Saturday  18/12/2010 Issue 13960

السبت 12 محرم 1432  العدد  13960

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

كيف يستهلك الناس الإعلام..؟

هل أصبح الناس يأكلون ويشربون الإعلام..؟

هل يمكن أن يخرج الناس عن الإعلام..؟

هل يوجد شخص في هذا العالم -عالم اليوم- لم يتعرض إطلاقا لأي نوع من أنواع الإعلام..؟

هل يمكن أن نقول إن الإعلام هو ظاهرة العصر الحالي.. وهو مادتها المحورية.. وعشقها الكبير..؟

وهل يمكن أن يكون الإعلام هو شقنا وهو شخصيتنا؟ وهويتنا؟ ونفسيتنا؟ ومجتمعنا؟ وعالمنا؟

نعم.. الإعلام هو كل ذلك، بل أكثر من ذلك.. أصبح الإعلام هو الهواء الذي نستنشقه حرفا وصورة.. لغة وفكرا.. عملا وسلوكا.. الإعلام أصبح جزءا منا، بل وبشكل أدق أصبحنا جزءاً منه.. ولو حاولنا أن نفككه من دواخلنا لما استطعنا.. أو نفكك أنفسنا منه لما تمكنا..

الإعلام أصبح سيد العالم.. وإمبراطوراً لكل مواطني المعمورة.. وكل شخص في عالمنا اليوم يقدم نفسه طواعية، ويسلم ذاته باختياره ودون إجبار أو شروط مسبقة أمام الإعلام.. يخضع الجميع لجبروت الإعلام، وينساقون في دهاليزه.. وينجرفون في محيطاته التي لا يدركون كواهنها أو أبعادها أو أعماقها السحيقة..

الفرد لا يصدق إن قال أنه مستقل بفكره، أو معتد بثقافته، أو منتم إلى أصول تبعده عن تأثيرات الإعلام وأوهامه وسيطرته.. الفرد لا يمكن إلا أن يكون رقماً من أرقام الإعلام، والفرد هو معادلة وضعها الإعلام وهيهات أن يخرج هذا الفرد من هيمنة عالمية بطلها وسيدها وحاكمها هو الإعلام.. الفرد أعلن طلاقه الأبدي من عالم الاستقلال، وبات يرزح تحت استعمار اختياري/ إجباري .. إجباري في الدخول واختياري في البقاء، ولكن كما يقال اختياري بطعم الإجباري.. لأن إرادته قد سلبها الإعلام وبدد كل قواعد المقاومة.. وزرع فيه عناصر الاستسلام.. وبوادر الضعف والاستكانة الدائمة..

غيَّر الإعلام من مفاهيم الحياة، وقواعد العيش، وسمات الإنسانية، بل إنه صنعها، وقولبها، وأنتجها، وأعاد إنتاجها يوما بعد يوم، وعاما بعد عام وجيلا بعد جيل إلى أن أصبحنا مضغة يلوكها الإعلام، وسوائل يبتلعها الإعلام.. ويسترجعها، ويلفظها مرة أخرى ويستعيدها ويستجرها إلى أن أصبحت مادة مستنظبة من محتواها، مستهلكة في شكلها، ومجرد لقمة سائغة تتداولها الأفواه، وترتطم بها الألسن، ويقذف بها إلى كل الأماكن..

من يقول إنه يمتلك الموقف، أو يعتلي ريادة الثقافة، أو يصنع الكلمة، أو يرى استقلالية الفكر فقد جانب الحقيقة، فالإعلام هو الذي يؤثر في فكره وثقافته ومواقفه وسلوكياته، وما يشاهده الفرد وما يستمعه أو يقرأه هو إزاحة متعمدة لما قبله من شروط ومكتسبات وأفكار إلى حالة جديدة من التفاكر الجماعي، والمناقشة العامة، تؤدي حتما إلى زحزحة تفكير الفرد واستبداله بقيم جديدة وأفكار مختلفة وسلوكيات مستجدة على الشخصية الفردية والمجتمعية..

الإعلام أصبح في عيون الناس، وفي عقولهم، وأسماعهم وحواسهم ومستدركاتهم التذكرية والتخيلية، وأصبح لسانهم وفكرهم في كل ما يقومون به ويقولونه ويعملون بها.. أصبح صورتهم التي يشاهدونها، وأصبح صورة العالم التي يطالعونها.. فلم يعد لهم قيمة مستقلة، بل تداخل الإعلام في كل شي حولهم، في محيطهم وحياتهم وعلاقاتهم ومفاهيمهم وأصبح اللغة التي يتكلمون بها، واللغة التي يفهمون بها العالم..

حركة التحرر من الإعلام لم تعد مجدية، وليس لها أدنى فاعلية.. فقد أحكم الإعلام سيطرته، وعمَّق من نفوذه، وهيمن على الكرة الأرضية بمحتواها ومضمونها وثقافاتها المتعددة.. وأطبق على الأنفاس وأصبح يحكم ويظلم ويستبد ويمارس سلطاته دون مقاومة، ودون اعتراض.. لقد نجح الإعلام في زرع الخمول في الأذهان، والتبلد في الأحاسيس، والاستسلام في العقول.. ولم يعد الإعلام يأبه لأي قوة، وأي احتجاج، ولأي مظاهرات التمرد، أو قرارات الاستقلال الذاتية..

دخل الإعلام مرحلة الاستئساد على الجميع، ومرحلة التفوق على العقول، ومرحلة الصوت الواحد الذي سطا على الجميع وأمعن في استعباد كل المتلقين في قارات الأرض ومحيطات الكون.. واستصدر قراراته الأممية.. وبدا الإعلام يعبث بالتاريخ، ويلغي حدود الجغرافيا، ويمزق خرائط الثقافة.. كما بدأ في ثقافة الدمج الكوني، فألغى هويات الناس، وخرق قوانين الطبيعة الإنسانية، وفرق الناس فيما بينهم، ولكنه جمعهم حوله ليكونوا مواطنين من الدرجة الأولى في مملكة الإعلام وإمبراطورية الاتصال الجديد..

استطاع الإعلام أن يلغي السياسة، ويجمد التاريخ، ويعبث بالتراث، ويبني قيمه الجديدة التي زرعها على مساحات الكون الواسعة، وأمم ثقافات العالم، وأدخل الناس ومجتمعاتهم في مرحلة استعمار جديدة، وانتداب على الثقافات، ووصاية على ممتلكات الذات والمجتمع.. فلم يعد أحد يقول، أو أحد يرفض، أو أحد يصطدم، أو أحد ينتهك حرمات الإعلام، وسياجات العالم.. وأصبح هذا العالم الذي نعيشه مفتوحا للجميع، ومغلق على الجميع، فهو أشبه ما يكون بسجن كبير، يعيش فيه الأبيض والأسود، والصغير والكبير، والمرأة والرجل دون تفريق أو اختلاف أو تمايز.. فالجميع سواسية في عدالة الإعلام.. والجميع قرر أن يتنازل عن خصوصيته من أجل خصوصية أشمل، وتحت مظلة أوسع.. الجميع اختار أن يكون الإعلام سيده، وأن يقدم أوراق اعتماده لدى إمبراطورية الإعلام.. وعبر سفرائها المعتمدين..

وقوة الإعلام هي في كون من يعيش الإعلام لا يدرك أنه داخل هذه الإمبراطورية، ولا يعلم أنه يقع تحت تأثيرها، ولا يعرف أنها جرَّدته من مخالب المقاومة، وأدلجته في فكر وقيم وسلوكيات جديدة.. وقوة الإعلام تأتي دون معرفة لحضورها، وتسطو دون إدراك، وتتسلل دون رقيب.. وقوة الإعلام ناعمة لا يستشعرها الضعفاء، وشاملة لا تدركها الأجزاء، وغائبة لا يتحسسها الحضور.. فهي صامتة ولكن بكل لغات العالم، وهي شاخصة في كل عيون الناس، ومهيمنة على جميع العقول.. ومن أراد أن يخرج من الإعلام، فهو يدخل من باب آخر، ومن أراد أن يعلن التمرد تراه ينساق إلى سجن جديد، ومن أراد أن يبقى كما هو فهو كما هو.. لن يتحرك إلى الأمام، ولن يعود إلى الخلف.

(*) المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

alkami@ksu.edu.sa
 

نهاية العالم.. وبداية الإعلام
د. علي بن شويل القرني(*)

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة