Thursday  11/11/2010 Issue 13923

الخميس 05 ذو الحجة 1431  العدد  13923

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

الموهبة والإبداع بين التوريث والصناعة

رجوع

 

الجزيرة الثقافية - عطية الخبراني :

يعد الحديث عن مسائل توريث صفات الآباء لأبنائهم من نافلة القول حيث لا جدل فيه بإثباتات العلم وأدلته وبراهينه، ولكن كلام كهذا قد يقدح في أذهان الكثير شقاً آخر من هذا التوريث وهو: هل يمكن أن يورث الأب لابنه ملكته الإبداعية كأن يصبح الابن شاعراً لكون أبيه شاعراً من قبله أو قاصاً أو روائياً، وهل الموهبة صناعة أم هبة ربانية لا مجال فيها للاجتهاد والبحث عنها والحصول عليها؟ طرحت «الثقافية» العديد من الأسئلة حول هذا الموضوع على بعض الأدباء والكتاب وخرجت بهذه المادة.

يقول الشاعر والأكاديمي أحمد التيهاني: الموهبةُ - عندي - وهمٌ بشري ابتكرَه الإنسانُ حين عجزَ عن تفسير الكنه الحقيقي للإبداع، وهي فكرةٌ تدخلُ في باب الأوهام أمام الخوارق، فالجنُّ يوحي بالشعر، والشاعرُ يرثُ الشعرَ عن أبيه أو عن خاله وهكذا، والأقربُ لحقيقة الإبداع والفنّ أنّ الفنّ، كلَّ الفنّ صناعة وصنعة، وخبرةٌ يتأتّى البروزُ فيها مع الكثير من الاهتمام والاطلاع وتطوير الأدوات، وقد أدرك بعض العرب القدماء هذا منذ محمد بن سلام الجمحي في: «طبقات فحول الشعراء»، حيث قرّر أنّ الشعر صنعةٌ كسائر الصناعات التي تثقفُها حاسّةٌ من الحواس، وعلى هذا فليست وراثةُ الإبداع وراثةً حقيقيّة كالوراثة الجينيّة التي تظهرُ آثارُها في لون البشرة، أو بعض الخصائص النفسيّة، والسمات الجسمانيّة، وإنّما يحدثُ أن يتّحدَ الاهتمام بين الوالدين والأبناء، فتتطوّرَ الأدوات ويصير ابنُ الشاعر شاعراً، وابن المطرب مطرباً، وهكذا.

ويستطرد التيهاني: ويمكنُ أنْ نعتمدَ في نفي القول بتوريث الملَكات على نظرية الأمريكي «جون ديوي»، الذي يرى أنّ الفنَّ خبرة، وهو يؤكد على مفهوم الخبرة الجمالية، ويجعل منها ظاهرة بشرية عامة تصاحب شتى خبراتنا اليوميّة العادية فليس هناك فاصل يعزل الخبرة الجمالية عن الحياة العملية، ويخلع «جون ديوي» على الفن صبغةً عمليّةً ونفعيَّة ووظيفيَّة، وهي متباينة؛ فهناك من يمارس الإبداع لترتاحَ به ذاتُه القلقة، وهناك من يمارسُه ليحقّق ذاتَه، أو يرتزق، وهي - في كل الحالات - نفعيّات ووظائف، بيد أنّ هذه الرؤية لا يجب أن تطبعَ الفنّ بالطابع البراجماتي، إذ الفنُّ ليس مجرد نشاط أدائي في خدمة بعض الغايات الاجتماعية أو الحيوية أو الحضارية، ذلك أنّ الإبداعَ الفنّيَّ سرورٌ ولذّةٌ في المقام الأوّل، وبعد تتحقّقُ الغاياتُ النفعيّة التي يحرصُ عليها المبدع من خلال الحرص على التجاوز بالإصرار وتطوير أدوات الإبداع، وأسباب الإنتاج الخيالي الحدسي، والاطلاع والبحث عن مكامن الجِدّة، وصولاً إلى السرورِ واللذّة والرضا عن الذّات، ومعها الغايات النفعيّة.

ويختتم التيهاني حديثه قائلاً: لعلّ انعدامَ الوعي بالماهيّة الحقيقيّة للإبداع قد جعلتْ العقل العربيَّ مائلا نحو القول بتوريث الإبداع، حتّى إنّ بعض الأدباء يدفعُ بأبنائه إلى الشعر دفعاً لمجرّد أنهم من بيت شعر، ولذا صارَ هؤلاء نماذجَ رديئة للأداء الفنّي القائم على الوهم والتكلّف، والحقّ أن هذا قد ينسحبُ على المناشط الحياتيّة كلّها، فابن الصائغ قد لا يكونُ صائغاً بالضرورة، وابن الروائي كذلك، وقد يكونان إن هما أرادا، وهو الغالبُ نتيجةَ توارث الاهتمام، وليس نتيجة وراثة شيء لا نعرفه ونسمّيه الملَكة أو الموهبة.

فيما يرى الدكتور علي الرباعي أنه لم يثبت باليقين العلمي، أو العلم اليقيني أن الموهبة تورث، إلا أن الجسم يحمل جينات مورثة من أبويه ومن سلالته، بما فيهم من مواهب ومناقب، ومثالب، وعلل، ويمكن أن يكون ابن القاص والروائي والشاعر مبدعاً، ومن الممكن أن يكون دعيّ ثقافة، شأنه شأن أي مواهب وإبداعات أخرى وليس كل من يحمل البيان منافساً ولا كل من حمل السنان فارساً.

وحول سؤال عن أحقية ابن الشاعر في أن يكون شاعراً وأن يكون ابن الروائي روائياً، كأي مهنة حرفية أخرى كالتجارة والمهن اليدوية وغيرها من «الصنعات» يجيب الرباعي: لا بد أن نحيل السؤال إلى سؤال آخر: من يمنحه هذا الحق ومن يمنعه منه، المجال متاح لإثبات الوجود، ما يورث في عالمنا العربي المناصب فقط، أما المناقب فالمعطي والواهب هو الواحد الأحد.

ويتابع الرباعي: منذ قرون والنقاد يتحدثون عن مبدع طبعاً ومبدع صناعة أي أن كلا الأمرين وارد في سياق طبيعي، والمعجزة تحدث عند تميز الكاتب عن أقرانه سواء في صنعته أو بطبعه.

ويجيب الرباعي عن سؤال، أليست ورطة للمبدع أن يكون والده أو أخاه الأكبر مبدعاً من قبله في ذات المجال؟ أم إنها مزية له عن غيره؟ قائلاً: لو أن كل مناصب ومسؤوليات الآباء تورث، لادعى أبناء الأنبياء أحقيتهم بالنبوة، هذه قضية لا ثوابت فيها ولا استثناءات فما نستبعده قد يقع، وما نتوقعه تبعده الأيام ويستثنيه الواقع، نحن لسنا ضد توارث الإبداع طالما أنه لا يترتب عليه إلحاق ضرر بأحد أو يتخذ حيلة ثقافية للمزاحمة واصطياد مواقع ومراتع هناك من هو أحق بها منا. وعن إمكانية زراعة المبدع ملكته في أحد أبنائه يقول الرباعي: إن تحدثنا عن زراعة وغرس فهذا يعني أننا نستنسخ من أنفسنا، كل شخصية يخلقها الله بخصائصها، وآلية نموها والتدخل أحيانا لتزيينها وتجميلها مدعاة للتشويه، فالمجد والمعرفة والوعي لا تورث بالنسب، إلا أن السلوك والمهارات وتنمية الموهبة يمكن اكتسابها من آبائنا وأمهاتنا مشيراً إلى أنه ضد فكرة التوريث مطلقاً، داعياً إلى أن ندع كل زهرة تتفتح بمكوناتها وعلى طريقتها وبكل خصائصها.

ويأتي ختام حديث الرباعي إجابة عن سؤال حول قمع يمارسه الأب ضد ابنه لأنه كان شاعراً وأخرج شاعراً وإن كان هذا القمع غير متعمد، فيقول: هناك شاعر يخرج من بيت شاعر دون قمع، وهناك شاعر يخرج بالدفع ،وهناك متشاعرون كثر من بيوت شعراء وغاوين.

وعن ذات القضية يجيب الكاتب علي فايع الألمعي بقوله: ليس شرطاً أن تكون الموهبة المتوارثة مصنوعة، فقد يكون المورّث علماً، ويكون الوارث موهوباً، عندها ثق أننا سنكون أمام موهبة فذّة نظفر بها، وننجذب إليها وإلى عملها الثقافي، والمشكلة التي تواجه الإبداع بشكل عام في أيّ مكان في العالم حين يقتنع الناظم بأنّه شاعر على سبيل المثال، والسارد العادي على أنّه نجم كبير، والكاتب المختلف مع السائد لمجرّد الاختلاف على أنّه علم، هنا تكمن المشكلة لأنّ الضحيّة في هذه الحالة الذائقة العامة، ذائقة القارئ التي تُفرض عليها مثل هذه الأسماء، فلا تستطيع تجاوزها لأنّها أصبحت نموذجاً، ولا تستطيع الابتعاد عنها لأنّها أصبحت فرضاً عليها.

ويواصل الألمعي: الناظم حين يورّث ابنه نظمه على أنّه شعر يتجاوز زمنه، ويتفرّد في بيئته يخلق لدى الوارث حالة من التلبّس بهذا الفنّ فلا هو قادر على تجاوزه باعتباره عملاً كبيراً، ولا هو قادر على نقده والتمعّن فيه لأنّه تلبّسه بشكل طاغ، لكن في الجانب الآخر المضيء نور قادم لمبدعين فعليين يملكون الموهبة ولديهم القدرة على الاستفادة منها وتطويعها في خدمة الإبداع الذي ينتجونه، فهؤلاء يمكن للتركة الأبويّة أن تساعدهم في أشياء كثيرة، أهمّها لفت الانتباه السّريع إلى إبداعهم بعكس الآخر الذي يشقّ طريقه في صخر، قد ينجح إن كان واعياً بقيمة إبداعه، وقد يفشل إن كان سريع الضجر والملل، كما أنّ تجربة المورّث قد تختصر على الوارث الكثير من العقبات التي تمرّ بكلّ صاحب تجربة إبداعيّة من الحضور والانتشار والتسويق.

ويؤكد الألمعي أنه يمكن للإبداع أن يُزرع إذا وجد تربة خصبة قادرة على الاستجابة، ولديها رصيد فعلي من التغذية الأدبيّة والانفتاح الثقافي، لكنه يعتقد أننا لم نصل بعد إلى أن تكون مشكلتنا الثقافية في مثل هذا الأمر ظاهرة لأنّ الحالات التي لدينا فرديّة أو قليلة ومتوزّعة في أكثر من فنّ، لهذا فإن تأثيرها ضعيف، وحضورها أضعف، ولا يمكن أن تعيق مسيرة ثقافية كاملة يقف خلفها أناس وأعون وقرّاء يستطيعون تقديم التجارب بشكل صريح وواضح.

ويشير الألمعي إلى أن لديه قناعة خاصّة بأنّ الإبداع في ذاته قمع، فحين يكتب السارد نصّاً سردياً يقمع بطله بشكل مستمرّ، وحين يكتب الشاعر قصيدة شعريّة يمارس الدور ذاته مع ذاته الأخرى التي تسكن أبيات قصيدته، ولعلّ الروائي أكثر المبدعين قمعاً لأبطاله الذين يحبّهم وقد يكره بعضهم في عمله، لكنّه يقمع ذاته من أجل أبطاله، المسألة هنا ليست في القمع بل المسألة في القدرة على إقناع الابن أو البنت باهتمامات الأب التي يمكن أن تتحوّل مع الأيام والشهور والسنوات إلى همّ آخر لدى الوارث، وقد تتحوّل إلى إبداع مختلف حين تتملّكه التجربة، وتشعره بقيمتها الإنسانيّة والفنيّة قبل أن تغريه بحضورها الاجتماعي، وهنا مربط الفرس وهو الحضور الاجتماعي الذي أصبح يراهن عليه كثير من المنتسبين للإبداع، لأنّه في اعتقادهم يخلق الوجاهة، وهذه قد تكون معضلتنا الكبرى.

الشاعر أحمد قران الزهراني يرى أنه ليس هناك ما يسمى بالموهبة المتوارثة، وإنما نستطيع أن نقول: إن هناك تأثراً وتأثيراً تنتقل بسببها صنعةٌ ما إلى الأبناء، ربما ينجح بعض منهم وربما يخفق، لكن الموهبة لا تورث خاصة في مجال الإبداع، وبشكل خاص في الإبداع الشعري، لكن ربما يكون ابن المطرب مطرباً إذا كان صوته يؤهله، وابن الممثل ممثلاً، بينما لا يمكن أن ينطبق ذلك على العمل التشكيلي أو الإبداع الشعري والقصصي، مشيراً إلى أن الملكة الإبداعية ليست صنعة وإنما موهبة تتشكل بالقراءة والخبرة المعرفية والإبداعية.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة