Wednesday  15/12/2010 Issue 13957

الاربعاء 09 محرم 1432  العدد  13957

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

مدارات شعبية

 

نورك من خلف الشبّاك.. يجهر مثل الأكسجين!

 

رجوع

 

كتب: عبد العزيز القاضي :

ظواهر لغوية في قصائد حجاب المغناة الفنان الشاعر حجاب بن عبدالله بن نحيت نموذج رائع لتمازج الموهبة الشعرية بالموهبة الفنية، نموذج يفوق - في تقديري - كل النماذج التي جمعت هاتين الموهبتين، وهم قليلون جدا، أذكر منهم المرحوم سلامة العبدالله، والفنان خالد عبدالرحمن.. والشاعر الكبير خلف الهذال.. فسلامة وخالد عبدالرحمن فنانان أكثر منهما شاعرين، بينما خلف شاعرأعظم منه فنانا.. أما حجاب فهو فنان موهوب وشاعر عذب مبدع ممتع، ومعظم أغانيه هو من كتب كلماتها على حد علمي..

وحجاب تسيد الساحة الفنية في نجد بادية وحاضرة في حقبة الستينيات الميلادية وكان له حضور مميز، وقبول لدى هواة الفن في نجد والخليج، وربما يعود هذا لكونه من أوائل الفنانين الذين سجلوا الأغاني على الإسطوانات ووصلوا إلى الجمهور في نجد.

ويتميز حجاب بصوت قوي جميل، وألحانه عذبة، وقصائده تتفاوت قوة وضعفا، وكثير منها من النوع الغنائي الذي يتصف بالبساطة والسهولة التي تنزل بالكلمات من هيبة الشعر إلى عامية الكلام العادي، ولم يكن الشعر - حسب ظني - ينزل إلى هذا المستوى اللغوي قبل أغاني حجاب, ولم يكن يُقبل لولا أن الغناء - وكان جديدا على الذائقة النجدية بشكله الطربي المعتمد على الآلات الموسيقية المتعددة وخصوصاً العود - سوّغه في الذوائق، بحيث رقَعَت لذة اللحن ما تخرَّم من جلال الشعر برخاوة الكلمات، وعامية التعبير.

ومن يتابع قصائد حجاب المغناة، ويركّز فيها لغويا يجد فيها ظواهر لغوية تستحق التأمل والتوقف، فهي لا تسير - لغوياً - على الوتيرة المعتادة, بل فيها تجديدٌ جنح بها إلى الغنائية أكثر من الشعرية، والغناء يحتاج في بعض الأحيان إلى مراعاة اعتبارات تأثيرية قد لا يسمح بها الشعر، وقد كانت أم كلثوم تغيّر في بعض كلمات القصائد مراعية هذا الاعتبار، فقد غيرت كلمة (بلى) إلى (نعم) في مطلع البيت الثاني من قصيدة (أراك عصي الدمع)، وهو تغيير لا تسمح به اللغة، لأن الكلمة جواب عن استفهام يقول (أمَا للهوى نهيٌ عليك ولا أمر؟)، والاستفهام التقريري يجاب عنه ب(بلى) لا ب(نعم)، وهذا التغيير فصل معنى البيت الأول عن الثاني، وهذا يسوغ - في تقديري - غنائيا وإن لم يسغ لغويًّا، لأن الاستئناف في الأغنية أضاف أبعادا تأثيرية للمعنى وإن كان مخالفا للغة، وأم كلثوم كانت ذات حس فني مرهف يفتقده كثير من الفنانين اليوم.

وأغاني حجاب لا تقوم على هذا النوع من التغيير في الكلمات، بل جاء التغيير فيها في الأساليب عامة، فقد اشتمل كثير منها على مزيج من عدد من اللهجات المحلية وغير المحلية, ففيها مزيج بين اللهجة البدوية واللهجة الحضرية، ومزيج من الأساليب العامية والفصيحة، وقد تجلت في كثير من قصائده لهجات حجازية وخليجية وشامية، ولعل هذه الأخيرة هي الأبرز.. يقول:

وتعرض بخدٍ ما بعد لمسه المكياج

عسى الله يسترها وعسى الله يعافيها

تمايل بجسمٍ ينطوي كنه الكرباج

تذوب القلوب العاشقه من تثنيها

فكلمة (المكياج) لم يكن لها حضور في المجتمع النجدي حديث - العهد بالحضارة - قبل ظهور التلفزيون في نجد؟ ومن ذا الذي كان يعرف (الكرباج) وهو السوط في ذلك الزمان من عامة نجد؟ والكلمة دخيلة على العربية فهي تركية الأصل تعربت قديما.. ويقول:

مسكين هالفكر الذي محصور

ما حب غيرك بس يا مغرور

والفكر المحصور أظنه يقصد به الفكر الضيق، وهذا التعبير جديد الاستعمال بلا شك في الزمان الذي ظهرت فيه الأغنية، وأظنه من إفرازات الحضارة والترف الفكري.. ويقول:

يسمى الحب تقدير وعنايه

ومبدأه› تحيه واحتراما

بعكسه إنت تعمل بي جنايه

تصومني بلا شهر الصياما

فكلمة (عنايه) ويقصد بها الاعتناء والاهتمام, لم تكن توظّف في الشعر النبطي - حسب تقديري - قبل حجاب، وإن وظّفت فبغير هذا الاتجاه الترفي في لغة الشعر، وعبارة (تعمل بي جنايه) واضح أنها دخيلة على اللهجة النجدية، و(الجناية) - وهي فصيحة - لا تستعمل في نجد لا في الشعر ولا في سائر الحديث، لكنها تستعمل في اللهجة المصرية والشامية وغيرها.. وكلمة (ومبدأه) فصيحة اضطره الوزن إليها.. ويقول:

يا معلمه..

أعطيها دروس زياده

حتى تنال الشهاده

ندخل جو السعاده

نعمل حفله!

وعمل الحفلات في المناسبات السعيدة وخصوصا مناسبات النجاح أسلوب مجلوب من العواصم المجاورة، ولم يكن معروفا في نجد بالصفة التي يذكرها حجاب هنا.. ويقول:

ياهوه طف النور يا هوه

طفه ترى نورك كفايه

فكلمة (ياهوه) - للمناداة باحتجاج - تستعمل في الحجاز ولا تستعمل في نجد إلا تقليدا، ويقابلها في نجد عبارات مثل (يا شين) و(يا شيت) و(ياشيخ) وغيرها.. ويقول:

دخل عيونك يا دكتور

عندك دوا للمسحور

يا سيدي اعمل بي معروف

من أجل الله يا يادكتور

والقصيدة كلها تجري على هذه الوتيرة اللغوية، والكلمات كما هو واضح شامية صرفة, ومثلها:

لما (تمرق) من جنبي

ما تحاكيني وش ذنبي

يعني (مش) ملزوم بي

أو على شان أصلي بدوي!

وكذلك:

ويا (عيب الشوم)

أخلف علي مبداه

وكذلك:

نورك من خلف (الشباك)

يجهر مثل الأكسجين!

فالكلمات المحصورة بين الأقواس كلها شامية، أما كلمة (الأكسجين) في البيت الأخير، وأظنه يقصد بها بريق (لِحام الحديد) فمؤشر على التأثر بمصطلحات النهضة الناشئة في تلك الأيام. وإذا كان هذا هو المعنى المقصود فإن الخطأ واضح في المعنى، ف(الأكسجين) وهو ما يُعرف ب(باللحام البارد) ليس له بريق كاللحام الحار, وهو المناسب للمعنى، وهو المقصود كما يبدو.

لقد كانت مثل هذه العبارات تبهر الطبقات المترفة التي تسافر للشام وغيره, وتمنحها شعورا بلذة السماع واستعادة الذكريات إضافة إلى لذة السياحة، فهي كلمات تلهب مشاعر عشاق الشام ولبنان وغيرهما في تلك الأيام، كما كانت تبهر الطبقات المطحونة التي فاتتها متعة السفر والسياحة، فعوضتها هذه المفردات لذة الاستمتاع بالكلمات والأساليب الشامية الحلوة، وربما وظفها بعض البسطاء في لغته - تباهيًا - بطريقة بدائية.

وفي قصائد حجاب المغناة مصطلحات عسكرية واقتصادية وغيرها، وكانت تعبر عن تأثر المجتمع بهذين المجالين، فقد كانت العسكرية - ولا تزال - تمثل أبرز اهتمامات أبناء البادية، أما التجارة فمهنة حضرية، وبما أن حجاب بدوي متحضر، فإن لغته كانت مزيجا حُلوًا من اندماج اللهجة البدوية بالحضرية.. يقول:

علشانها خليت الأعمال والإنتاج

وصرت أعمل الأشعار فيها وأغنيها

ف(الإنتاج) مصطلح اقتصادي تجاري بحت, لكنه لا يُوظَّف في مثل هذا السياق، وهذا يدل على حالة التفاصح التي كان حجاب يركن إليها أحيانا في بعض أشعاره، وتوظيف هذه الكلمة هنا أظنه من التوظيف الذي افتقد التوفيق. وهذا النوع من التوظيف يمكن تسميته - تجاوزا - (دلع الحضارة) في ذلك الوقت، والفلسفة اللغوية الحضارية تمثل وجها من وجوه الترف في تلك المرحلة، وتسبق بتوظيف مفردات لما تنتشر بعد في المجتمع النجدي الكادح المنغلق في تلك الأيام. لقد كان حجاب يُدخل في قصائده أساليب جديدة كانت تمثل (أول قطفة) لحياة الترف إن صح التعبير، وكانت تمثل بداية ما يمكن تسميته تجاوزا أيضا لغة (التغنج) والتثاقف اللغوي، يقول:

إن ما حصل شوفك على القرب باسلوب

ما تنفع الوقفه ورا زلفة الباب

فكلمة (باسلوب) وتعني (الطريقة المناسبة) كانت استعمالها في مثل هذا المعنى يمثل موضة في تلك الأيام، والغريب أنه كان يُكتفى بالكلمة بلا صفة تحدد المقصود منها, ف(الأسلوب) ليس كله حسنا، لكن تعورف بين الناس على أن الكلمة إذا أطلقت أريد بها الجانب الحسن أو المناسب من جميع النواحي..

أما مظاهر محاولة المزج بين الأساليب العامية والفصيحة في القصائد فكثيرة في أغاني حجاب، يقول في قصيدة يعدد بها شروط الحب:

وتاسع شروطه لا تناظر ولا مجمول

وكن صافياً بالحب لا صرت مبلي به

وعبارة (كن صافيًا) فصيحة جاءت في ثنايا كلام عامي، وإقامة الوزن هو الدافع بلا شك إلى إيرادها.. ويقول:

ولو رقصت بأرض من البر خاليا

لقامت لها الاشجار ترقصْ وتطربا

.. إلخ

وهذا الهجين من المفردات لم يضف جديدا إلى الشعر النبطي، بل أساء إلى وقار الشعر الفصيح، والوزن وإن استقام على البحر الطويل من الشعر الفصيح في الشطر الثاني إلا أنه لم يستقم في الشطر الأول! وإيراد المفردات الفصيحة على الأوزان الفصيحة بالأساليب الفصيحة، لا يكفي لأن يكون الشعر فصيحا، إذ إن هناك قيودا أخرى يلزم الوفاء بها غير هذه، وأهمها قيد النحو وهو ما افتقده هذا البيت وغيره من أغاني حجاب ومن قصائد العوام التي تجنح للفصيح، أو التفاصح على وجه الدقة.. ويقول:

وجسمي يصاب بضغط ثقيل

ومع شدة الضغط دمي يفور

ومحاولة التفاصح في هذا البيت تمثلت في الأسلوب، وفي النظم على البحر المتقارب الفصيح، أكثر منها في الكلمات.. ويقول:

عيل صبري يا نعيم العود عيل

والمنايا قربت وأنت الوكيل

وامتلكت العمر مني والدليل

الجروح اللي بقلبي خافيات

فعبارة (عيل صبري) فصيحة صرفة، لكنها في البيت كركبة البعير كما يقول ابن الأثير!

وتوظيف العبارات والأساليب الفصيحة في القصائد النبطية أصبحت موضة ترفيه في هذه الأيام، يُلجأ إليها لإضافة المزيد من الإدهاش، وفي ظني أن مثل هذا التوظيف لا يضيف إلى الشعر النبطي، وإن كان السياق وجو القصيدة هو الفيصل في المسألة. وهذا وإن كان يبهر المتلقي العامي إلا أنه غير مقبول لدى الخبير الغيور على الفصحى، خصوصا أن معظم شعراء النبط الذين يلجأون إلى هذه الأساليب لا يجيدون الفصحى تحدثا وكتابة إجادة تامة، فيأتي منهم هذا المزج هجينا فَجًّا وإن أعجب بعضهم.

وفي ظني أن مثل هذه الظواهر اللغوية التي تتلاعب بجينات الشعر النبطي والفصيح معا، تبقى مقبولة إلى حد ما في الغناء، أما في الشعر غير المغنى فتبقى خاضعة للسياق ولتعدد الأمزجة وتفاوت الذوائق. والشاعر النبطي إذا تفاصح في شعره أتى بالعجائب، وأظن أن تسليط الضوء على هذه الظاهرة جدير بالدراسة والتحقيق.

إن هذا التعدد اللغوي في قصائد حجاب المغناة ظاهرة أمتعت غنائيا وإن لم تمتع شعريا، ويبقى حجاب علامة مضيئة في الفن الشعبي، فقد تجاوز كثيرا ممن سبقوه في هذا المجال وخصوصا مطربي الكويت الشعبيين وغيرهم، فهو فنان موهوب امتلك ناصية الفن وناصية الشعر، إضافة إلى حلاوة الصوت وعذوبة الألحان البدوية، وربما كان لمكانته الاجتماعية المرموقة في قبيلة حرب دور في تكوين شخصيته المتفردة، فهو شيخ من سلالة شيوخ. وستظل أغانيه خالدة على الرغم من أن الظروف النهضوية لم تساعده كما ساعدت فناني الحاضر، والموهوب يتكيف مع كافة الظروف، ويوظفها توظيفا يجذب المتلقي، وهكذا كان حجاب أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية.

وأخيراً أحب أن أشير إلى أني غير متأكد من نسبة كل القصائد التي استشهدت بنماذج منها هنا إلى حجاب، فربما كان قائلوها آخرين، وهذا لا يمنع، لأنها كُتبت على أسلوب حجاب في الغناء.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة