Monday  15/11/2010 Issue 13927

الأثنين 09 ذو الحجة 1431  العدد  13927

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

وجهات نظر

           

الإنسان العاقل هو ذلك الشخص الذي يستخدم عقله للاستفادة من التراكم المعرفي والحضاري أثناء تواصله مع الآخر أخذاً وعطاء وإذا أردنا أن نحدد هذه العلاقة نجد أنها عبارة عن علاقة الأنا بالآخر وهي جدلية ثنائية لا ينبغي ولا يجوز أن نلغيها أو أن نتجاهلها والسكوت عنها إذ إنها كينونة قائمة في طبيعة الحياة، ولعل الثنائيات الموجودة في الكون مثل الظواهر والطبيعة، البرد والحر، النور والظلمة، الثابت والمتحول، والنسبي والمطلق، والصدق والكذب هي بصورة ما ترمز إلى علاقة الأنا بالآخر، علماً أن جدلية الأنا بالآخر تعني استحالة وجود أحدهما دون معرفة الآخر، أي لا يمكن أن تكون الذات إلا بوجود للآخر، وهذه بديهية باستثناء الذات المطلق (الإله).

إن سلوكنا مع الآخر لابد له أن يكون مبنياً على الوعي بأنه لدينا القدرة على تعاملنا مع الآخر، أي القدرة على الخروج من الذات ومن ثم التعامل مع الآخر وطبعاً فإن القدرة على الخروج من الذات إنما تعني الثقة بالذات وقدرتها على امتحان ما لديها من الأخطاء وهي حصيلة وعيها بما حولها ومن ثم التصرف استناداً إلى موروثاتها الثقافية والبيئية، وفي هذه الحالة فقط، أي عندما يكون لدينا القدرة على الخروج من ذواتنا والتواصل مع الآخر، نكون قد حققنا مفهوم الإنسان والإنسانية في الرقي والارتقاء ووصلنا إلى المراتب التي تكرِّمنا كبشر، فعندما تقول صاحب السمو لماذا تستعمل هذه العبارة للحديث عن الآخر؟ طبعاً نستعملها لأن المخاطب وصل إلى مرتبة السمو.. ولماذا نقول فلان نبيل؟ نقولها لأن المقصود في الخطاب وصل إلى مرتبة النُبل، لماذا نهانا الإسلام عن التجسس والغيبة والقذف؟ لأن الله يريد للإنسان (للأنا) أن يتعامل مع الآخر بشهامة وسمو ونُبل.

إن خروجنا من ذواتنا وتواصلنا مع الآخر يعني أن ذلك التواصل يتحقق ضمن حدود الآداب والسلوك المتعارف عليهما من قبل المجتمع بأخلاقه وعاداته المحمودة التي تبين لنا واجباتنا تجاه الآخر، وحقوقنا وواجباتا في احترام الآخر وإعطائه حقوقه، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى دفع الآخر لاحترامنا وإعطائنا حقوقنا، وبهذا تتحقق تلك الجدلية الثنائية الغالية بين الأنا والآخر.

بالطبع لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده بعيداً عن أخيه الآخر، الأمر الذي يضع كل فرد أمام مسؤوليات اجتماعية خاصة لابد لكل فرد أن يتحملها إذا أراد أن يكون إنسانا يمكن وصفه بأنه ماجد أي (Gentleman) حسب التعبير الإنجليزي، ولكن لسوء الحظ هناك كثيرون لا يستطيعون الخروج من ذواتهم وبالتالي لا يمكنهم أن يتواصلوا مع الآخر إلا من منظار الأنا لديهم والنتيجة أنهم لا يتحملون مسؤولية تجاه الآخر، هذا النمط من الناس لا يمكن وصف أصحابه إلا بأنهم يعيشون ضمن إطار اسمه اللؤم.

تتعامل مع أحدهم بميزان الخير والأخلاق فلا تلقى منه إلا الشح ودناءة النفس، ومهما حاولت معه، تجد أنه يبقى ضمن ذاته ولا يخرج عن الأنا ولا يشعر مع الآخر، ويحصر رؤيته للأمور بذاته فقط، متمسكاً بفردانيته ولا يؤمن إلا بما تمليه عليه أنانيته وحبه لذاته، يقيِّم الآخر تقييماً مبنياً على جهله بالآخر ودون معرفة طبيعة ذلك الآخر معتقداً أن له الحق في إصدار الأحكام على الآخر دون تحفظ وغير قابلة للنقض، وهنا نسأل من أعطاه الحق في إصدار هذه الأحكام؟

لقد أثبتت التجارب والدراسات أن الأحكام التي تصدر عنهم أو عن غيرهم تمثل ذواتهم، الخسيس يعبِّر عن نفسه بأحكام خسيسة، والطيب يعبِّر عن نفسه بأحكام طيبة، وبالطبع الأول يصدر أحكامه دون أن يخرج عن ذاته، والثاني يصدر حكمه بعد أن يكون قد تخلص من الأنا وخرج عن ذاته.

هناك قصة عن حاكم أراد الخروج إلى الصيد وطلب من وزيره مرافقته، ولكن الوزير رفض طلبه وأصرّ على عدم الخروج، فغضب عليه الحاكم وأمر بسجنه وذهب للصيد، وأثناء الرحلة وصل إلى غابة تحكمها قبيلة من عادتها أن تقتل كل من يوجد على ظهره شامة معينة، وقد أمسكوا ذلك الحكام لقتله إذا وجدوا تلك الشامة ولكنهم لم يجدوا تلك العلامة فأطلقوا سراحه، وعندما رجع إلى قصره طلب الوزير وقصّ عليه الحكاية، فضحك الوزير وكشف عن ظهره، ولدهشة الحاكم فقد شاهد الشامة على ظهر الوزير، وعندها قال له الوزير: لو رافقتك لقتلوني ولكن الحمد لله أني لم أرافقك، فقال له الحكام معتذراً: آسفٌ على تصرفي معك فقد أصدرت حكمي عليك بذلك الحكم لأنني لم أستطع أن أتخلص من ذات (الأنا) وظلمتك ووضعتك بالسجن ولكن الحمد لله كان ذلك من مصلحتك.

الواقع أن من يصدر حكماً على الآخر دون التخلص من ذاته إنما يصدر حكماً معبراً عن ذاته، إذ إن اللص يعتقد أن الناس لصوص لأنه لص في ذاته، والطيّب يرى الطِيْب في الآخر لأنه طيّب في ذاته، ويروى أن رجلا أرسل ولديه إلى مصر وبعد عودتهما سألهما عن انطباعاتهما عن ذلك البلد، فقال الأول إنها بلد مملوءة بالفساد والرذيلة، وقال الثاني إنها بلد خير وعطاء وحضارة، فقال الأب للأول لقد عبرت عن نفسك الشريرة بحكمك، وقال للثاني وأما أنت فقد رأيت نفسك الخيّرة بحكمك، وإذا أمعنا النظر بهذه الأحكام نجد أنها ليست إلا إسقاطات نفسية فقط تكشف ما في الصدور.

عودة إلى أولئك الذين يعيشون وسط ظلام دناءة النفس والتي لا يستطيعون الخروج منها والتواصل مع الآخر بعيداً عن أنانيتهم ويلقون التهمة على الآخر استناداً إلى أهوائهم ونفوسهم المضطربة التي لا تهدأ إلا إذا اعتدت على خصوصية الآخر، نسألهم من أعطاهم الحق في تنصيب أنفسهم قضاة يصدرون الأحكام على الآخرين، الحكم لله وحده ولا يحق لأي إنسان أن يلقي التهم جزافاً لأن الله لم يخوّل أحداً في الاعتداء على حقوق الآخرين، حقاً إن مثل هؤلاء الناس يستحقون الشفقة عليهم وعدم الالتفات إلى أقوالهم.

وفي هذا المجال فقد أعجبني البيتين من الشعر من قصيدة لرجل من بني سلول حيث يقول:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

غضبان ممتلئ علي إهابه

إني وحقك سخطه يرضيني

 

الأنا والآخر
مي عبدالعزيز عبدالله السديري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة