Tuesday  09/11/2010 Issue 13921

الثلاثاء 03 ذو الحجة 1431  العدد  13921

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

           

قال أبو عبدالرحمن: في اليوم الذي نشر فيه البراك تعقيبه هاتفني سمو الأمير ذو العلم والحصافة سعود بن سلمان بن محمد بن سعود بن فيصل بن عبدالرحمن بن تركي آل سعود- حفظه الله- مبدياً رغبته أن لا أُصَعِّد الموضوع؛ لأنه شائك عميق قد يُحدث بلبلة، وقد يُفهم على غير وجهه.. ورغبةُ سموه بالنسبة لي أمر واجب الطاعة، وقد خبرته سنين فضلاً وعلماً واستقامة، وخبرتُ مجلسه العامر منتدى لذوي العلم؛ لهذا لا أخوض في هذا الموضوع ألبتة إلا من جهة عمومات لا ينبغي أن تكون محل خلاف.. وقد جاء نداؤه وقد فرغت من هذه الحلقة مُضَمَّنةً أبجديات مسألة القرآن بالتفصيل؛ فحذفت ذلك على مضضٍ من الحلم العنيف؛ لأن ما جبل الله عليه سموه من طيب النحيزة، وأريحية الخلق الذي هو كالنسيم العليل، وكرم العشرة الذي هو كبهجة قوس قزح: كل ذلك يأبى عليَّ أن أتعدَّى رغبته.. وكنت بحثت الموضوع في محاضرة لي طال فيها النقاش فاستجاب لي من استجاب، وكاتبني من كاتبني، ثم زدتُ بعض النَّفَس في جريدة المدينة، ثم كاتبت بعض المشايخ مبدياً لهم إجماع الصحابة رضي الله عنهم على السكوت، وأنه حدث الاختلاف ابتداء من بدعي ضلالي هو الجعد بن درهم عام 132هـ وليس على وجه الأرض صحابي، ولم يحدث إجماع بعد الاختلاف، والمخالفون من عدول الأمة ومنهم الرواة (المعدَّلون) للأحاديث الصحيحة، وهم معروفون بأعيانهم؛ فلم يحدث إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على السكوت.. ومن كاتبتهم من المشايخ بعضهم سكت، وبعضهم أبدى رغبته بأن لا تُبحث المسألة في مثل هذا الظرف وأعباء الأمة أكبر من ذلك.. وهذه المسألة تقلقني من سنين، وقد فرغتُ من تسويد ما دار حولها تصوراً وتحريرَ استدلالٍ منذ الجعد.. إلى تحرير الاستدلال في محنة الإمام أحمد رحمه الله.. إلى ما طرأ بعد ذلك من الجدل الكلامي المذموم في أمر غيبي يتعلق بالرب سبحانه.. إلى العودة إلى إمساك الصحابة رضي الله عنهم كما في الكلام النفيس للإمام المجتهد القاضي الشوكاني رحمه الله تعالى في تفسيره لأول سورة الأنبياء؛ وبناء على رغبة سمو الأمير سعود بن سلمان عزمت على تجميد الموضوع سائراً على مهلٍ في تحريره وتبييضه؛ هدية لبعض أحبابي الخُلَّص، وأجعل نشره أوجب ما في وصيتي إن تأخر طبعي له؛ لتبرأ ذمتي إذا لقيت ربي سبحانه وتعالى.. وهذا في وصيتي لذريتي، ولأحبابي داخل المملكة وخارجها، وأُعَوِّض عن ذلك ههنا بشيئ من أبجديات سلفيتي، رادعاً البراك فيما تقحَّمه من أمور جانبية لا علاقة لها بالموضوع مما لا يليق به من الهمز واللمز والتجريح الشخصي.

والسواك مطْهرة للفم، مرضاة للرب.. وسواكي ههنا معنوي مجازي هو عَبَقُ البرهان وأنواره التي تطهِّر الفم واللسان؛ فيفوح أريجه، ويجلو كل شبهة وقولٍ بُدَّعَى في أمر غيبي يتعلق بالرب سبحانه وتعالى؛ ولهذا فالتوقُّف في مسألة القرآن اتِّباعٌ للسلف الأول الذي لا سلف غيره، المنصوص عليهم بالنص القطعي بالسَّبق والأوَّليَّة والهِجْرة والنُّصرة؛ فالسَّبق والأوَّليَّة هو معنى السلف، والهجرة والنصرة تميِّز جماعتهم بالوصف كما تُميَّز القبيلة بالاسم في قولك تميمي وقيسي.. إلخ، وهم معروفون بأعيانهم واحداً واحداً، محفوظة روايتهم وفتياهم، كما أنه محفوظ سكوتهم، ومَن بعدهم تابع لهم إذا كان اتباعه بإحسان، ومن معاني الإحسان الإتقان، ومَن خالفهم: إما مجتهد مُخطئ، وإما متَّبع للهوى.. قال تعالى:

?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ? (100) سورة التوبة، وإمساكهم نَفْيٌ للدعوى بأن لهم قولاً محفوظاً، وذلك في صورته عدمُ علم بأن لهم قولاً في مسألة سكتوا عنها، وهو يساوي (العلم بالعدم) بالاستقراء الحاصر في مثل مسألة القرآن؛ فمن قال: (إنما سكتوا لأن عِلْمهم محقَّق بان القرآن مخلوق جزماً)، أو قال: (إنما سكتوا لأن عِلْمهم محقَّق بأن القرآن غير مخلوق جزماً): فقد افترى عليهم بالدعوى المجرَّدة.. ومن قال: (لا ينسب لساكت قول) فقد أراحنا مِن نفسه؛ لأن الغرض نفيُ أن يكون لهم قول في هذه المسألة في أمر غيبي يتعلق بالرب سبحانه؛ فلما اختلف مَن بعد السلف وجدنا اختلافَهم مُحَرَّماً بإجماع السلف الأول، ولا يسعنا إلا سكوتهم.. ووجدنا أنه لم يحصل بعد اختلافهم إجماع.. وقد اتسعت دعوى الإجماع بالدعوى المجرَّدة، ولا يصح عن السلف الأول كلمة واحدة في هذا الموضوع، وكل ما روي إما نَقْلٌ غير ثابت وهو معلول متناً كالكذب على ابن عباس رضي الله عنهما بأنه فسَّر العوج في قوله تعالى:

?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا? (1) سورة الكهف، بمعنى أنه غير مخلوق، وهذا معنى لا يوجد في لغة العرب ألبتة، وهو مخالف لتفسير الآية نفسها في قوله تعالى بعد الآية مباشرة {قَيِّمًا} (2) سورة الكهف، وكالدعوى على ابن المنكدر رحمه الله تعالى، وإنما الخبر عن سفيان رحمه الله وهو لم يدرك أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم.. وإما استدلال في غير محل النزاع، وإما استدلال بالمتشابه من القرآن.. والإمام أحمد رحمه الله نص على أنه لم يُحفظ للسلف رضي الله عنهم قول في ذلك، وكل هذا يأتي بيانه إن شاء الله مفصلاً فيما وعدتُ به من كتاب محرَّر.. ولا يترتب على الجزم بأي دعوى حكم شرعي، وإنما هو مُشاقَّة لسكوت السلف الأول، ومن جزم بإحدى الدعويين بعد الاختلاف فعمدته ميتافيزيقا علم الكلام المذموم في أمر غيبي يتعلق بالرب سبحانه، وعلمُ الكلام ليس سبيلاً لكشف الأمر المغيَّب، ومن جزم بأن القرآن مخلوق لزمه أن القرآن خالق؛ إذْ لا ثالثَ مرفوعٌ بين خالق ومخلوق إلا بالدعوى الكاذبة بأنه ليس كل محدث مخلوقاً، وجاءت هذه الشبهة من دعوى باطلة، وهي الزعم بأن الخلق الذي هو فعل الله محدث ولكنه غير مخلوق!!.. وهذه بدعة شنيعة؛ لأن فعل الله أوَّلٌ بلا بداية وآخر بلا نهاية؛ وإنما يحدث بفعلِ الله مفعولُه، ثم يتعيَّن حينئذ على هذه الدعوى الباطلة أن القرآن يَخلق غيره.. وجاءت هذه الشبهة من بدعة أخرى هي الثنائية بين الذات والصفات، وهذه الثنائية لا تصح في حق الله سبحانه؛ لأنه لم يحدث له صفة لم تكن له؛ فيقال: إنها مضافة إلى الذات.. وإنما الثنائية في حق المخلوق الذي يعلم بعد جهل، ويقرأ ويكتب بعد أمية، وينمو بعد ضعف؛ فهذا استجدت له صفات مضافة إلى نفسه، كما أن الذات بمعنى النفس ليست من كلام العرب؛ وإنما حدث ذلك عند المتكلمين، والذي في شرع الله قوله تعالى عن عيسى ابن مريم عليه السلام: ?وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ? (116) سورة المائدة، وأما مثل قولهم:

(عملت هذا في ذات الله) فليس بمعنى في نفس الله، بل بمعنى (في مرضاة الله)، (وذات) هنا اسم إشارة، والمشار إليه (مرضاة) التي هي بدل من اسم الإشارة، ولا بدَّ أن يُقدَّر لها مؤنث يناسبها؛ لأنها لا تشير إلا إلى مؤنث.. وتأتي (ذات) بمعنى صاحبة، وتُعرف عند النحاة بالصاحبية كقولك: (فلانة ذات جمال) أي صاحبة جمال؛ فهي على معنى الإشارة لم تتغيَّر؛ لأن التقدير: (التي يقال عنها: هذه صاحبة جمال.. أو ترى هذه صاحبة جمال.. وتأتي نائب ظرف إذا أُضيفت إلى ظرف كقولك (هبَّ ذات ليلة)، وتعريفهم لها بنائب ظرف تعريف شكلي، وإنما هي اسم إشارة يُقدَّر لها ما يناسبها، والتقدير ههنا: (هبَّ ذات مصادفَة ليلة)، وفي قولك: (جلست ذات الشمال) تقديرها (جلست جهةَ ذات الشمال)، وكل هذا يأتي مفصلاً إن شاء الله في هذا البحث مع أمثاله من أباطيل خارج دائرة مسألة القرآن التي سأمسك عنها إلى أجل؛ وذلك أمر يطول؛ لأن من أحدث شبهة في صفحة احْتِيْج في نقضها إلى عشر صفحات، والحق أبلج والباطل لَجْلَج؛ لهذا أقتضب شيئاً من سلفيتي اقتضاباً.. ومن جزم بأن القرآن غير مخلوق وليس عنده غير علم الكلام المذموم فهو في موقف التأويل، وغيره يتمسك بظاهر النصوص كتشبيه كلام الله بسلسلة على صفوان ولا تشبيه إلا للمخلوق، كما أن الخالق ينزل ولا يُنزِّله أحد، ولا ارتباط بين (مُنَزَّل)، و(غير مخلوق)؛ لأن الله ينزِّل مطراً وملائكة.. ولا ارتباط بين ذينك وبين (منه بدأ وإليه يعود)؛ فكل شيئ ابتداؤه من الله، ومآله إلى الله سبحانه وتعالى والمخلوق يُنَزَّل، كما أن القرآن له بداية ونهاية بين دِفَّتي المصحف، كما أنه محدث بنص القرآن في سورتي الأنبياء والشعراء، وأن الكلام ليس صفة لله، بل صفته أنه يتكلم وفعله التكلم والتكليم، ولا يصح في لغة العرب أن تقول: (الله الكلام).. ومن جزم بأنه مخلوق كالمعتزلة وقع في محذور لدى العرب، وهو وصف الكاذب بأنه يخلق كلامه، والسلامة في الوقف؛ إذ لا برهان لدينا على جواز إطلاق أحد الوصفين.. وكان الأستاذ عبدالرحمن بن ناصر البراك أرسل إلى الأستاذ أبي عبدالرحمن رسالة في 5-9-1431هـ والرسالة مصحوبة بنسخة من رده عليَّ المنشور في جريدة الجزيرة في العدد رقم 13916 بتاريخ 27-11-1431هـ.

قال أبو عبدالرحمن: لما جاء خطابه إليَّ في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، ولا فراغ لي في ذلك الموسم الكريم: آثرت إرجاء الموضوع إلى العيد؛ فلما قرأت خطابه وأول مقالته انقبضت نفسي، وآثرتُ الصمت؛ لأنه لا يليق بخطابه ومقدمة تعقيبه إلا الحدة في القول ولا أريد ذلك.. وانقبضت نفسي من أمور:

أولها: أنه يأمرني بالرجوع إلى ما هو عليه من تقليد باطل نسأل الله السلامة أمراً جازماً، ويشترط عليَّ رجوعاً صريحاً بلغة واضحة، ويحدد الأمد بأسبوعين؛ فيا لها مِن صفاقة ؟!!.. ولو كان ذا علم محقق ووارحمتاه لطلابه يوم كان يُدرِّس العقيدة لطلب مني استدلالي على التوقف، ولقال: لعلنا نجد عندك حقاً فنتبعه، أو شبهة فنساعدك على جلائها؛ فهذه هي لغة أهل العلم والعقل.

وثانيها: زعمه أن التوقف الذي هو مذهب جميع الصحابة رضوان الله عليهم باطل بالدعوى ولم يأتني ببرهان صريح صحيح على دعواه الباطلة، وليس عنده إلا التقليد الأعمى الذي بُلينا به في رقعتنا، ويحيلني إلى أبسط المراجع وأقلها لتحقيق الثبوت نقلاً ودلالة، وهو كتاب اللالكائي رحمه الله تعالى كأنني في معزل عنه؛ وإنما هو أدنى مراجعي، ولهذا سأستقصي القول منذ أهل الضلال كالجعد وجهم والمعتزلة إلى تحقيق مِحنة الإمام أحمد رحمه الله وصبره على ما يعتقد أنه الحق، كاشفاً عن استدلاله، موالياً له في الله، غير آخذ بكل استدلال لا يصح، ولا مُتعدِّياً توقُّف الصحابة رضوان الله عليهم، ثم أذكر ما أُحدث بعده من بدع علم الكلام كما وعدتُ آنفاً في كتاب مستقل.. والخلاصة أن كل ما عند البراك: قال فلان وقال فلان، وترديد كلام لم يحقِّقه بالنظر؛ فقولك مثلاً: ((كلام الله منزل)) صحيح شرعاً، وقولك (مخلوق، أو غير مخلوق) لم يرد به شرع وإنما هو دعوى ممن ادعاها .

وثالثها: أنه لما زعم أن باطله التَّقليدي حقٌّ، وأن سكوت الصحابة رضوان الله عليهم باطل: أوجب عليَّ الرجوع؛ فيا لها من نكبة في سواد طلبة العلم ؟!.

ورابعها: زعم أن عدم التوقف مما لا يسع فيه الخلاف بالدعوى المجردة أيضاً، ووالله قسماً براً إن الذي لا يسع فيه الخلاف ما عليه الصحابة رضوان الله عليهم من السكوت، وأن المحرم القول على الله بغير علم.

وخامسها: أنه يعيذني بالله من الحق؛ فبئس والله التعوذ من الحق الصراح، والجنوح بالجدل البيزنطي إلى اتباع الظنون في حق الله سبحانه وتعالى.. ثم وجدتُ في مقالته العجب العجاب؛ فمن ذلك الغمز واللمز بأنني كثير الحديث عن نفسي في مقالاتي الأخيرة، وأنني ضعيف القوى الفكرية، وأنني أتحامل على بعض العلماء.. ولو كان هذا حقاً لرضيت، ولكنه كَذِبٌ عليَّ.. ومن حقه أن يبيِّن وجهة نظره، وليس من حقه التجريح ولم ينشب بيننا ما يوجب ذلك.

* تعرض لما لا يعنيه من حديثي عن نفسي وهو بزعمه في سياق براءة الذمة للباطل تقليداً محضاً، ولأن حديثي عن نفسي إما عَرْض تجربة أحمد الله بالحديث عنها إن كانت تجربته في الحياة إلتفاتة ضَبُع، ولأن أكثر حديثي عن نفسي جَلْدٌ لها بسياط التقريع والإنابة، ولقد بينت منهجي في التباريح بقولي: ((وليست تباريحي هذه كاعترافات النصارى التي ترفع جانب التحفظ؛ فإنني أستعيذ بالله من ذلك، وأنا أول العائبين على مثل: رسل، وجورج صاند.. ولكن هذه التباريح تجربة مقصِّرٍ ظلم نفسه في بعض الأحيان، ولم يمت قلبه؛ فلما فاء الله بي كنتُ ممن جرَّب عزَّ الطاعة وذلَّ المعصية؛ فضفَّرتُ من بعض تجاربي مرائر يستمسك بها القراء للعظة والذكرى.. أسأل الله العفو عما مضى، وأستمنحه العصمة فيما بقي)).. وحديثي عن نفسي أبكى القلوب، وهذَّب السلوك، وما هذا الغمز واللمز إلا بدافع الغيرة والحسد.. ثم أقول لهذا المسكين الذي ظلم نفسه بتدريسه العقيدة والتعليق على فتح الباري في شرح صحيح البخاري: إن كانت هذه الحسنة عيباً عندك فانقد الإمامين ابن تيمية وابن قيم الجوزية؛ فما أكثر حديثهما عن نفسيهما في كتبهما، وقد تحدث الإمام ابن تيمية عن تجربته مع الجن، وعن أصدقائه منهم، وعن معرفته خطوطهم، وعن تأثير الأرواح الأرضية عليه بِحَبْسهم له عن الدعاء كما في مبحث السكينة بآخر مدارج السالكين بالمجلد الثالث، وأما بالنسبة لي فابن تيمية والله الإمام البر الصدوق، وأحسن الله إليه كما أحسن إلى المسلمين في نقله تجاربه النافعة إليهم، وحديثي عن نفسي أسوة بأمثاله على مبدإ:

وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

* بمراجعات حسنة في سيرته وفي تعامله مع الآخرين)).. اسمع يا هذا: أأنت ذو عهد عند ربك أن سيرتك حسنة ؟.. إن أهل المساجد يقعون في آثام لا يأخذون لها حساباً؛ فإن لم يرحمهم الله أو بقتهم غفر الله لي ولك، وسيرتي ولا أزكي نفسي كانت تجاوزاً في بعض المسائل عن تقليد محض قبل نُضج العلم، وعن تقصيرٍ سببه الانمياع مع الظرفاء والغناء وما فُوَيق اللمم، وفي تلك المرحلة بدافعٍ من إيمان رسَّخه الله في قلبي وله الحمد والمنة بلا حول مني ولا قوة : كتبت ما أرجو به رَحْب المنقلب ككتابي لن تلحد، ومناظرتي للقصيمي، والقانون الطبيعي، وملاعب الوثنية، وشعب بوان، وشيئ من العبث الصوفي.. إلخ، وكان قلمي خلال نصف قرن شجى في حلق كل ملحد ومبتدع، وكتابي (شيئ من فلسفة ياسْبرز)، وكتبي في النقد الأدبي ترسيةٌ للإيمان في عهد الإلحاد والإباحية، وانتصار لنور العقل المختنق بالحسبانية، وكل ذلك ليس من مأكولك؛ لأنك مُوصد بالتقليد، ولم تُرَبِّ عقلك بمعارف الفكر الصعبة؛ لتواجه الأصعب من الهجمات الفكرية؛ وحينئذ تكون براءة الذمة التي تزعم الحرص عليها بالوعظ الفكري العاقل المستوعب للأعمال الباطشة بكل كياننا من أمثال عمل الصادق النيهوم الإلحادي ومحمد أركون ومحمد أوزون.. إلخ، ولكنك الآن لا تقدر؛ وإنما عليك اليوم براءة الذمة من التعرض لأبي عبدالرحمن الذي نذر نفسه وقلمه للدفاع عن دين ربه وكيان أمته متبرئاً من التقليد الأرعن الذي بليت به أنت وكثير من أهل جيلك حتى صار الأكثر إلا مَن رحم ربك زيادة نُسخٍ في البلد !!.. ومع جهادي بقلمي لا أبخل بنفسي ولو كان في ذلك أجلي من مواجهة أهل الشنآن والتبديل من مبغضي الصحابة، ومن دراويش الصوفية، ومن دعاة الإلحاد والحسبانية.. ثم اعلم يا هذا أنني حتى في تأرجحات عمري ما انصرفتُ عن كلام ربي تلاوة وحفظاً ومراجعة لكتب التفسير.. وإن لي لقلباً خشوعاً، وعيناً دامعة، وحياء من ربي يخنقني.. وبحمد الله ما أكلتُ مالاً حراماً قط، ولا ظلمت مسلماً في دين أو مال أو عرض، بل كنت أنا المظلوم.. وخاصتي يصفونني بمخروم اليد؛ لأن الله جبلني على رحمة تأكل قلبي؛ فكنت أنفق من غير سعة هازئاً بمواعظ البخلاء (كَرَمُ الفليس من إبليس)، ?وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? (16) سورة التغابن وإذا دخلتُ مسجد الحسيني بشقراء خنقتني العبرة، وظننت أنه يناجيني بحيطانه وأبوابه وترابه؛ لأنه روضتي المباركة في نشأتي قبل أ ن أعرف الظرفاء لا بارك الله فيهم.. وأهليَ سَدَنَةُ مسجد الحسيني، وسأغيظك بكثير من الحديث عن النفس حتى تعلم أنه الحق.. وقبل أن تُميِّعني غضارة الحضارة كانت تلك هي نشأتي على الصفاء؛ وإنني بين الفينة والفينة أشعر بالبشرى من ربي بحسن الخاتمة، وكنت باراً بوالديَّ وأقاربي أعول ستة بيوت، وكنتُ مكافحاً منذ نشأت وأنا أكتب الخط بأربعة قروش في الصفاة إلى هذه اللحظة التي وهن فيها العظم.. وليس هذا والله تزكية لنفسي؛ فالله أعلم بي في صلب آدم عليه السلام، ومنذ أنشأني في بطن أمي، ولكنني اضطررتُ إلى ما أبيح لي من الدفع عن النفس؛ إذْ غمزتَ ولمزتَ، وزكَّيتَ نفسك ضِمناً.. ولمزتَ بما حصل لي أخيراً من حسن التعامل مع الآخرين !!.. فيا هذا اعلم أن عشيرتي الكبرى هم أصدقائي وأحبابي، وما ذلك إلا أن الله جعل لي وداً.. وأما كل عُومة، وكل حاوٍ، وكل ماجن أو مجدِّف، وكل مقلد متمعلم: فأسدحه سدحاً، ويبرك عليه يراعي، ولا أبالي برضاه، واعلم يا هذا أن ما قلته هو حسن المعاملة؛ فلم أقبل نصيحة بعض الأحباب بالرفق في العبارة، ولكن كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى وأنت وكثير غيرك مستميتون في تقليده وإن لم تعلموا قوله تصوراً، ولم تفقهوا استدلاله إن كان خطأ أو صواباً، ولا سيما في عُضَل الفكر، ولذلك حديث يأتي إن شاء الله : ((ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن: فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالاً لهذا لكن كل شيئ في موضعه حسن.. وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة فنحن مأمورون بمقابلته.. لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن، ومن المعلوم أن الله تعالى يقول ?وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? (139) سورة آل عمران، فمن كان مؤمناً فإنه الأعلى بنص القرآن، وقال سبحانه وتعالى: ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين? (8) سورة المنافقون، ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي? سورة المجادلة (20) - (21) سورة المجادلة، وقال: والله محقق وعده لمن هو كذلك كائناً من كان.. ومما يجب أن يعلم أنه لا يسوغ في العقل، ولا الدين طلب رضى المخلوقين لوجهين: أحدهما أن هذا غير ممكن كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه (الناس غاية لا تدرك رضاها؛ فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه ولا تعانه)، والثاني أنا مأمورون بأن نتحرى رضى الله ورسوله كما قال تعالى:?وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ? (62) سورة التوبة، وعلينا أن نخاف الله فلا نخاف أحداً إلا الله كما قال تعالى:? فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ? (175) سورة آل عمران، وقال:?فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ? (44) سورة المائدة، وقال ?فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ? (51) سورة النحل، ?وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ? (41) سورة البقرة، فعلينا أن نخاف الله، ونتَّقيَه في الناس؛ فلا نظلمهم بقلوبنا، ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا، ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به ورسوله خيفة منهم)) (1).. وأنت بغيت عليَّ بهذا اللمز الخارج عن الموضوع وأنت في معرض براءة الذمة !!.. فأين لغوك هذا من أقوال المنصفين وهم كُثُر، وأذكر منهم مثالاً لا حصراً قولَ أخي الشيخ عبدالمنعم بن عبدالكريم الذكر الله: ((وللشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري من دماثة الأخلاق، ولطف السجايا، ولين الجانب، وكرم الشمائل، وحسن العشرة، وطهارة النفس، وخفة الرَّوح: ما علم به القاصي والداني، ولا يستطيع أحد من الناس أن يحجب شمس الظهيرة بكفِّه الصغيرة.

صهٍ لا تعودوا للجواب فإنَّما

ترمون صَعْباً من شماريخ ثَهلانِ))

فهذا هو تعاملي مع الناس.. وبإيجاز فمن قال القرآن مخلوق، أو قال غير مخلوق: فقد قفا ما ليس له به علم، والسلامة الوقف الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم، وما تقرؤه تقليداً في المصادر من تكفير من توقَّف، وتكفير من قال لفظي مخلوق؛ بجعله جهمياً: فذلك أمر عظيم جداً، وقول بلا برهان، وقد دفع هذا القول العلامة الذهبي في ترجمته للإمام أحمد.. قال رحمهما الله تعالى عن بعض المسائل التكفيرية: ((آمنَّا بالله تعالى، وبملائكته، وبكتبه، ورسله، وأقداره، والبعث، والعرض على الله يوم الدين.. ولو بسط هذا السطر، وحُرِّر وقُرِّر بأدلته لجاء في خمس مجلَّدات، بل ذلك موجودٌ مشروحٌ لمن رامه، والقرآن فيه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، ومعلومٌ أن التلفُّظ شيئ من كَسْب القارئ غيرُ الملفوظ، والقراءة غيرُ الشيئ المقروء، والتلاوةُ وحُسْنُها وتجويدُها غيرُ المتلُوِّ، وصوتُ القارئ من كَسْبه فهو يُحدث التلفُّظَ والصوتَ والحركةَ والنطقَ، وإخراجَ الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يُحدِثْ كلماتِ القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه)) (2).. وأنت وكثير غيرك يردِّدون الإجماع ولا إجماع؛ فالمتوقفون منهم عدول رووا صحيح الأخبار، وتكفيرهم ظلم عظيم، وتدَّعون بالكذب والدعوى العارية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: (القرآن غير مخلوق جزماً)، وهم رضي الله عنهم لم يقولوا في المسألة كلمة واحدة، وما أسهل دعوى الإجماع عندكم كدعوى التشبيه المحرَّم أن الله خلق آدم على صورة الرحمن تعالى الله وتبارك وتقدس، وبعض المتمعلمين يجنِّد محققي المخطوطات لنصرة هذا الباطل حمية وعصبية، وإلى لقاء مع ما هو أنفع من تحرير مسائل لا يسع الاختلاف فيها خارج مسألة القرآن، والموعد إن شاء الله بُعيد عيد الأضحى المبارك، وربما في شهر الله المحرَّم، والله المستعان.

*****

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 3-232-233.

(2) سير أعلام النبلاء 11-290 مؤسسة الرسالة - طبعتهم التاسعة عام 1413هـ، وانظر كتابه الآخر تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 5-1027- دار الغرب الإسلامي - طبعتهم الأولى عام 1424هـ بتحقيق الدكتور بشار عواد.. ومن المتأخرين القاضي الشوكاني والمقبلي، ومن السالفين الكرابيسي رحمهم الله وهم من هم علماً وورعاً وفضلاً أوجبوا التوقف، والأمر ليس من قطعيات الشريعة، فهل يحل تكفيرهم؟



 

هذه سلفيتي: مَطْهرةُ السِّواك من لَغْوِ البرَّاك: 1 - 10
وكتبه لكم : أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة