Al Jazirah NewsPaper Saturday  04/09/2010 G Issue 13855
السبت 25 رمضان 1431   العدد  13855
 

التوقيع عن الله
بدر بن نادر المشاري

 

الفتوى تكمن مكانتها وسموها وشرفها وعظيم قدرها لأنها توقيع عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا إشكال في أن يفتي الربانيون والراسخون في العلم العارفون بأحكام الشريعة إذا سئلوا ليبينوا الحق للناس ولا يكتمونه لكِن المصيبة العظمى والبلية الكبرى أن يتصدر للفتوى من يهرف بما لا يعرف:

وكلٌ يدعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاك

فكيف يجرُؤ مسلم على أن يقول على الله بغير علم بينما لو عرضت بعض المسائل على عمر بن الخطاب لجمع لها شيوخ المهاجرين والأنصار لعظم شأن الفتوى فلا ينبغي للسائل المستفتي أن يسأل إلا بغية في العلم والمعرفة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته) فالفتوى الإبانة والإيضاح أفتى فلان فلاناً يعني أبان له وأوضح الطريقة أو المسألة وما أشكل عليه فهي التوضيح والبيان للمستفتي والسائل عن الحكم الشرعي فالمفتي موقّع عن الله لأن أول من تولاه هو رب العالمين المشرع يقول الله لمحمد رسوله -صلى الله عليه وسلم-:

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ? وقال: ?يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ) ثم تولى الإفتاء سيد المفتين رسول رب العالمين -صلى الله عليه وسلم- الذي:

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى) (4) سورة النجم

فيسأل:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ) وغيرها، وتأتي الإجابة من ربه قل قل قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم تولى الصحابة الأخيار الفتيا ومن بعدهم التابعون الأطهار ثم أهل العلم من أسلاف هذه الأمة إلى يومنا هذا من العلماء والصادقين والراسخين ومصدر الفتوى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فحفظ الدين بذلك فليس من حق أحد كائن من كان أن يقول على الله ما لا يعلم فإن قال من قال على الله بغير علم ولم يستند على دليل شرعي من كتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- أو بالإجماع والقياس بأن يرد الفرع إلى الأصل وإلا رددناه ولا قبلناه مهما علا شأنه وارتفع مكانه ومن أتى بالدليل الشرعي وعرف الإجماع والقياس قبلنا منه كائن من كان ولو كان وضيعاً ولذا يقول علي اعرف الحق بالتعرف على أهله فإن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال الذين يعرفون بالحق:

(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)، ويقول الله:

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)

والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أيضاً في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم بسند صحيح من حديث أبي هريرة ما يؤكد هذين المصدرين فقال (كتاب الله وسنتي لا يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) ولا تزال الفتوى وستظل ما بقيت الأمة أعني أنها تصدر عن العلماء العارفين بالحق بالدليل والإجماع والقياس ولا يمكن أن يخلو زمان من قائم لله بحجة يعلمُ الناس الحلال من الحرام والحق من الباطل والهدى من الضلال والبر من الفجور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهذا ما نرجوه ونتمناه ولا معارضة عليه إنما الخلل والمصيبة حينما تقوم معركة الفتوى فيتصادم المتعالمون مع النصوص والدليل وعدم معرفة الواقعة وإدراك ما تترتب عليه فتواهم وإن حسنت مقاصدهم وزكت نفوسهم لأن الفتوى تحتاج إلى معرفة الدليل ومراتب الدليل ومناطات الدليل وتحقيق المناطات وتخريج المناطات والفرق بين المحكم والمتشابه والعام والخاص والناسخ والمنسوخ ويعرف أن يرد الفرع إلى الأصل والجزء إلى الكل ويفرق بين المقيد والمطلق والمجمل والمبين ويعرف قواعد رفع الحرج ودفع الضرر والمصالح من المفاسد وصدق الله:

?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ? فكيف يجرؤ من لا يعرف هذا على التوقيع عن الله:(فمن يجرأ اليوم أن يوقع ولله المثل الأعلى عن ملك أو حاكم أو مسؤول مزوراً توقيعه أو منتحلاً شخصيته ماذا عساه سيكون له وماذا سيقول الناس عندها إن علموا به الفتوى على الله بغير علم جاءت في سياق ما حرم ربي من الكبائر والفواحش والإثم والبغي وبعد الشرك بالله مباشرة:

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، واليوم في عصر الانفتاح والإعلام وسرعان انتشار الفتوى بدأنا نسمع تلك الفتاوى الغريبة والشاذة فك سحر واختلاط وترك لجماعة المسلمين في الصلاة وأعياد الميلاد وجواز الغناء فصارت البلبلة وتسأل الناس واستهزأ المستهزؤون بعد هذه الفتاوى الغريبة والشاذة والتي كثير منها يتصادم مع النصوص القطعية وبعضها يخالف الإجماع ودواليك وللأسف أن تلك الفتوى استغلت استغلالاً كبيراً في حملة مفضوحة لترويج تلك الفتاوى الرخيصة استغلها أقوام لا يستطيعون لا بأسمائهم ولا أشكالهم ولا هيئاتهم تؤهلهم أن يقولوا تلك الفتاوى وإن قالوا بها أو حاولوا فسيجدون رفضاً واستنكاراً وعدم قبول قلباً وقالباً فكانت حملتهم لإثارة البلبلة وخدمة أهدافهم فتارة بحضور ابن شيخ أو عم شيخ أو موظف مع شيخ أو غير ذلك ليوهم الناس بشرعنة وصحة ما قاله وما أفتى أو صرح به ثم يصحب ذلك ترويجها لتلك الفتاوى وقد تكون صوتاً وصورة لمحاولة سحب البساط والثقة من رموز الأمة الراسخين لست هنا أعطي العصمة المطلقة لأحد من المفتين بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس عندنا كهنوتية ولا رهبانية ولا إضفاء صبغة الصواب المطلقة لأحد لشخص أو لمذهب أو لبلد أو لغير هؤلاء إنما أقول المفتي في أي مسألة يجب أن يكون عازماً عارفاً بالأحكام الشرعية عارفاً بالواقعة التي يسأل عنها وعنده القدرة على إنزال الحكم الذي يعلمه على الواقعة التي سئل عنها ومعرفة الأحكام يشترط أن يعرف آيات الأحكام وتفسيرها وأحاديث الأحكام وشروحها والقواعد الأصول والفقهية والمقاصدية فقد يكون الذي يُفتي يعرف الحكم لكن لا يعرف الواقعة التي سئل عنها أو يعرف الحكم ويعرف الواقعة لكن لا يستطيع إنزال الحكم على الواقعة فيحدث الخلل وينشأ الإشكال فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سئل قال له رجل متى الساعة (قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ويسأل آخر متى الساعة قال وماذا أعددت لها وهل الاستعجال في الفتوى منهج للمفتين الراسخين (الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله يسأل عن مسألة فيسكت يتأمل السائل ويكرر سؤاله وهو يقول أجبني حتى رفع رأسه الشافعي إليه وقال اسكت لأتأمل هل الفضل في سكوتي أو الفضل في إجابتي وربما قال السائل لا أجيب يقول عبدالرحمن بن أبي ليلى أدركت مئة من الصحابة يسأل الواحد منهم فيحيل على أخيه حتى تعود إلى الأول وكل منه تمنى أخاه كفاه الفتوى وعبد الله بن عمر يسأل فيقول السائل يا عبدالله أتّرث العّمة فقال اذهب إلى العلماء فقال السائل وأنت تاجهم وعلى رأس العلماء فقال عبدالله لا أدري فانصرف السائل فقبل عبدالله بن عمر يد نفسه وقال لنفسه نعم ما قال أبو عبدالرحمن فسئل عما لا يدري فقال لا أدري والشواهد في مثل هذا كثيرة، من الأئمة الأربعة بل الصحابة قبلهم وإلى وقتنا هذا -ولله الحمد- عدد من علمائنا يتورعون عن الفتيا وهم أهل لها وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبدالله بن عمرو الصحيحين (‏إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وقد اشترط الإمام أحمد أن يكون في المفتي صفات.

أولاً:- أن تكون له نية لأن الله يضفي على فتواه نوراً وبهاء تتقبلها صدور وقلوب المستفتين بمعنى أن يكون مخلصاً.

ثانياً:- أن يكون ذو علم وحلم ووقار وسكينة والعلم بالكتاب والسنة فيعرف من الكتاب المجمل والمبين والمحكم والمتشابه ومن السنة الصحيح والضعيف والصحيح لذاته والصحيح لغيره والحسن لذاته والحسن لغيره ويعرف السنة القولية والسنة الفعلية وما أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

ثالثاً:- أن يكون على علم بمواطن الإجماع حتى لا يأتي بقول يخالف الإجماع والفروع تختلف عن الأصول.

رابعاً:- عارف للقياس ويعرف أن يرد الفرع إلى الأصل والمسكوت عنه من المنطوق به والخاص من العام ويَشترط شيخ الإسلام بن تيمية أن يكون قوياً أميناً: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، وأن يعرف الفرق بين الحكم والفتوى، ويراعي المصالح والمفاسد ودرء المفاسد لجلب المصالح وقبول أدنى المفسدتين لدفع مفسدة عظيمة ويقول إمام الحرمين الحويني: «أن يكون عالماً باللغة العربية لأنها أداة من أدوات الاستنباط وهي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين وهي لغة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وغيرها فكيف يتجرأ على الفتوى ويتعارك مع كل هذه الشروط وغيرها ويفتي بغير علم ويأتي بالبلاوي تلك الفتاوى والإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن وابن ماجة في السنن والدارمي وغيرهم كلٌ من حديث أبي هريرة (من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على من أفتاه) نسأل الله العافية والسلامة مع تفريقنا بين الفتوى والقضاء، وبين الفروع والأصول والفرق بين الاجتهاد المطلق والاجتهاد المذهبي النسبي التقليد والفرق ما بين ترك الفتوى والسكوت عن الحق ولا بد أن نعي ثمة قواعد منها الاجتهاد مع النص، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ويتبع هذه القاعدة قاعدة أخرى وهي الإنكار في مسائل الخلاف فمسائل الاجتهاد قال العلماء الإنكار فيها إذا لم يرد فيها دليل من الكتاب والسنة ينص فيها على شيء وإذا نزلت نازلة واجتهد العلماء فيها فهنا لا ينكر على المجتهد في هذه المسألة وأما مسائل الخلاف فمن أهل العلم من قال لا إنكار في مسائل الخلاف وهذا ما لم يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إن هذا قول من لم يحقق والخلاف في المسائل التي فيها الخلاف ضعيف وإن خلا منه لكن خلاف في معارضة الدليل سيكون الخلاف ليس قوياً وفيه إنكار ومن القواعد الشرعية يسر الشريعة، فالدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، فاليسر حق لكن عند البعض استخدم في غير حقه يعني الإسلام يسر في الأحكام يعني أصل الأحكام الصلاة عددها ووقتها يسر، الصيام شهراً في السنة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس يسر وقس على ذلك فإن اليسر أصل من أصول الشريعة في تشريعات الشريعة كلها يسر والشريعة شملت أحكامها كل ما يحتاجه المكلف فإذا هي اليسر في نفسها وإلا كان الأحرى بالاجتهاد فإن المفتي يفتي له أن يختار له اليسر فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه ولا يجوز إلا خلاف بشيء منه ومن أجمل ما قرأت كلام ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين عن رب العالمين وما صنفه الخطيب البغدادي رحمهما الله تعالى في كتابه الفقيه والمتفقه وقد عقد أبواباً وفصولاً في صفة المفتي والمستفتي والفتوى وهي فصول ضد، والمستفتي ينبغي له أمور يجب أن يطلب الأعلم الأتقى لله ليسأل فمن شهد لهم العلماء والمؤمنون وتلقيت فتواهم بالقبول أن لا يخفى على المفتي شيئا من الحقيقة في سؤاله، أن لا يكون المستفتي له غرض وهوى في استفتائه وإنما غرضه بيان الحق وزوال الجهل والشبهة ولا يكثر من التعدد في المفتين وسؤالهم في نفس المسألة يبحث عن الرخصة إنما يبحث عن الأتقى والأعلم والمؤهل وأن يفرق بين العالم الرباني المفتي الراسخ وبين الداعية والخطيب والإمام والقارئ والواعظ مع تقديرنا لسائر إخواننا المسلمين واحترامهم ولكن أنزلوا الناس منازلهم والفتوى دين فاعرفوا عمن تأخذون دينكم.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد