Saturday  06/11/2010 Issue 13918

السبت 29 ذو القعدة 1431  العدد  13918

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

           

أسلفت الميزان الأول عن الفتنة التي دبَّرها الكائدون للإسلام وفيها اجتهاد من بعضهم غير صحيح، وهو على أسوإ تقدير معصية غير مخرجة من الملة، ولا قادحة في الإمامة، وليست الإمامة للأفضل عن اختيار من أصول الشريعة ما دامت الغلبة لإمام مسلم، وههنا أذكر الميزان الثاني، وهو أن معاوية رضي الله عنه أخذ الأمر غلبة بعد استشهاد الخليفة الأوْلى عليٍّ رضي الله عنه، وما تنازل الحسن رضي الله عنه إلا للإبقاء على المسلمين الذين لا قِبل لهم بمعاوية رضي الله عنه وجنوده وأمرائه؛ فكان حكم الشرع وجوب مبايعته وإن كان مفضولاً، وحرمة الخروج عليه ما لم يكن كُفرٌ بواح، وأسلفتُ الخبر الشرعي أن ملكه ملك رحمة، والمعادلة بين المصالح والمفاسد من شريعة الله سبحانه، وكان معاوية رضي الله عنه - مع قصوره عن سيرة الخلافة الراشدة - كُفْأً لمواجهة الفتن الداخلية وإطفائها، ولم يشغله ذلك عن الفتوح، والقيام بِعِوَز الرعية.. والأمة التي بايعته ورضيته خير منا، وخير من كل مماحك يدَّعي النزاهة، وأما أهل البدع فلا كرامة لهم.. وما حصل من الاستبداد هو من طبيعة الملوك، وليس أمراً مشروعاً، ولكنْ لما كان هذا الاستبداد خادماً لاستقرار الأمة ووحدتها في خليط من الشعوب غير مؤتمنين، بل هم كائدون: كان ذلك محتملاً بتقديم المصلحة الكبرى، ودفع المفسدة الكبرى.. وتأخير الصلاة عن وقتها المضيَّق معصية غير مفسدة للصلاة ما بقي الوقت الموسَّع، وهذا يحصل أحياناً؛ فأمَرَ الله المسلمين بالصلاة في وقتها فريضةً، والصلاة معهم نافلة، ويحاسبهم الله سبحانه وتعالى على التأخير برحمته وعدله في الموازنة بين أعمالهم.

وأما أن المسلمين ورثوا ديار الأمم غير المسلمة فهذا حق، ولم يأخذوا بيوتهم وزروعهم وأموالهم، وإنما أخذوا منها بقانون شرعي مقابل حمايتهم وإبقاء الكتابي على دينه، وتكفُّلهم بالإنفاق عليهم إذا عجزوا، وأما الوثني فلا يقبل منه إلا الإسلام.. وهذه شريعة الرسل عليهم الصلاة والسلام كافة، ومن نماذجهم موسى عليه السلام لما نجاه الله وقومه من فرعون فرض عليه الجهاد لنشر الدين والاستيلاء على بلاد الكفر، وخلفه في الجهاد من جاء بعده.. هذا موجود في كتبهم، وجاء الخبر في ديننا بمثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ{20} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ{21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{22} قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{23} قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{26} (المائدة)، وقال سبحانه على سبيل العموم وإن كان السياق عن موسى عليه السلام: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ{6} (القصص)، وانتشار دين الإسلام كان رحمة للبشرية لا استئصالاً لها كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14} (سورة يونس)، ودين الله لهداية البشرية وإسعادها، وإزالة الظلم والكفر، والحكم على وجه الأرض بشرع الله؛ فمحمدعلى شرع من قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام في نشر المِلَّة، ومن عناصر الشبهة الثانية أن المسلمين فتحوا البلدان وحكموها قهراً؛ فأما القهر فليس على إطلاقه؛ لأن تلك البلاد أولاً محكومة بالقهر من الفرس والروم وغيرهما من الذين قهروا البلدان، ومنهم من قهرها باسم إبلاغ الشرع وما أبلغوه وما عدلوا؛ وما داموا أخذوا تلك البلدان باسم شريعة دخلها تحريف وتبديل فقد أنزل الله ديناً ناسخاً للشرائع، معيداً ومذكِّراً بملَّة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي ملة واحدة.. وأما عبدة النار وأهل الوثنية من المجوس فحكمهم للبشرية عذاب لهم، ومحاربة لهم، وأهل الكتاب باسم الدين كما يجب أن يكون لا يرضون حكم البشرية من قِبل الوثنيين.. والقهر ليس على إطلاقه أيضاً؛ لأن أفواجاً من الأمم المغلوبة دخلوا في دين الله صادقين راضين محبورين، وانضموا إلى المسلمين في الجهاد وتحمُّل العلم ونشره.. والقهر ليس على إطلاقه أيضاً؛ لأن قوماً عاشوا في بيوتهم وبلدانهم ومزارعهم على دينهم، وهم أهل ذمة؛ فكانوا أيضاً محبورين راضين بحكم المسلمين الذين ضمنوا لهم حق المواطنة والحماية؛ ولشرف الدين المهيمن الناسخ للأديان الآتي من الله حقاً كان الفضل لهذا الدين وأهله؛ فلا يُقتل المسلم بالذمِّي قِصاصاً، ولكن لم يُهدر اللهُ حقَّه؛ فيجوز شرعاً قتل قاتل الذمي بغير حق تعزيراً لا قصاصاً؛ لأن ذمة الله لا تُخفر.. وليس القهر على إطلاقه؛ لأن قوماً أظهروا الإسلام كذباً وكادوا له في الباطن، وما استطاعوا الكيد إلا في ظل سماحة الإسلام وعدم تفتيشه عن السرائر.. وفي حال الضعف والتقصير من بعض حكام المسلمين مارسوا مجونهم، ولم يُعاقَب مَن عُلم منهم الزندقة إلا بزندقته، وكان مجونهم مرفوضاً عند المسلمين، وكان الحكام ملومين بالتغاضي عن معصيةٍ كشرب الخمر، وربما كان من ضعفائهم من شربها، ولم يكن هذا استباحة، ولم يكن مجاهرة، ولكن عَلِمه المسلمون بالتحري، ومما ظهر من شعر أهل المجون؛ ولما كان عَلَنُ المسلمين معصوماً لم يظهر مجاهرة علناً ولا استباحة، وغيَّر العلماء المنكر حسب الاستطاعة، وبمقتضى الموازنة بين المصالح والمفاسد، وأظهرت كتُبهم وتواريخُهم أحوالَ أولئك، وأسقطوا العدالة عمن يستحق ذلك، وهذه الرخاوة من مظاهر الضعف في تاريخ العصاة من المسلمين، وما كان إلا بتسويل من أبناء الشعوب الكائدين لأمتنا، وقد استفحل هذا النقص في عهد بني العباس الذين هم صحوة الموت.. ووجد ذلك قليلاً في عهد بني أمية، وبعض هذا القليل لا يحقِّقه التوثيق؛ وإنما عندهم تقصير آخر وزنه العلماء بميزانين: الأول إعلان هذا النقص واستنكاره كما في قول الإمام عبدالله بن المبارك - رحمه الله تعالى - بعد انقضاء خلافتهم:

وَهَى مِن أُميَّة بُنيانُها

فهان على الله فُقدانُها

فلا آل حربٍ أطاعوا الإله

ولم يَتَّق الله مروانُها

لقد أرتع القومُ في جيفةٍ

يبين لذي الرأي إنتانُها

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

رأيتُ الذنوبَ تميت القلوب

وخيرٍ لنفسك عصيانها

وفي هذا الميزان تحميلُ المسؤولية علماء الدين والبطانات الفاسدة التي أوهنت بعض عزائم الدين عند بعض المسؤولين معصيةً لا استباحة.. والميزان الثاني الانضمام معهم في الجهاد والصلوات.. والجهاد واجب مع كل إمام بويع عن اختيار أو عن غَلبة وإن كان عنده شيئ من المعاصي.. قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: ((وقد علم الله تعالى أنه ستكون أمراء فُسَّاق؛ فلم يخصهم من غيرهم، وكل من دعا إلى طاعة الله في الصلاة المؤداة كما أمر الله تعالى، والصدقة الموضوعة مواضعها المأخوذة في حقها، والصيام كذلك، والحج كذلك، والجهاد كذلك، وسائر الطاعات كلها: ففرض إجابته للنصوص المذكورة.. وكل من دعا من إمام حق أو غيره إلى معصية فلا سمع ولا طاعة.. كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق)).

قال أبو عبدالرحمن: هذا مذهب المسلمين لا يستجيبون لفعل معصية واضحة البرهان، ولا يجوز لهم الخروج على الإمام إلا بكفر بواح، وذلك مشروط بالقدرة وفق المعادلة الشرعية بين المصالح والمفاسد، ولعصمة عَلَنِ المسلمين كان سلوكهم الجهر بالحق من دون خروج على الأئمة (وهذا أمر سأحتاج إليه فيما بعد عند التعرض لما أحدثه الحركيُّون في دين الله بغير حق)، والثناء على عزائمهم التي كان نفعها للأمة أظهر وأرجح من ظلمهم لأنفسهم؛ فكانوا بهذا الميزان بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ملوك رحمة، وكانوا هم عصبية الدين والعروبة، وحَفِظ اللهُ بهم الرقعة من الشتات، وأضافوا إليها بالفتوح بعدما شُغل المسلمون بالقتال بينهم بسبب الفتن التي أحدثها الظلاميون منذ مقتل عثمان رضي الله عنه.. بينما كان ذوو العزم من ملوك بني العباس كهارون الرشيد والمعتصم قبل الشتات الموجِع حماةً للرقعة من غير زيادة، ولبعضهم حروب تأديبية لحماية الرقعة لا الإضافة إليها.. ولا يكون حكم للرقعة إلا بالقهر في الحرب، والحرب عمياء قد يحدث فيها أخطاء غير مقصودة، ولكن العبرة بما بعد الفتح من العدل والإحسان وحماية دين الله على شريعة كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وإسعاد البشرية بمرحمة الدين وخيريَّته.. وكل نقص يحدث غير مقبول من علماء المسلمين بمحكِّ ما عليه السلف الأول رضي الله عنهم، ولا أكرم من حروب المسلمين بتحريم المثلة، وتحريم قتل المستسلم والشيخ والصبي والنساء إلا من قُتل أثناء الحرب لقدرته على القتال.. وحروب الإسلام منها ما هو دفاعي انتهى بفتح مكة المكرمة استرداداً للدار، وإرغاماً للوثنيين والدهريين المعاندين للبراهين عن هوى وعصبية مع احترام المسلمين المواثيق والعهود،؛ فلم تبدإ الحرب لمَّا نقض الكفار العهد إلا بإعلان البراءة والإمهال أربعة أشهر؛ فلما دخل الناس في دين الله أفواجاً بدأ الدور الآخر لإظهار دين الله ونشره، ورفْع الظلم والجهل عن البشرية، وكان يسبق ذلك المراسلة بالدعوة إلى الله، ثم بالدعوة إلى الله قبل نشوب الحرب مراسلة أو ببعث وفد مشافهة؛ فإذا انتقد أحد من أهل الكتاب الواجبَ من نشر دين الله فليسألوا أنفسهم عن الممالك التي كانت بأيديهم، وليسألوا لاهوتهم: هل دانت البلدان لأديانهم قبل نسخها سِلْماً ؟!.. والجواب: لا.. ولهذا يكون نَقْدُ الفتوح ونشر الدين قدحاً في سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ وههنا يتوقف المسلم عند خصائص الفتوح الإسلامية الخيِّرة، ويستأنف محاجَّة المعارض بالبراهين على الإيمان بالله، وعصمة شرائعه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ويذكر من مرحمة الإسلام ما في صحيح البخاري من إنكاره قتل النساء والصبيان؛ ولهذا لم يستبح المسلمون قتل امرأة أو من لم يبلغ من الصبيان إلا مَن وُجد في الحرب مقاتلاً، ولم يجد المسلمون سبيلاً للتخلص منه - كالتخلص بالأسر - إلا بقتل، ولا سيما من كان ماهراً في الرمي عن بُعْد.. وأما الاختلاط في الملحمة بياتاً عن غير قصد فالحرب عمياء.. والصغير الذي لم يبلغ الحلم يبقى على الفطرة؛ فهو من أطفال المسلمين؛ لأنهم الذين يتولون تربيته، ولا سلطان لكافر عليه، والمسلمون يحمون هذه الفطرة، فلم يقرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الكتاب في حكومة العرب على أن يغيروا فطرة أولادهم.. ودعوى انتشار الإسلام بالسيف ذات مجال للتضليل بِخلْط الأوراق وإلغاء الفوارق؛ وتلك شبهة قديمة عالجها كتاب نفيس مطبوع لابن عامر أو ابن أبي عامر، وقد نسيت اسم الكتاب، وهو من أعز الكتب التي فقدتها ضمن مكتبتي القديمة، وعالجها الإمام ابن تيمية، وأما أبو العلاء المعري الباطني الملحد فقد جعل الشبهة على كل شرائع الله سبحانه بقوله:

ولا تطيعنَّ قوماً ما ديانتُهمْ

إلا احتيالٌ على أخذ الإتاوات

وإنَّما حمَّلَ التوراةَ قارئَها

كسبُ الفوائد لا حبُّ التِّلاوات

إن الشرائعَ ألقت بيننا إحَناً

وأودعتنا أفانينَ العداوات

وهل أُبيحت نساءُ القوم عن عُرُضٍ

للعُرب إلا بأحكام النُّبوَّات

ولكن أهل الكتاب اليوم ومن وقع في شَرَكهم أكثرُ إمعاناً في الترويج لهذه الشبهة بالتضليل.. على أن فيمن وقع في شَرَكهم من أبناء جلدتنا مَن عنده غيرة دينية ولكن اجتهاده مُقَصِّر؛ ففسَّر حروب المسلمين بأنها دفاعية، وهذا ينفيه الواقع، بل كان بعضها دفاعياً، وللكشف عن حقيقة الأمر أودُّ التفريق بين فتح البلدان بالسيف، وبين نشر الإسلام بالسيف؛ فأما فتح البلدان عَنْوة بعد الدعوة مراسلة ومشافهة فذلك هو شريعة جميع المرسلين عليهم الصلاة والسلام كما أسلفتُ؛ فأهل الكتاب داخلون فيما انتقدوه، والغرض من فتح البلدان بالسيف إتاحةُ الحريَّةِ لسماع الدعوة، وهيمنة ما اختاره الله؛ فهذه سنة الله للمؤمنين بما جاء به رسل الله إليهم.. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{55} (سورة النور).. والغرض أيضاً رفع مظالم الإمبراطوريات المستعبدة للشعوب.. وأما نشر الإسلام بالسيف فلا، وكيف يكون منتشراً بالسيف وقد أبقى الله لأهل الكتاب ذمة الله وذمة رسوله وذمة ولاة الأمر لا يُكدَّر عليهم في دينهم ما لم يعتدوا بإيذاء الأمة في دينها قولاً أو فعلاً حربياً، وأما مَن لا دين لهم من شرائع الله فلا يُقبل منهم إلا الإسلام على سنة مَن استأصلهم الله بالعقوبات المهلكة كغرق فرعون وقومه، وهكذا من قبله من القرون الأولى.. ولم يستأصل الله اليهود على الرغم من كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء؛ لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام تواترت عليهم؛ فكان جيل كل رسول ذوي أثارة من الشرع، ولكن الله استأصل جماعات منهم كالعقاب قبل الهلاك بالمسخ قردة.. وعقوبات الله الجماعية لا الاستئصالية باقية إلى يوم القيامة لأهل الأديان الثلاثة؛ فليحذر الذين يخالفون عن أمره؛ فشواهد العقوبات باقية محسوسة لمن استأصله الله نهائياً من الأمم، وهي وعيد وبرهان لمن سلك سبيلهم من أهل الأديان الثلاثة.. قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{109} حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ{110} {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{111} (سورة يوسف)، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً{40} (سورة الفرقان)؛ فهل في التوثيق التاريخي أوثق من هذه الآثار الملموسة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{36} (سورة النحل)، وقال تعالى مُحذِّراً من العقوبات: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{43} بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{44} أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ{45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ{47} (سورة النحل)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ{65} فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ{66} (سورة البقرة).

قال أبو عبدالرحمن: هذا استدلال بكلام الله؛ لأنه آيات مصحوبة ببراهينها ههنا فيما يرونه من الآثار في الأرض، وفيما هو موجود بكتبهم، وقد جاء الإسلام للإبقاء على ملة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ونسخِ شرائعهم، وتصحيح ما حرَّفه أهل الكتاب، وإظهار ما جحدوه.. ثم لا بد من مقارنة في فتوح البلدان؛ فأهل الكتاب أنشؤوا حربين كونيتين ضحيَّتُهما ملايين البشر لا مِن أجل نشر سيادة دينية، بل من أجل السيطرة على المعمورة بأطماع دنيوية، ثم التفَتوا إلى بلدان العرب والمسلمين فاستولوا عليها عنوة من أجل نهب مواردهم وثرواتهم وفرض الحصار على حريَّتهم الدينية وابتغائهم وحدة الصف والدار.. والمبشِّرون يودون نشر دينهم بالإكراه، وهذا رأوه محالاً؛ فسعوا إلى إخراجهم من دينهم إلى الإباحية والإلحاد مصداقاً لقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{109} (سورة البقرة)، وقوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{67} إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ{68} وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ{69} يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ{70} (سورة آل عمران)، وقوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ{105} (سورة البقرة)، وأما المسلمون في فتوحاتهم فهم على منهج شرائع ذوي العزم مِن الرسل عليهم الصلاة والسلام في نشر الدين؛ فهم يطالبون أهل الكتاب بالإيمان الناسخ الذي بشَّر الله به في كتبهم؛ فإن أبوا الإسلام أقرهم المسلمون على دينهم بالشروط التي يأتي ذكرها إن شاء الله، وليس ذلك اعترافاً بصحة دينهم، بل ذلك لحكمة يأتي بيانها أيضاً إن شاء الله تعالى.. وليس في سلوك المسلمين ولا من طبعهم عملٌ ظلامي لإخراج غيرهم من دينهم، بل أَمْرُهم على العلن والصدع بالحق، ولو بدَّل الذمي دينه بجحد الرب والشرائع والرسل فإن ذمة المسلمين تبرأ منه، ويكون حكمه حكم الكافر غير الكتابي؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر.. وفتح البلدان عنوة، والحكم قهراً ليسا هما قيمتين في نفسيهما، بل هما موضوع للقِيم؛ فإذا كان الحاكمون كفرة ظلمة سفَّاكين للدماء مكرهين للناس على الكفر، ولم تنفع فيهم الموعظة والدعوة فليس سوى الأمرين (وهما الفتح عنوة، والحكم قهراً)؛ ولهذا انتصر الله لموسى عليه السلام وقومه على طغيان فرعون، وأذن لهم بفتح البلدان؛ فجبنوا وعصوا رسولهم؛ فعاقبهم الله بالتِّيه أربعين سنة حتى فني الجيل الجبان، ونشأ جيل جديد في الشِّدة؛ فكانوا أهلَ صلابةٍ وإيمان؛ ففتح الله بهم البلدان على يد يوشع بن نون عليه السلام؛ فما لأهل الكتاب هؤلاء يُشنِّعون على أمة محمدوهي خير أمة أخرجت للناس بما هو شريعة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بما في ذلك رسل الله إليهم، وما بالهم يتعامون عن البراهين القاهرة بأن الحكم لله في أرض الله وخلق الله ؟!.. وما بالهم يطمسون شهادة ما أنزل الله عليهم بأنه لا دين إلا دين الإسلام بعد بعثة محمد؟.. وذلك أيضاً شهادة ديننا المصدِّق لما بين يديه من كتب الله قبل تحريفها وتبديلها، وشهادة على عنادهم.. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ{81} فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{83} قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{84} وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{85} كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{86} أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{87} (سورة آل عمران)، وأصح شيئ عن الميثاق ههنا الاكتفاء بظاهر النص؛ لأنه لم يرد تفسير شرعي من نص آخر مطابق لهذا النص، والظاهر ههنا أن ميثاق الله وحيٌ إلى كل نبي بأن ينصر كل رسول يُبعث في عهده كنصر لوط لإبراهيم عليهما السلام وإيمانه بما جاء به.. وفي سورة البقرة في الآيات 246 - 252 شريعةُ القتال على بني إسرائيل وجبن كثير منهم وعصيانه، وطاعة قلة منهم ونصر الله لهم كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ{249} وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ{251} (البقرة)، ولن يكون فتحٌ وحكمٌ بالقهر بأمرٍ من شرائع الله للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا وفيه إزالةُ كفرٍ وإحلالُ إيمان، وإحلالُ عدل ورفع ظلم، ومدٌّ لظلِّ السعادة في البشرية ورفْعٌ للشقاء.. حتى الأمراض والنقص في الأنفس والأموال والثمرات محل رضى وإيمان يقيني لا ينغِّص الحياة الطيبة في الدنيا التي وعدها الله من آمن.. وأهل الكتاب والله لا ينكرون ذلك بقلوبهم، ولكن يجحدون البراهين عن هوى وقصد للتضليل، والوثنيون من باب أولى.. قال تعالى عن معجزة موسى عليه السلام التي رآها فرعون وقومه عِياناً: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14)سورة النمل، وقال تعالى عن المشركين المضلَّلين - بصيغة اسم المفعول - والمضلِّلين بصيغة اسم الفاعل مخبراً أن إنكار قلوبهم استكبار وتضليل؛ لعلم الله بما في قلوبهم: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ{22} لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ{23} وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ{24} لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ{25} (سورة النحل)، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ{105} (سورة يوسف)، ومثلهم كفار قريش كان كفرهم عناداً وجحداً؛ لما افتروه من شيئ يعلمون علم اليقين أنه كذب؛ لأنه يخالف ما يعلمونه أيضاً علم اليقين من حال رسول الله التي عايشوها بالدقائق والثواني، وقد قال الله عن كفرهم العنادي: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً{4} وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{5} (سورة الفرقان)، وقد قال عنه ربه سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{52} (سورة الشورى).

قال أبو عبدالرحمن: السؤال مُتَّجه إلى أهل الكتاب، وإلى كل ذي عقلٍ يرى براهين الله: هل من دين رُسل الله عليهم الصلاة والسلام أن لا يُبلِّغوا دين ربهم بالدعوة، وبالجهاد لمن أذن الله له بالجهاد، وبكفاية الله لمن تكفَّل الله له بإهلاك أعدائه ؟.. ومَن أذن الله له بالجهاد، وبلَّغ دين ربه بالدعوة، وأظهر البراهين، ولم يُقابَلْ إلا بالجحد والعناد والهوى: فهل يصح التصور لما يخالف اصطفاء الله لهم بأنهم تركوا أعداء الله دون أن ينفِّذوا فيهم ما شرعه الله لهم من أحكام.. إن بني إسرائيل أقدم بقرون من قوم موسى عليه السلام؛ وإنما اتَّصفوا بالديانة اليهودية منذ موسى عليه السلام، وكل ما أرسل الله إليهم من نبي ورسول فقد جاء لإظهار ما جحدوه، وتصحيح ما حرَّفوه؛ فهم مطالبون باتباع موسى عليه السلام ملةً وشريعة، ومن اتِّباعه وطاعته أن يؤمنوا بمن يأتي بعده مصدقاً لما معه، وكان عيسى بن مريم عليه السلام آخر رسل الله إلى بني إسرائيل، وقد جاء مصدِّقاً لما معهم قبل التبديل والطمس، وجاء رحمةً من الله بتخفيف الشرائع عليهم، ورفع الإصر والأغلال عنهم؛ مما جعله الله مُسبَّباً عن كفرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد في الأرض وقتلهم الأنبياء بغير حق.. ومنذ عيسى عليه السلام استقلَّتْ الديانة باسم النصرانية؛ فكانت النصرانية لازمة لبني إسرائيل، ولكنهم كفروا بعيسى عليه السلام، وافتروا عليه، وبدلوا شرعه، وهموا بقتله مستيقنين أنهم قتلوه حتى بيَّن الله أنه رفعه إليه وأنه شُبِّه لهم، وقد قص الله علينا من آمن به كما سيأتي إن شاء الله، والله المستعان.



 

مِن الكفر والإباحية إلى عقوبات العدميَّة 6-10
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة