته بعد إسلامها.

أما إجابته عن عملها خارج البيت فقال: إننا اتفقنا سوياً في الشركة للأسباب التي منها:

- الشركة تطالبها بزيّ قصير موحّد كزميلاتها في العمل.

- أن لباسها الإسلامي وغطاء الرأس ممنوع في العمل، ولا تستطيع أداء الصلاة.

- بعملها هذا تبتعد عن أولادها وبيتها، فتهمل وظيفتها الأصلية وتتعرض لمزاحة الرجال، بل لمضايقة بعضهم للنساء عمداً.

ولما سألته عن حاجتهم لمرتبها لصعوبة الحياة والغلاء، وتعليم الأولاد ونفقاتهم، وكيفية قضاء فراغها اليومي.

فكان جوابه جواب المطمئن لدينه.. والمقتني بما فيه من التعاليم قائلاً: وبالنسبة للحاجة المادية فلا شك أننا محتاجون إلى كل بنس يزيد دخلنا، ويحسن وضعنا، لكن أنا وزوجتي نفكر في درء الخطر قبل جلب المنفعة، فعملي وهو عمل متعب وهو عمل المسلمين حولي، فكنا مقتنعين لأن من حولنا مثلنا، سواء من المسلمين أو غيرهم، ونسكن في حي متواضع، وقد اقتنعنا بالإسلام منهجاً وسلوكاً، وفي أمريكا أنظمة تيسر العمل بالساعة، فالمركز الإسلامي يأتي منه إعانة لزوجتي عن تعاونها والمدارس حولنا، يطلبون من زوجتي بالهاتف في فترة الصباح التعاون عند غياب معلمة والمكافأة بالحصة، فتجمع شهرياً، وبعض الجهات حسب تخصص زوجتي يتعاملون معها، على نظام الساعة وينجز العمل في البيت، وهكذا يتجمع ما يعيننا.

وترى كثيراً من المسلمين هنا يدرسون وضع المرأة، وأن الإسلام صانها بتعاليمه، ولذا فإن الواجب عليها أن ترتفع بنفسها للمنزلة التي أمرها الله ورسوله بها، بعد أن أسلمت وعرفت ما لله عليها بعقلها، والحمد لله على ذلك.

أدركنا بحديثه هذا أن أسلوب العمل السائرة عليه المرأة هناك يتناقض تماماً مع مبادئ الإسلام وأن الاستمرار في العمل يجذب المرأة المسلمة للتساهل في مبادئ دين الإسلام، ويباعدها عن السلوك الذي يأمرها به دينها، الذي اعتنقته عن حب وقناعة، ثم قال: ومع ذلك نتحمل مشكلات ما ينتج من نقص مالي، ونترك ما يمكن الاستغناء عنه من الكماليات لعل الله يعوضنا بالقناعة وعفة النفس أولاً وقبل كل شيء.

فقلت له: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه». فقال: لا شك أننا في هذا المجتمع نعاني امتحاناً عسيراً، وصراعاً نفسياً، لكننا نوطن النفس، ونغالب جموحها، ويساعدنا في هذا التغلب على ما نعاني، ما نراه من إصرار المسلمات هنا، وتواصيهن بالامتثال بالأمر عملاً، ليأخذن من تعاليم الإسلام أسلوباً يروضهن على الحياة عملياً، وعن قضاء أغلب النساء فراغهن، وقد تعودن العمل المنطلق، أقول: إن الإسلام غير مجرى حياة المرأة المسلمة هنا تماماً، وسارت في أمور عن قناعة هي خير معين لها:

- التفرغ للأولاد: تعليمهم وتربيتهم. الاهتمام بهم في حفظ ما تيسر من القرآن والتمرين على العبادات والصلاة. شغل الوقت بالقراءة باللغة العربية.

- ترسيخ الهوايات التي نمت في نفسها. وحرصهن على أداء الصلوات في المساجد بأماكن مخصصة لهن في مؤخرة كل مسجد.

ويقول أئمة المساجد والعاملون في المراكز الإسلامي: إننا ندرك اهتمام المرأة هنا، ولو تحقق لدينا قدرة مالية في المراكز الإسلامية الصغيرة والكبيرة لاستطعنا أن نلبي الرغبة بتهيئة أعمال للمرأة المسلمة: كتعليم المسلمات الجديدات، والأولاد القرآن الكريم ثم علوم الدين، والحرف المتعددة في نطاق إسلامي يتلاءم مع فطرة المرأة والحاجة.

وكما هو معلوم أن القدرات ضعيفة، ونحن في حاجة لإخواننا المسلمين للمدد والمساعدة، ومساجدنا لم تبن إلا بالمساعدة وأغلبها من المملكة العربية السعودية، فلو جاءنا مدد ولو بجزء من الزكاة لاستطعنا أن نستثمرها استثماراً نافعاً.

أنقل هذا الكلام الذي أعجبني وحماسة المسلمة الجديدة هناك، لدينها وتعاليمه في الوقت الذي بدأت كثير من النساء في العالم الإسلامي تسير في طريق الانصراف عن دينها، لعل أذناً تسمع أو عقلاً ينبّه لمسيرة المرأة في الرعيل الأول من هذه الأمة.

وأعجبني في بعض المناطق هناك اهتمام المسلمين بكل وافد إليهم من المملكة، ليلتقوا به ويتساءلوا معه ويعينوه على ما يهمه من أمور، قد تثقل عليه في تلك الديار، والمسجد هو موضع اللقاء مع الوافد الجديد، والعالق في أذهان بعضهم أن الواصل إليهم من المملكة فهو عالم يكثرون عليه السؤال في الأمور الشرعية، ويطرحون أمامه مشكلاتهم التي يطلبون لها حلاً. وهذا مهم جداً للجهات المعنية في المملكة بمساعدتهم للتغلب على ما يعانون.. ولعله يتاح في فرصة أخرى إيراد نماذج مما عرض علينا وطلبوا الحل المناسب له.

أما صاحبي والرفيق فقد ضجر من هذه الرحلة ومشاقها، وطلب العودة للمملكة، خاصة وقد تنقلنا في ولايات عديدة، فأحس بالغربة والرغبة بأن يقضي العشر الأواخر من رمضان في المملكة وأن يعتمر. طرح هذا ونحن في ولاية أريزونا عاصمتها «فينكس» ولم يعرض علي الفكرة إلا بعد ما استكملها واشترى لباس الإحرام، وعزم على أن يلبي من هذه المدينة، وقد سهل له أحد المبتعثين ذلك، بحجوزات متتابعة حتى مطار جدة، وفي مطارات أمريكا جعلوا عليه وصاية للعناية به لأنه لا يجيد اللغة وقد سهل الله أمره وتم ذلك ولم يخلع إحرامه من أريزونا إلا في مكة المكرمة. وإلى فرصة أخرى نستكمل الذكريات.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد