Al Jazirah NewsPaper Sunday  19/09/2010 G Issue 13870
الأحد 10 شوال 1431   العدد  13870
 
الشعر النبطي.. بين الجمال والخلود 2/2

 

تحدثت في الجزء الأول من هذا الحديث في ظاهرة التفاخر الفج بالشاعرية التي تظهر في بعض المنابر الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة, وحاولت أن أفند وأحلل بعض أسبابها وبواعثها.. وفي هذا الجزء سأتطرق لقضية أخرى ليست ببعيدة عن القضية الأولى, بل إنها تمثل امتداداً لها وتطوراً يتجاوز ال(أنا) الفردية إلى ال(أنا) الجماعية, ولا أقصد بهذه ال(أنا) الجماعية: (نحن).. وبصورة أوضح سأتطرق إلى مسألة الإبداع والأفضلية بين شعراء اليوم وشعراء الأمس.

قبل سنوات صرح الشاعر الساحر ضيدان بن قضعان في مقابلة متلفزة أنّ (شعر ابن لعبون ومحمد السديري وابن سبيل لا يُعَد إبداعاً, وأنهم لو عاشوا في وقتنا هذا لم يكن لهم أي شيء يذكر, وأنه لو عُرض عليه جميع دواوينهم مقابل قصيدة لنايف صقر أو فهد عافت لاختار القصيدة وترك الشعراء العمالقة..) وضيدان بالطبع لا يقصد ابن لعبون والسديري وابن سبيّل لذواتهم, بل ذكرهم على أنهم نماذج لفحول الشعراء السابقين, وابن لعبون عاش في النصف الأول من القرن الثالث عشر, وابن سبيّل في النصف الأول من القرن الرابع عشر, والسديري في النصف الثاني من القرن الرابع عشر..

وفكرة ضيدان هذه مختلفة عن حالة (أنا أشعر الناس) التي تحدثنا فيها في الجزء الأول من حيث الشكل, لكنها قريبة منها من حيث المحتوى. وهي وإن كانت فكرة صادمة غير مقبولة بدليل ما أعقب التصريح بها من ردود فعل غاضبة من كافة شرائح المجتمع تعبر عن استهجانها, إلا أنها - كما أراها - تناقش فكرة جديرة بالتأمل, ولا أظنها تنساق في تصنيف الإثارة لمجرّد الإثارة والفرقعة الإعلامية وحدها، وإن كانت لا تخلو من ذلك كعادة كثير من شعراء هذا الزمان في لقاءاتهم المتلفزة.

ولنتجاوز الإثارة والبحث في الغاية من طرحها إلى مناقشتها بتجرّد بعيداً عن المؤثرات الخارجية.

وملخص الفكرة أنّ شعراء هذا الزمان - بمن فيهم ضيدان طبعاً - أكثر إبداعاً وشاعرية من السابقين. فقصيدة لنايف صقر - حسب رأي ضيدان - تفوق ديوان ابن سبيّل بأكمله! وأظن أنّ هذا ليس رأي ضيدان وحده بل هناك من يوافقه فيه.. لكن هل هو صحيح؟ أم لا؟ هذا هو السؤال كما يقولون..

لا مراء في أنّ الشعر النبطي - كغيره من مظاهر الحياة - تطوّر وازدهر ازدهاراً هائلاً خلال العقدين الماضيين تحديداً, لأسباب متعددة, من أهمها الانتشار الإعلامي الكاسح الذي أحاط بالناس إحاطة الهواء, وكذلك الترف والارتياح المعيشي, والتفاعل مع كافة المعطيات التي شملتها روح النمو والتطور والازدهار, والشعر ابن بيئته, فهو صوت الشاعر وروحه وثقافته وفكره. ولم يقتصر تطور الشعر النبطي على الصور, وإن كانت معطيات العصر وأهمها الانفتاح على ثقافة الآخر, قد فتحت أمام الشعراء كونًا فسيحاً من الإبداع في رسم الصور لم يكن متاحاً للسابقين, وأتاحت لهم مجالات أرحب من مجالات السابقين المحدودة بالمكان والحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ بل شمل المفردات والمعاني وتقنيات الصياغة, والتأثيرات الروحية والنفسية, فجاء المبدعون بما لم يأت به السابقون, وهذا ما أظنه جعل ضيدان يقول ما قال..

والتطور سنّة من سنن الحياة, فليس السابق كاللاحق, لكن هذا لا يعني أن من اخترع الكمبيوتر - مثلاً - اليوم أعلى إنسانية وذكاء من كل من سبقوه أو أنه (سوبر إنسان), فكل إنجازات البشر عبر التاريخ تمت بفعل جهود تراكمية, أسهم فيها السابقون إسهاماً أتاح للاحقين فرصة مواصلة البحث والمثابرة فيها حتى تحقق ما نراه اليوم من منجزات حضارية خدمت البشر, وجعلت الحياة مريحة ميسورة.

والإبداع في الإنجاز لا يعني بالضرورة تفوق المنجِز على سابقيه, والحديث في الحدث الفكري يختلف بالطبع عن الحدث الأدبي, لكنه لا يختلف عنه في المبدع سواء أكان عالماً أم أديباً, فالله خلق البشر متساوين في الاستعدادات, لكنه تساوي الأجيال لا تساوي الأفراد, أي ليس المتأخرون بأذكى من المتقدمين ولا العكس. وإذا سلمنا - جدلاً - بأنّ إنتاج المتأخرين الذي وصفناه في بداية هذا الحديث بأنه تطور وازدهر, أفضل من حيث الشكل والمحتوى, فإن هذه الأفضلية ولدتها سنّة التطور لا شخصية الشاعر, وإذا كان هذا ما يعنيه ضيدان ومن يرى رأيه فإن هناك قضية أخرى أهم, وهي من الذي يملك حق تقرير الحكم الفصل في الأفضلية بين القديم والجديد؟ هل هو الرأي الانطباعي وحده؟ إذا كان هذا هو الفيصل فإن من يرى أفضلية الجديد لا يُقارن من حيث العدد بمن يرى العكس, وهذا يشهد به الواقع, حتى ولو كان الحكم انطباعياً لا علمياً.

وأنا أعتقد جازماً أن هذا غير صحيح, والصحيح أن الحكم الفصل الذي يرتضيه الجميع هو الزمن, أي الصراع من أجل البقاء, فالشعر الذي يستطيع البقاء عبر الزمن هو الأفضل, وهذا هو ما يمكن تسميته ب(خلود الشعر), والشعر الخالد أفضل من الشعر الجميل بلا شك, لأن كل خالد جميل ولا عكس.

ولو طرحنا سؤالاً مباشراً يقول: أيهما أكثر خلوداً؟ أشعر ابن لعبون وابن سبيل والسديري أم شعر فهد عافت ونايف صقر وضيدان بن قضعان؟ وأنا هنا ألتزم بنفس الأسماء التي أوردها ضيدان تحديداً, أظن أنّ الجواب الحاسم سيكون في صالح المتقدمين, والدليل أنّ الناس لا تزال تردد شعر أولئك الفحول, مع أنه مر على بعضه عقود وبعضه الآخر قرون من الزمن, ولا تردد شعر المتأخرين مع أنه حديث العهد لا يكاد يتجاوز العقد أو العقدين.

إن من أبرز مقومات الشعر الخالد نزعته الإنسانية العامة, ولا تكاد تجد في الشعر المتأخر ما يتصف بهذه الصفة إلا القليل النادر, والنزعة الإنسانية وحدها لا تكفي - في تصوري - للخلود, بل لا بد أن يعضدها جمال في الصياغة لفظاً ومعنى وأسلوباً.

والنفس البشرية وإن أغراها (عالم الديجيتال) إلا أن ما يمت إلى الفطرة والطبيعة الأصيلة أكثر تأثيراً في نفوسها وأعمق, خصوصاً في مسائل الجمال, ولنا في الشعر الفصيح قديمه وحديثه خير شاهد, والشعر هو الشعر وإن اختلفت لغته. لقد خدع جمال الشعر من رأى تفوق الشعر الحديث على القديم, وأنساه ما هو أعظم من الجمال وهو الخلود!

وهناك قضية أخرى أود أن أشير إليها وهي قضية ارتباط الأدب بالنقد, فهل كل شاعر مبدع يستطيع أن يقدم أحكاماً نقدية صحيحة؟ أظن أن المسألة مسألة اختصاص وطرح مقنع وليس ادعاءات عريضة يلقيها مبدع له باع طويل وحضور إعلامي ضخم.

وإذا كان الأدب كله يعتمد على الذوق, فإن الأذواق وإن اختلفت إلا أن اختلافها يكون على المتغير ولا يتعرّض للثابت, والثابت في هذه القضية أن شعر ابن سبيل أكثر خلوداً من شعر معظم شعراء العصر الحديث. وأقول ما قاله الجاحظ عن النظّام: إنه إذا صح أنه يولد في كل ألف عام عظيم واحد, فإن عظيم الشعر في الألفية الحالية هو ابن سبيل!

ليتك يا ضيدان لم تمثل بزعيم الرومنسية الصحراوية, أعظم شعراء الغزل في الشعر النبطي بلا تحفظ المرحوم عبدالله ابن سبيّل! وهذا ليس حكماً انطباعياً, بل حقيقة قررتها أحكام الشعر الخالد.

عبدالعزيز القاضي


Alkadi61@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد