Wednesday  24/11/2010 Issue 13936

الاربعاء 18 ذو الحجة 1431  العدد  13936

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

عندما أنهيت قراءة المقالة التي كتبها الزميل العزيز الدكتور جاسر الحربش - في الجزيرة بالعدد 13906 وتايخ 17-11-1431هـ والعدد (13908) في 19-11-1431هـ حول زينا التقليدي وتوصيف أجزائه المختلفة

من غترة وطاقية وثوب، صعّدت النظر إلى الصورة التي يطل بها علينا الدكتور جاسر من أعلى زاويته فوجدته متزينًا (بالهدوم) نفسها التي أمعن في خلعها. لذلك لم يخالجني أي شك في أن ما ورد في المقالة حول الزي التقليدي لم يكن من قبيل التندر أو التذمر من الزي في حد ذاته - بل من المغالاة التي قد تصل إلى حالة من التقديس نحيطها به، وكأن انتماءنا وثقتنا بأنفسنا ملفوفتان داخل هذا الزي، نخاف أن نخرج عنه. وقد رجعت بالذاكرة إلى ما قبل خمس وخمسين سنة، حينما زرت بصحبة أخي الأكبر - رحمه الله - قريباً لنا في الظهران كان يعمل فنياً في شركة أرامكو. وقد دخلنا غرفته في (اللين Lane ) وجلسنا منتظرين وصوله. فلما وصل قام فوراً - وقبل أن نراه - بخلع ملابس العمل وارتداء الزي المعتاد. لم يكن في هذا التصرف احتقاراً منه لزي العمل، بل تكريم للزي التقليدي بأن يكون هو زي المناسبات الاجتماعية العديدة التي منها استقبال الضيوف في المنزل. في مقابل ذلك سمعت قبل بضع سنوات من رجل محترم يعمل محامياً في مدينة جدة ملاحظة مشحونة بالغيظ والتذمر من قيام طبيب سعودي بالكشف عليه وعلاج أسنانه وهو لابس غترته وعقاله، وكان من آن لآخر يرفع طرف الغترة ليحول دون تدليها في فم المريض المفتوح (ومن حسن الحظ أن العقال لم يسقط عليه!). أجل. هناك أوضاع لا يصلح فيها لبس الثوب والغترة والعقال. فالعسكريون ومضيفو الطيران الرجال وكذلك رجال الإنقاذ في أي مجال وغير هؤلاء ممن يعملون في بيئة تتطلب سرعة الحركة والخطو السريع وتجنب الحوادث لا يلبسون الزي الوطني التقليدي. ولأن كاتب هذا المقال وكذلك الدكتور جاسر الحربش ينتميان لمهنة الطب، فدعونا نترك الآخرين ونتوجه إلى ممارسي المهن الصحية. عندما ترى طبيباً للنساء والتوليد يخرج من غرفة الكشف وهو لابس ثوبه وغترته وعقاله، وكمّ الثوب الأيمن ينتهي (بكبك) مفتوح فيتدلى الكم إلى أسفل ويسهل على الطبيب من أجل الفحص أن يشمر عن ساعده ويلبس القفاز - فهل يعجبك هذا المنظر؟ ألا تشعر فوراً أنه أجمل للطبيب أن يلبس زي العمل المتعارف عليه، حتى لاتجفل المرأة حين ترى أن ابن جلدتها بشحمه ولحمه وهندامه يدخل للكشف عليها. من حسنات زي العمل في هذا المرفق أنه يجمع بين الاعتبار المهني والاعتبار الاجتماعي في مثل هذه المقابلة بين الطبيب والمريض.

غير أن هنالك اعتبارات أخرى غير الاعتبارات الاجتماعية تتطلب إعادة النظر في مسألة ارتداء الزي التقليدي خلال الممارسة الطبية. وأعنى بها الاعتبارات الصحية. نحن نرى الآن تشديداً على الأخذ بالاحتياطات الصحية في المستشفيات، التي طالما أهملها الأطباء وأفراد هيئة التمريض، والتي يستبعد أن تكون أحد أسباب تفشي العدوى في المستشفيات. ومن ذلك ضرورة غسل اليدين قبل وبعد فحص المريض والحرص في لمس أكر الأبواب وحاملات المحاليل وحواجز الأسرة لأن تلوث الأيدي قمين بنقل الجراثيم إلى المرضى، وهم ضعاف المقاومة. فإذا كان الأمر كذلك فما بال الأطباء يتجاهلون ما تلعقه أسافل ثيابهم وأطراف غترهم من كائنات دقيقة غير بريئة من تهمة العدوى؟ وكذلك ما بال الممرضات يسحبن مع ثيابهن أو تنوراتهن الطويلة ملايين الجراثيم إلى غرف المرضى: أليس لبس البنطال مع جاكيت أو بالطو ساتر أخف في الحركة وأبعد عن مظنة العدوى وأسهل في التغيير إن لزم التغيير ؟ ثم انظروا ماذا تجلبه هذه الثياب التي يرتديها هؤلاء وأولئك - بكل ما علق بها من ملوثات جرثومية عند العودة إلى المنزل ! لعلي أبالغ بعض الشيء، فلنترك هذا كله إلى الاعتبارات الثقافية. هل هناك تنافر بين ثقافة الزي وثقافة العمل، بحيث يلزم أن نقدم إحداهما على الأخرى - أي أن يكون لإحداهما الأولوية على الأخرى في كل حال؟ إن مثل هذا التنافر لا يوجد إلا في أذهان المتعصبين الذين يميلون إلى الحكم المطلق في كل شيء ولا يتركون للحكم النسبي مساحة في آفاقهم. أعرف أن كثيراً من الأمهات - مثلاً - يتذمرن من فرض اللباس الوطني (التقليدي) على أطفالهن في المرحلة الابتدائية - خاصة - مع أنهن يحرصن على زينتهم بالطاقية المزركشة والثياب الجديدة في مناسبات الأعياد والاحتفالات العائلية وحضور صلاة الجمعة. والسبب واضح. وهو أن الطالب يركض ويلعب ويتحرك كثيراً، والثياب لا تلائم ذلك كل الملاءمة، كما أنها قد تتعرض للاتساخ بحيث يلزم خلعها بالكامل وغسلها وكيها، في حين أن الملابس (غير التقليدية) تتكون من قطع يمكن استبدال بعضها في حالة تلوثها أو تنظيفها بالفرشة مثلاً. هذه إذن مسألة نسبية وإن كانت صغيرة. أما المسألة الأكبر فتكمن في المفهوم الثقافي. فإن (البحث عن الذات) من خلال التشبث بالزي التقليدي واعتباره رمزاً وحيداً للانتماء الوطني وعلامة مسجلة ترفع الرأس، إنما هو ضرب من النرجسية ومسوغ للانكفاء على الذات بدلاً من البحث عنها وتفعيل طاقاتها. والأمم تختلف في أزيائها التقليدية بلا شك. ولكنها لاتعّرف بها. فنحن في مجالسنا نحكي عن بعض الشعوب - مثل اليابانيين - فنصفهم بحب العمل، أو عن الألمان فنصفهم بالجدية والإتقان. ولكننا لانعّرف الشعوب بأزيائها.

فالزي مظهر اجتماعي يستجيب لظروف الحياة المعيشية اليومية والاجتماعية والمناخية في المجتمعات المحلية، ولا ينبغي أن يكون شعاراً قومياً أو مذهبياً، أي لا ينبغي (أدلجته). والأمثلة التي يمكن أن نستحضرها في هذا المقام تجعل أدلجة الزي أمراً غير مقبول. فقد كان شعار القمصان البنية من مظاهر استعراض القوة عند أتباع حزب هتلر النازي. ومن وقت قريب كان لبس القمصان الحمراء يميز أنصار الحزب المتمرد في تايلند بما عرف عنهم من ميل إلى العنف. ولأن الحديث ذو شجون فإنني عندما كنت ذات سنة من السنين في الكويت لاحظت في إحدى المناسبات الاجتماعية أن مجموعة من المشاركين كانت تلبس البدلة الأفرنجية ومجموعة أخرى كانت تلبس الملابس الكويتية التقليدية. فلما سألت وزير الصحة آنذاك - الدكتور عبدالرحمن العوضي - فهمت منه أن القوميين الكويتيين يفضل بعضهم لبس البدلة، أما المحافظون فيلبسون الزي التقليدي. ولا أظن تلك الظاهرة قائمة الآن بعد انحسار المد القومي، وقد يكون التبس عليّ الفهم، ولكني أردت توضيح ما أقصده بالأدلجة. ولا شك أن اتخاذ الزي شعاراً للتوجه الإيديولوجي - قومياً كان أو حزبياً أو مذهبياً أو طائفياً - لايساعد على تماسك المجتمعات. ولكن هذا لاينطبق على قضية الحجاب التي أقلقت المجتمعات الأوربية العلمانية، لأن الذي أضفى عليها هذا الطابع الإيديولوجي المصطنع هم الأوربيون أنفسهم، والذين لم يعتبروها مظهراً من مظاهر السلوك الفردي الذي يختاره الشخص لنفسه بوحي من قناعاته الدينية مما لايتعارض مع مبدأ الحرية الشخصية والتنوع الثقافي اللذين تفاخر بهما المجتمعات الغربية.

وعوداً على بدء فإن الزي الذي نلبسه يجب أن يكون ملائماً لما يلبس له. فإن كان الزي التقليدي هو المناسب للأجواء الجافة والرطبة والباردة والحارة فقد لايكون ملائماً بالضرورة لبيئة العمل وطبيعته. وهذا يختلف من مهنة لأخرى. فإن ما نرى أنه ينطبق على المهن الصحية قد لا ينطبق على المحامين مثلاً أو على موظفي المكاتب. ولكن هل رأيتم موظفاً على مكتبه - خاصة إذا كان مسؤولاً - قد شمر عن ساعديه وعلق غترته وعقاله على المشجب، ليفرغ كل طاقته في إنجاز عمله اليومي المعتاد؟ ولو فعل ذلك هل سيحصد الشكر والتقدير من رئيسه أو من المراجعين لمكتبه؟

ليس المراد من كل ذلك أن نقول: إن ثقافة العمل يجب أن تطغى على ثقافة الزي التقليدي. بل العكس هو المقصود. فإن ثقافة العمل تشمل احترام بيئته وأدائه بإتقان وتلبية المتطلبات المهنية بما فيها الزي الملائم له، وكل ذلك كفيل بزرع الثقة في أنفسنا وقدراتنا الذاتية وتحقيق ما نبغى من إنجازات، مما يجعلنا نكسب احترام الآخرين، ويجعلنا ننصرف في حال من راحة البال ورضا النفس والاعتزاز إلى ممارسة حياتنا الأسرية والاجتماعية بالزي الذي نرتضيه. ملبوس العافية.

 

لا صدام بين ثقافة الزي وثقافة العمل
عثمان عبدالعزيز الربيعة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة