Al Jazirah NewsPaper Friday  27/08/2010 G Issue 13847
الجمعة 17 رمضان 1431   العدد  13847
 

الاستثناء في ذمة الله

 

لقد قلت وقولك الحق: {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (49) سورة يونس، الكل مفارق هذه الدنيا وتاركها هذه سنة الله في خلقه عجلة تدور، تبدأ من ساعة الميلاد وتقف عند ساعة الميعاد، وعندها تبدأ رحلة جديدة تبدأ من المواراة في بطن الأرض حتى يأذن الله جل وعلا بالخروج منها إلى الحياة الأخروية الدائمة دار البقاء والهناء إن شاء الله.

لقد صدق الشاعر حمد العسوس حينما استهل قصيدته في رثاء الشاعر الأديب الناقد الراوي السياسي الوزير الإنسان الذي قلما يجود الزمان برجل يتمتع بكل هذه الصفات وأكثر حينما قال:

احترت في الأمر والمكلوم يحتار

وكم تعصت على المكلوم اشعار

حقا لقد تعصت على الألسن النطق بالكلمات وعلى الأقلام الكتابة بالأحرف في رثاء رجل بقامة غازي القصيبي الذي هو بحق أمة برجل واستثناء بكل المعايير والمقاييس.

ومن هنا جاءت صعوبة الحديث عن الراحل الكبير وعن أي من المواهب التي منحها الله سبحانه له وعن أي من الألقاب يتحدث الكاتب أي كاتب عن ذلك العملاق الذي زاده الله بسطة في الجسم والعلم حتى صار استثناء لتميزه في العمل الإداري ولغزارة إنتاجه الفكري والإبداع الأدبي والمجال الإنساني.

ومن هنا فقد وفقت صحيفة الجزيرة المتجددة دائماً حينما أطلقت صفة (الاستثناء) على الراحل واصدرت كتاباً رائعاً تحت هذا المسمى تحدث من خلاله محبوه ومعارفه والذين عملوا تحت إدارته عن جوانب مضيئة في حياته سر به أيما سرور حتى وصفه بأنه أغلى عنده من جائزة (نوبل).

لقد ملأ القصيبي رحمه الله كل كرسي وظيفي جلس عليه وبكل تميز واقتدار بدءاً من كرسي عمادة كلية العلوم الإدارية بجامعة الملك سعود ومرورا بسكة الحديد فوزيراً للصناعة والكهرباء ثم وزيراً للصحة فسفيراً في البحرين وبريطانيا فوزيراً للمياه والكهرباء.

وأخيراً وزيراً لوزارة العمل والتي يبدو انه عانا منها الكثير حتى قال: (وزارة العمل تعمل على توظيف من لا يرغب في الوظيفة عند من لا يرغب في توظيفه) ورغم ذلك واجه معركته إن صح التعبير مع الطرفين الشباب ورجال الأعمال بطول بال لم يمهله القدر حتى يجني ثماره.

بل لقد قال أكثر من ذلك كما نقل لي ذلك الأستاذ حمد القاضي من خلال رسالة تلقاها من الراحل عام 1329هـ يقول في نهايتها (الحق أقول لك أيها الصديق إن كل ساعة أقضيها في هذا الموقع - يقصد وزارة العمل - تستنزف أياماً وشهوراً من حياتي لكن فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين) إنه منطق المؤمن الصادق.

لقد كان رحمه الله يحمل هم هذا الوطن بكل ما تحمله الكلمة من معنى فعمل بجد واخلاص في كل موقع أو منصب أسند إليه دون كلل أو ملل، وكان له السبق في تبني فلسفة المملكة التنموية بل كان له أولويات في كثير من الخطط التنموية مثل تأسيس الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)، المؤسسة العامة للكهرباء، تأسيس جمعية المعوقين وجمعية مكافحة التدخين.

إنه رمز النجاح بل إنه مدرسة وطنية حبذا لو يستفيد منها بعض المسؤولين، كم الوطن بحاجة ماسة إلى أمثالك يا أيها الراحل الكبير في وزاراتنا، جامعاتنا، إداراتنا، بل ومدارسنا.

الاستثناء كان يمتلك الشجاعة في الصدق مع النفس ومع الآخرين والوضوح في المبدأ الذي يعتقده. لم يكن مداهنا ولا لواذاً وكان لهذه الصراحة أن جعلت منه الرجل المسؤول الأول الذي انقسم الناس حوله وكثر المخالفين له والمعارضين بحق وبدون حق بل وحاول البعض أن يتسلق هذا الهرم الذي يمشي على رجلين دون وجه حق ولكن ما يصح إلا الصحيح فخرج من كل ما حيك حوله ووصم به ظلماً وبهتاناً جبلاً شامخاً ونخلة باسقة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

هذا غيض من فيض وقليل من كثير مما حباه الله به من عبقرية فذة في العمل الإداري والذي صار مثالاً يحتذى في كثير من قطاعات الدولة بل وصار هناك نهج ومدرسة تنسب إلى الراحل رحمه الله.

أما الجوانب الفكرية والأدبية والشعرية فلست بصدد الحديث عنها ولعل غيري أكفأ في تناول هذه الجوانب المضيئة من حياة القصيبي.

لكن ماذا عن الجوانب الإنسانية وخدمة الإسلام والمسلمين والتي قد لا يعرفها الكثير من الناس والتي أعلم علم اليقين أن الرجل لم يعملها من أجل الناس بل من أجل رب الناس فهو من أنشأ كرسي الملك فيصل للدراسات الإسلامية في جامعة جنوب كاليفورنيا.

وهو من وجه ببناء مسجد في كل مصنع حينما كان وزيراً للصناعة والكهرباء كما وجه ببناء مسجد في كل مستشفى في المملكة حينما كان وزيراً للصحة وهو الذي أمر ببناء المسجد الكبير بسكة الحديد كما ساهم بجهد كبير في إنشاء مدرسة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في البحرين كذلك في إنشاء بيت القرآن الكريم في البحرين وهو من حرص على أن يكون القرآن الكريم في متناول يد كل مريض في مستشفيات المملكة وهو الذي وجه بأن تكون الآية الكريمة: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (80) سورة الشعراء، في كل غرفة من غرف المرضى المنومين في المستشفيات.

إضافة إلى مساهماته في إنشاء جمعية البر بالرياض ومركز الكلى بدعم من سمو أمير الرياض سلمان بن عبدالعزيز.

أما الجوانب الإنسانية فأكثر من أن تحصى في مثل هذه العجالة وتكفي قصته مع المرأة التي استنجدت به ليساعدها في رؤية أبنائها الذين حرمها طليقها من رؤيتهم فمد لها يد العون المادي ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى طليقها في أحد الأحياء الشعبية بالرياض ولم يخرج منه إلا وقد تعهد الرجل بأن يمكن طليقته من رؤية أبنائها أسبوعياً موقف آخر اطلعت عليه وهو أنه وأثناء علاجه من مرضه العضال في أمريكا لم ينس أن يمسك القلم ويسطر تعزية لجدة الأولاد والدة المهندس مساعد بن علي المبارك يعزيها بوفاة أخيها السفير عبدالعزيز بن عبدالله المبارك الذي وافاه أجله المحتوم العام الماضي فأي أريحية تلك إنها اخلاق العظماء ونبل الكرماء إنه حقا رجلاً في رجال:

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام

أخيراً للراحل الكبير رؤى جريئة قابلة للتطبيق وأعتقد أنها سوف تصبح يوماً ما اساساً يعتمد عليه فهل لا يستحق منا أن نخلد ذكراه وهو الذي أفنى جل وقته وعمره في خدمة دينه ووطنه.. إنه يستحق ذلك وأكثر، رحم الله فقيد الوطن رحمة واسعة وأمطر عليه شآبيب رحمته وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

د. سليمان بن عبدالرحمن العنقري

الرياض

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد