Saturday  02/10/2010 Issue 13883

السبت 23 شوال 1431  العدد  13883

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا     نسخة تجريبية
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

دوليات

 

الطب النفسي وإهماله الوظيفي المفاهيمي
جيروم واكفيلد

رجوع

 

إن التغييرات التي اقترحت جمعية الطب النفسي الأميركية مؤخراً إدخالها على دليلها التشخيصي الرسمي - الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM)، والذي كثيراً ما يطلق عليه «إنجيل الطب النفسي» - قد تؤدي إلى التشكيك في مصداقية تشخيص الأمراض النفسية وليس إلى تحسينه. إن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية يحدد الأعراض التي يتم من خلالها تشخيص كل خلل عقلي، وهو في واقع الأمر يحدد ما نستطيع أن نعتبره طبيعياً أو غير طبيعي نفسياً في الولايات المتحدة - وعلى نحو متزايد في بقية أنحاء العالم أيضاً.

إن تنقيح معايير التشخيص في الطبعة الخامسة القادمة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5) يُعَد بمثابة مسؤولية ثقيلة. ذلك أن رسم خط فاصل بين الحالة الطبيعية والخلل على نحو أوسع مما ينبغي من شأنه أن يؤدي إلى تشخيصات غير صحيحة للحالات التي يعاني منها الأفراد وأن يخضعهم لعلاج غير ضروري ومن المحتمل أن يكون ضارا. والواقع أن تاريخ الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية يكشف عن العديد من الأخطاء الناتجة عن الإفراط في الشمولية والتعميم.

وإذا تم رسم الخط الفاصل على نحو أضيق مما ينبغي فقد لا يحصل الأفراد على المساعدة الضرورية. ورغم أن أطباء النفس يميلون إلى الانشغال بالتعرف على المرضى المحتملين الذين يحتاجون إلى المساعدة أكثر من انشغالهم باستبعاد حالات الانحراف أو الحزن أو الضيق الطبيعية من التشخيص، فمن الأهمية بمكان في أي مجتمع يحترم الاختلاف الإنساني ويشجع المسؤولية الأخلاقية الفردية أن يميز بين المعاناة الطبيعية والانحراف وبين الخلل العقلي. وهذه قضايا بالغة الحساسية فيما يتصل بالتحليل المفاهيمي.

ورغم ذلك فإن أطباء النفس الذين صاغوا التغييرات المقترح إدخالها على الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية غير مدربين على التحليل المفاهيمي، ورغم تحذيرهم مسبقاً بما فيه الكفاية فقد تعاملوا مع قضية «الطبيعي في مقابل المختل» بأسلوب ظرفي وغير نظامي. وكانت النتيجة شكلا من أشكال الإهمال الوظيفي المفاهيمي: الإهمال الفكري الناتج عن صياغة معايير تشخيصية غير صالحة ومن شأنها أن تؤدي إلى إساءة تشخيص الأفراد الطبيعيين وتصنيفهم كمختلين. ولنتأمل هنا بعض الاضطرابات المقترحة الجديدة:

(1) خلل تناول الطعام بنهم: إذا أفرطت في تناول الطعام مرة في الأسبوع إلى ثلاث مرات في الشهر، ولم تنجح في ضبط نفسك وعانيت من الامتلاء بعد ذلك فنال منك الضيق والحرج والاشمئزاز من نفسك، فسوف يتم تشخيصك كمريض مختل. وهذا يعني أن الأشخاص الذين يشعرون بالضيق لعدم تحكمهم بشكل كامل فيما يتناولونه من طعام حين يجدون أنفسهم في مواجهة بوفيه في عطلة نهاية الأسبوع، يعانون من خلل ما.

(2) خلل تخزين الأشياء إذا قاومت فكرة التخلص من المقتنيات التي يرى آخرون (الزوجة أو الطبيب على سبيل المثال) أنها ذات قيمة محدودة وبالتالي فإنها تجعل المساحة التي تعيش فيها مشوشة وغير مرتبة بلا ضرورة، فشعرت بالضيق إزاء ذلك، فهذا يعني أنك تعاني من خلل ما. ولا شك أن هذه الفئة سوف تكون موضع ترحيب المهووسين الترتيب والنظام والذي يشعرون بالانزعاج إزاء أنماط الاقتناء.

(3) خلل فرط النشاط الجنسي: إذا كنت نشطاً جنسياً لمدة ستة أشهر على نحو خارج عن السيطرة وبالتالي مسبب للضيق، وإن كنت تلجأ إلى الجنس للتخفيف من مشاعر الضيق أو الملل من دون مراعاة للتأثير العاطفي الذي يخلفه ذلك على الآخرين، فهذا يعني أنك مصاب بخلل ما. وهذا الخلل يفترض أن اللجوء إلى الجنس للتخفيف من الحزن، ثم الشعور بالذنب إزاء ذلك، يُعَد أيضاً نوعاً من الخلل.

وهناك تغييرات أخرى يقترح إدخالها على الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية من شأنها أن تفتح الباب أمام أشكال أخرى من إساءة التشخيص في المستقبل. فسوف توضع «المقامرة المرضية» في فئة عظمى جديدة من «الإدمان السلوكي»، الأمر الذي يمهد الطريق أمام «إدمان الإنترنت» واعتبار العديد من السلوكيات الأخرى إدماناً مرضيا.

وعلى نحو مماثل، فإن التفكير بشكل غير دقيق أو يتسم بالغرابة، والذي لا يُعَد الآن خللاً ولكنه يشير إلى ارتفاع خطر الإصابة بخلل ذهاني، فسوف يصنف باعتباره «خلل الخطر الذهاني». وهؤلاء الذين يتم تشخيصهم بالإصابة بهذه الحالة فمن المرجح أن يتم علاجهم بعقاقير مخدرة قوية، رغم أن أغلبهم لا يصابون بخلل ذهاني أبدا وهو ما يشكل سابقة للخلط بين عوامل الخطر والخلل الفعلي.

وهناك تغييرات أخرى تعمل على تقويض صحة الفئات القائمة. على سبيل المثال، يميز الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية حالياً بين الاعتماد على العقاقير المخدرة - وهو في الأساس إدمان (نوع من الخلل) وبين إساءة استخدام العقاقير المخدرة، وهو ما يشكل فئة أضعف تشتمل على معايير مشكوك فيها مثل القيادة تحت تأثير الخمر أو المجادلة مع الآخرين بشأن استخدام العقاقير المخدرة. وتقترح الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية إزالة الفئة الضعيفة «إساءة الاستخدام»، على ألا يتم ذلك إلا من خلال الجمع بين معايير خاطئة وبين معايير الاعتماد الحالية بحيث يشكل هذا المزج في النهاية فئة موحدة من «خلل استخدام العقاقير المخدرة»، ويقلل عدد الأعراض المطلوبة للتشخيص من ثلاثة إلى اثنين.

ونتيجة لهذا فإن الاعتماد على العقاقير المخدرة سوف يختفي بوصفه فئة صالحة. وطبقاً لهذا الاقتراح فإذا تصادق أنك قدت سيارتك إلى البيت بعد حضورك لحفل ما ثم تجادلت مع زوجتك على سبيل المثال بشأن ذلك الأمر في وقت لاحق، فهذا يعني أنك تعاني من خلل إساءة استخدام الكحول. وهذا الخواء الناتج في فئة إساءة الاستخدام من شأنه الآن أن يؤثر على فئة الاعتماد. وهناك مثال ثان: كان من المعروف منذ القدم أن الشخص الطبيعي الذي عانى مؤخراً من خسارة كبيرة - وخاصة إذا فقد أحد أحبائه - قد يبدي نفس الأعراض التي يبديها هؤلاء الذين يعانون من خلل اكتئابي (الحزن، والأرق، والإرهاق، وفقدان الاهتمام بالأنشطة المعتادة، وفقدان الشهية للطعام). وعلى هذا فإن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية يستبعد حالياً المكلومين (المكلوم من فقد شخصاً عزيزا) حديثاً من تشخيص الاكتئاب ما لم يظهروا أعراضاً معينة متطرفة تشير إلى ما هو أعظم من الحزن الشديد.

إن كل الفئات المذكورة بأعلاه تشتمل على بعض الاضطرابات الحقيقية. والمشكلة هي أن المعايير ممتدة على نطاق واسع إلى الحد الذي يجعلها تنظر في الأغلب إلى غير المضطرب باعتباره مرضاً. والواقع أن الأشخاص الطبيعيين كثيراً ما يحتاجون بل ويستحقون المساعدة، ولكن من الأهمية بمكان ألا ينحرف القرار المتصل بنوع المساعدة بفعل إطلاق مسميات غير صحيحة على الحالات واعتبارها من أشكال الخلل العقلي.

لقد تم تطوير نظام التشخيص الحالي القائم على الأعراض في الأصل كجزء من الرد على الانتقادات التي زعمت أن الطب النفسي ليس أكثر من وسيلة للتحكم الاجتماعي في سلوكيات غير مرغوبة وإضفاء صفة الطب على الأمر برمته. ولكن بسبب الفشل في التمييز الكافي بين الضيق الطبيعي والانحراف وبين الخلل، فإن مقترحات الطبعة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية تهدد بإحداث زيادة هائلة في أنماط إساءة التشخيص التي تم تصميم الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية في الأساس لمنعها. وبهذا فقد نشهد قريباً حركات أخرى مناهضة للطب النفسي.

(*) جيروم واكفيلد أستاذ العمل الاجتماعي وأستاذ الطب النفسي بجامعة نيويورك.خاص (الجزيرة)

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة