Al Jazirah NewsPaper Saturday  11/09/2010 G Issue 13862
السبت 02 شوال 1431   العدد  13862
 
رحيل أمي

 

أبجدية الفقد

كتبت كثيراً عن المشاعر الإنسانية بمتناقضاتها وتعدد ألوانها.. لطالما سبرت أغوار النفس البشرية وأبحرت داخلها لأكتب عن الخوف والحب.. الغربة والطفولة.. الشوق والانتظار.. الحزن والأمل.. أحاسيس متنوعة وفياضة كتبت عنها من خلال قصة هنا.. أوخاطرة ومقالة هناك.. كنت مهموماً ولازلت بأحزان البشر وآلامهم.. لكنني اليوم أشعر وكأنني أمسك باالقلم للمرة الأولى..

إحساسي بالكتابة مختلف.. لم أكتب بقلمي أو ب(لوحة المفاتيح).. بل بقلبي ودمعي.. حزني اليوم لا يضاهيه حزن.. كيف لا وأنا أكتب عن غياب أبدي لأغلى إنسانة في الوجود..

أمي الحبيبة رحمها الله تعالى..

أمي نداء محبة بل إنها كل الحب.. أم

فإذا كتبت حروفه فاض الضياء من القلم

الأم أول كلمة رسمت على شفة وفم

والله كرم ذكرها بين القبائل والأمم

ارضِ علي لكي أرى رضوانه يا أم عم

د.مانع سعيد العتيبة
بداية الذبول

رحلة أمي مع المرض رحلة قصيرة نسبياً.. لكنها مليئة بالألم والمعاناة.. كان الشهر الأخير هو الأقسى.. الوردة الندية الجميلة.. بدأت بالذبول والنحول بشكل مخيف.. لازلت أذكر أنها كانت تكتم الآهة داخل صدرها وتغمض عينيها كي لا نشعر بها فنتألم ونحزن.. أي قلب يحمل هذا المعنى السامي سوى قلب الأم؟

كانت كشجرة باسقة تعلمنا منها معنى الصبر والعزيمة والشموخ والإصرار.. لا أنكر أني ذهلت من شجاعة أمي، وقوة تحملها وصبرها على الألم رغم قسوة المرض.. لقد أعطتنا جميعاً فناً من فنون الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره.

الغرفة 26

في يوم الجمعة دخلت أم عبدالله غرفة العناية المركزة.. لا زلت أذكر رقم الغرفة..

غرفة (26) اتجهت نحو الطبيب مسرعاً طمني يا دكتور..؟

للأسف حالتها حرجة.. ليس أمامنا سوى الانتظار وأنتم عليكم بالدعاء..

دعوت طويلا.. وبكيت كثيراً.. كنت أشعر بأني جسد بلا روح.. وأرى الناس من حولي وكأنهم أطياف غريبة.. تمر ولا أشعر بها.. كانت غرفة الانتظار في الخارج تضم رجالاً ونساء وأطفالاً.. الكل ينتظر ويترقب.. مر شريط ذكريات الطفولة من أمامي سريعاً.. رأيت بيتنا القديم وشارعنا الذي شهد كل الذكريات بحلوها ومرها، رأيت الجيران.. ومدرستي القديمة.. رأيت صديقات أم عبدالله وجاراتها اللاتي ما انقطعن عن السؤال عنها في مرضها.. رأيت وجهها وهي تبارك لي بالنجاح سنة.. بعد سنة، تذكرت قول الشاعرسعود بن بندر -رحمه الله- في بيت شعر كنت ولا زلت أعشقه مخاطباً أمه:

ياليتني بينك وبين المضره

من غزة الشوكة إلى سكرة الموت

تمر الدقائق والساعات طويلة طويلة وأمي هناك تحت رحمة المولى عز وجل..

أسدل الستار

في يوم السبت 22-9-1430 وفي تمام الساعه الرابعة وخمس دقائق من بعد صلاة العصر توقف قلبها عن النبض.

انطفأت شمعة الدار.. وأسدل الستار إيذاناً بالنهاية.. رب ارحمها كما ربتني صغيراً واجعل ما أصابها تكفيراً لها وألهمنا الصبر من عندك..

اطمئني يا أماه.. فاليوم لا أطباء ولا دواء.. ولا مسكنات ولا حقن.. ولا مواعيد ولا ألم.. بل جنة عرضها السموات والأرض..

عدنا للمنزل اتجهت مباشرة لغرفة أمي.. قبلت فراشها وثوبها وسريرها.. ودعت المكان الذي ضم أغلى جسد وأطهر قلب.. ودعوت لها بالمغفرة..

دمعة في صباح العيد

جاء العيد يا أمي.. وأنا هنا وحدي..

أنتظرك كما تعودت لنذهب سوياً لمصلى العيد.. لأقول لك صباح الخير يا ست الحبايب وعيدك مبارك.. بحثت عنك كي أقبل رأسك ويديك وأثني على ثوب العيد الذي ترتدين.. كي نتناول القهوة وحلوى العيد سوياً..

لكني ما وجدت سوى سراب..

لا أنام يا أمي.. لا أنام..

أشعر بالوحدة والخوف.. أمواج الحنين تزلزل قلبي وروحي.. أشعر بأني في خريف العمر

لا ! بل كطفل صغير يبحث عن حضن أمه ليشعر بالأمان والطمأنينة.. في داخلي بركان دفين من الأسى.. كنت أصرخ.. لكني أتظاهر بالقوة وألتزم الصمت.. ذات إبداع قالت أحلام مستغانمي:(أحسد المآذن وأحسد الأطفال الرضع لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه.. قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية.. وتعلمهم الصمت).. !

يعيدني العيد إلى سيرتي الأولى طفولتي البريئة طفولتي الحبلى بالنقاء والعفوية.. والانطلاق اللا متناهي نحو كل ما يبهج.. كنا نتسابق للفوز بقطعة حلوى من يدها.. كنا نشتهي الحلوى لأنها من يد ست الحبايب.

انتظرت طويلاً.. طويلاً..

مل مني الانتظار..

ولم تأت أمي..

رسائل العيد..

أرسل الأحباب تهاني العيد.. أتراها بطاقات عزاء ومواساة غلفت بعبارات منمقة وجميلة..؟

أرسلوها وقد علموا ما بقلبي من وحشة وحنين إلى حضنك الدافئ وقلبك الشفاف.. أرسلوها وقد علموا أن كل شيء بعدك لا طعم له ولا معنى..

فما العيد بعدك سوى مظاهر كاذبة وابتسامات مصطنعة..

اليوم مر أسبوع على الغياب.. لا أصدق أني لن أراك ثانية.. قلبي وعقلي لم يستوعبا ما حدث، من قال إن أمي ماتت؟

لقد رحلت بجسدها وروحها لكن ذكراها العطرة باقية في قلوبنا جميعاً

لكنه أمر الله.. والحمد لله على كل حال...

ورسائلي إليها

اللهم ثبتها واغفر لها وارحمها كما ربتني صغيراً.. واعف عنها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد ونقها من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس.. لقد رحلت وأنت راضية عنا جميعاً وهذه نعمة عظيمة من الخالق سبحانه فلله الفضل والمنة.

إلى والدي العزيز

اللهم ألهم والدي الصبر والسلوان.. إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.. فلتصبر وتحتسب يا أبي فلقد كنت نعم الزوج.. ولا زلت نعم الأب الذي نفتخر به ونعزه ونحترمه فيا رب وفقنا للبر به إنك سميع مجيب. اللهم ألهم إخوتي وأخواتي, جميعاً الصبر والاحتساب.. ولن ننسى والدتنا غفر الله لها من الصدقة والدعاء بإذن الله تعالى.

رحمك الله تعالى يا أم عبدالله..

ورحم الله جميع موتى المسلمين..

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

خالد محمد المشوح


khalimo7@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد