Al Jazirah NewsPaper Saturday  11/09/2010 G Issue 13862
السبت 02 شوال 1431   العدد  13862
 

لنبعثهم من أجداث النسيان

 

بعدما فرغنا من أداء صلاة العصر في مسجد « الفقيه « بحي العزيزية في مكة المكرمة، تلفتت أعيننا يمنة ويسرة ؛ لتجول في وجوه المصلين ؛ لعلها أن ترى ذلك الرجل الوقور، الذي أظمانا التلهف لرؤية محياه، بعدما ارتوت أسماعنا بالأحاديث التي تروى عنه، وعن سعة علمه وثقافته.

انقلبت الأعين حسيرة؛ حيث لم تُمكنها فراستها من تمييز ذلك الوجه من بين وجوه المصلين، واستقرت هادئة ؛ لتستعيد قواها بعد أن أضناها التحديق، وأظماها التشويق، ثم عادت « والعَودُ أحمدُ « لعمليات البحث في معالم تلك الوجوه؛ راجية أن تحظى بحدسٍ صادق، يهديها إلى الكشف عن وجه صاحبها، الذي تاقت إلى رؤيته.

اهتدى أحدنا - وكنا ثلاثة - إلى رجل كبير في السن، ودارت شكوكه «الطيّبة « حوله، فأشار إليّ صاحبي : أن ألتفت إلى الوراء، فالتفتُّ فرأيت شيخًا كبيرًا في السن، تشرق من محياه البساطة، وتتلألأ في عينيه المعرفة والخبرة، اللتان ورثهما من خوض الحياة وتجاربها.

لم يبق لنا إلا أن نسأل مَنْ بجوارنا من المصلين ؛ حتى نتأكد من صدق حدسنا أو من عدمه.

سلمنا على رجل - أظنه من الإخوة السوريين -، وسألناه : هل يصلي في هذا المسجد الشيخ سعيد الطنطاوي أخو الشيخ علي الطنطاوي ؟ فقال : نعم، إنه الشيخ الكبير الذي يجلس في الخلف. عندئذٍ انتصر ظني وظنُّ صاحبي، وبدّدا فلول الظنون المريبة.

وكان من حسن حظنا أن هذا الرجل هو الذي يأتي بالشيخ إلى المسجد، ويذهب به إلى البيت.

فسألناه: وهل الشيخ يستقبل أحدًا في هذا الوقت؟ فعلم برغبتنا في الجلوس مع الشيخ، وقال: أتوقع ذلك، ثم قال: إذا خرجتُ به الآن من المسجد، فتعالوا إليه، وسلموا عليه، ثم أخبروه بأسمائكم - كاملة -؛ فهو يُعجبه ذلك، ويُسر بمعرفة أسماء من يُسلمون عليه، ثم اطلبوا منه الجلوس معه، وسيرحّب بكم إن سمح وقته بذلك.

انتظرنا حتى خرجا من المسجد، ثم سلمنا على الشيخ، ونفذنا وصية صاحبنا، فأخذ الشيخ يسألنا عن أحوالنا ونحن نجيبه، وبعد أن طلبنا من الشيخ الجلوس معه وقتاً يسيرًا حيّانا ورحّب بنا، فصحبناه إلى السيارة التي تقِله، فلما أن وصلنا إليها - وكان شيخنا يتهادى بين اثنين - أوقفناه عند الباب الأمامي للسيارة؛ لكي يركب، فرفض وأصرّ على أحدنا أن يركبَ في الأمام، ويركبَ هو في الخلف، ومع إصرار شيخنا ورفض رفيقنا تدخّل صاحب السيارة « وهو صاحبنا في المسجد « لفضّ النزاع، وطلب من رفيقنا الركوب في الأمام قائلاً: إن الشيخ إذا طلب أمرًا فلا يُمكن أن يتراجع عنه، ثم أردف يقول: إن صنيعه هذا من إجلاله لضيوفه، واحتفائه بهم.

ولما دخلنا منزل الشيخ بل غرفته ألفيناها خالية إلا من خمسة كراسي وطاولتين ورفوف للكتب، ورأينا بعض الكتب مصفوفة بجانب كرسيه الذي يجلس عليه.

وكأن في هذا المنظر إيحاءً لنا بوفاء الشيخ لهذه الكتب التي صحبها منذ ريعان شبابه، ولم ينسَها في زمن شيخوخته، وإِشارة لنا بجفاء الناس له، وتناسيهم إياه حينما بلغ هذا العمر كما تناسوا أخاه من قبل، وتسلل عبر نافذة ذهني آنذاك قول أحمد شوقي:

أنا من بدّل بالكتْب الصحابا

لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا

أخذ كلٌّ منا مقعده في ذلك المجلس، ثم أقلعنا في رحلة ماتعة مع الشيخ عبر الأدب والتاريخ وسِيَر الرجال، وقد زادها متعة صوته المُتهدِّج الذي يُمَوسِق لنا أطراف الأحاديث، فطربت أسماعنا، وانتعشت نفوسنا.

وقد أنِسنا بممازحة الشيخ لنا، وعجبنا من سرعة بديهته في أثناء حديثه معنا، وقوة استحضاره للشواهد - زاده الله من فضله وأسبغ عليه الصحة والعافية - ،كما تعجبنا كثيرًا من نكرانه للذات ؛ فلطالما أجاد فنّ الهروب في سبل الكلام عندما نسأله : هل لديك مؤلفات كتبتها؟ ولم نكن نعلم رأيه في ذلك، فهو لا يرى تأليف الكتب؛ لأنه أقلّ شأنًا من التأليف - حسب رأيه -!!

توالت ساعات العشيّة، وتصرمت لحظات ذاك اللقاء الماتع بذلك الشيخ الجليل، فآثرنا الانصراف؛ لا رغبة عنه وعن الحديث معه؛ بل رغبة في عدم الإثقال عليه، وبعد أن طلبنا الإذن منه لنا بالخروج، أصرّ على مرافقتنا إلى الباب مشيِّعًا ومودّعًا.

الشيخ سعيد الطنطاوي ذو تاريخ عريق في العلم تعلمًا وتعليمًا، وقد مكث في هذه البلاد المباركة زمنًا طويلاً - ولا يزال -، وهو وأمثاله رجالٌ شاخت أعمارهم، ولكنّ هممهم ما زالت شابّة فتيّة، وما برحت عزائمهم تتقد حيوية ونشاطاً - فبارك الله في أعمارهم وأعمالهم- .

ما أجملَ أن يلتقي حُدثاء السنّ وفقراء المعرفة والتجربة أمثالي بالرجال الكبراء سنّاً وعلمًا وتجربة ؛ ليصقلوا جوهر نفوسهم، وينفوا عنها دَرَنَ الاعتداد بالذات والتعالي على الآخرين، أو يُثقفوا أسنّة كفاحهم لمصاولة نُوَب الزمان، أو يبعثوا مَوات هممهم، وينفخوا فيها روح الحياة من جديد.

نحن - أهلَ هذا الزمان - يستحوذ الجفاء على الكثير من علائقنا بالآخرين - إلا من رحم ربي -؛ فكم من عظماء وأدْنا سِيَرهم، ودفنّا حقوقهم قبل أن ندفن أجسادهم، ثم تجدنا نسير خلفهم مُوَلولين ومودّعين إذا ركبوا ظعائن الموت.

يستحق هؤلاء الأعلام أن نتوافد عليهم توافدَ العِطاش إلى المورد العذب، ونستحق نحن أن ننهل من منهل معارفهم وعلومهم وتجاربهم قبل أن تنضب حياتهم.

** بيت القصيد

للشاعر حامد حسن:

وتبقى ذروة القمم العذارى

محرمة على الهمم الكسالى

فهد بن علي العبودي - الدلم -

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد