Monday  20/12/2010 Issue 13962

الأثنين 14 محرم 1432  العدد  13962

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

لا يا أبا عبد الرحمن! مذهب الواقفة ليس مذهب الصحابة الكرام
كتبه : د. عبد الله بن عبد العزيز العنقري (*)

رجوع

 

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد...

فقد اطلعت على ما كتبه الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في جريدة الجزيرة، في العدد (13921) بتاريخ 3-12-1431هـ في رده على فضيلة الشيخ عبد الرحمن البراك، واستغربت ما اختاره أبو عبد الرحمن بن عقيل من ترجيح أنّ الصواب هو ما قالت به الواقفة في أمر القرآن!.

ولم تكن الغرابة مقصورة على كون الحق على خلاف ما قالته الواقفة فحسب، بل كانت الغرابة أعظم في نسبته هذه المقولة إلى أصحاب نبينا.

وقبل الدخول في مناقشة ما قال أبو عبد الرحمن وفّقه الله لكل خير، فإنّ من المهم التأكيد على أنّ قول أهل السنّة بأنّ القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق من أعظم أمور الاعتقاد جلاءً ووضوحاً، لأنّ عناية أئمة السنّة ببيان هذا الاعتقاد لم تكن محصورة في تدوينه في المصنّفات، بل كان اعتقادهم في القرآن مصحوباً بالتطبيق الواقعي الذي رسّخه في القلوب، إذ تحمّلوا رضوان الله عليهم بسبب اعتقادهم في القرآن أشد أنواع الابتلاء؛ بما يمكن معه القول: إنهم لم يُمتحنوا في شيء من اعتقادهم، كما امتُحنوا في اعتقادهم في القرآن، فجلَّوا أمر الاعتقاد فيه بالكتابة المسطورة والمواقف المشهودة المشهورة، وكلامهم أوسع من أن نستقصيه في عجالة كهذه.

وقد رمى أبو عبد الرحمن من قال بالقول المقرر عند أهل السنّة بعبارات شديدة، من أعجبها أنّ مستند القائلين به مجرّد التقليد، وأنه قول من قفا ما ليس له به علم! جازماً بأنّ السلف الأول لم يصح عنهم كلمة واحدة في الموضوع، وأنّ الأمر إنما ورد عن سفيان الذي لم يدرك من الصحابة أحداً! كما أنّ أبا عبد الرحمن أيضاً نسب القول بالوقف إلى مَن لم يكن من القائلين به أصلاً، بل قال بمسألة أخرى غير الوقف، كما يأتي إيضاحه بعون الله في آخر المقالة، وكل ذلك مما يُستكثر من مثل أبي عبد الرحمن؛ لما تضمّنه من مجانبة بينة للمنهج العلمي السليم الذي ينبغي للباحث أن يجعله نصب عينيه.

ومرادي هنا أن أناقش الشيخ فيما كتبه من خلال أمور أربعة آمل أن يجيب عنها بالأسلوب اللائق بالعلم وأهله، دون اللجوء إلى العنف في الرد، أو السخرية أثناء العرض، فإنّ ذلك مما لا يعجز عنه أحد، وهو بكتّاب المقالات الساخرة أولى من أهل العلم والبصيرة، وذوي السّنّ والتجربة.

وأنبّه من الآن إلى أني أقتصر عند عزو ما أنقل إلى مرجع واحد غالباً، من باب الاختصار. كما أني - وطلباً للاختصار - لن أناقش جميع ما ذكره أبو عبد الرحمن؛ لئلا يطول الرد، بل سأقتصر إن شاء الله على الأمور الأربعة الآتية:

الأمر الأول

ألم تكن مقالة الوقف في القرآن من اختراع الجهمية في أصلها؟

لا شك أنّ القائلين بالوقف لا يروون حرفاً واحداً عن الصحابة أو التابعين بلزوم الوقف، بخلاف علماء السنّة الذين سننقل بحول الله جانباً من أدلّتهم الجلية على ما قالوه من وجوب الجزم بأنّ القرآن منزل غير مخلوق.

وهنا يجيء هذا السؤال المهم: فمن أين جاءت مقالة الواقفة إذاً؟

فيقال: من المعلوم أنّ القائلين بخلق القرآن لما ضعفت شوكتهم وانتهت فترة تسلُّطهم بانتهاء خلافة الواثق سلكوا مسلكاً جديداً يعتمد إخفاء حقيقة مذهبهم، بادعاء أنهم تركوا الخوض في مسألة القرآن بالكلية، فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق، مع بقائهم في واقع الأمر على مقولتهم السابقة، والتي لم يعد بإمكانهم الجهر بها، بعد أن رسخ في الأمة قول أهل السنّة بفضل الله ثم بصمود أئمة السنّة وتحمُّلهم عظيم الابتلاء في ذلك السبيل.

وهنا لجأت الجهمية إلى الحيلة الماكرة بادعاء أنهم يقفون في أمر القرآن ورعاً وخوفاً من الله بزعمهم، فتلقف هذه المقولة بعض المحدّثين، ممن لم يتفطن لحيلة الجهمية، وظنوا أنّ هذا هو السبيل الذي يقتضيه الورع والخوف من الله، أما أئمة السنّة من ذوي البصيرة بمسألة القرآن، والبصيرة أيضاً بمقالة الجهمية فقد تفطّنوا للأمر تماماً، ولذا قال الإمام أحمد عن الجهمية كما عند الخلال (1782): «استتروا بالوقف».

وقال مقارناً بين الواقفة والجهمية الأوائل كما عند الخلال (1799): «الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا: إنا لا نتكلم، استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية».

وقال أيضاً كما عند الخلال (1797) عن القائلين بالوقف: «كلام سوء، هو ذا موضع السوء وقوفُه، كيف لا يعلم؟ إما حلال وإما حرام، إما هكذا وإما هكذا ... إنما يرجعون هؤلاء إلى أن يقولوا: إنه مخلوق، فاستحسنوا لأنفسهم فأظهروا الوقف».

وهكذا قال العمري، كما عند اللالكائي (527): «الذي لا يقول إنه غير مخلوق فهو يقول مخلوق، إلا أنه جعل هذه سترة يستتر بها».

وبه نعلم أنّ الجهمية أظهرت في الناس هذا القول من باب التقية والخديعة، وإلاّ فقولهم معروف، إبان قوة شوكتهم، حين امتحنوا علماء الأمة محنة عظيمة سجنوا فيها وضربوا وقتلوا، حتى إنهم في خلافة الواثق كانوا لا يُخلِّصون الأسير المسلم من يد العدو إلا بعد أن يمتحنوه بمقولتهم الباطلة في القرآن، فإن أقرّ خلّصوه، وإن أبى تركوه في يد العدو! كما ذكر الطبري في أحداث عام (231) من (تاريخه 5/285)، ثم بعد كل هذا أظهروا هذه المقولة حين ضعف أمرهم، مصانعة وتقية ليس إلا.

ومن أوضح الأدلة على ذلك أنّ زعيم الواقفة في زمن الإمام أحمد هو محمد بن شجاع الثلجي، تلميذ بشر المريسي إمام المريسية ذات المقالات الرديئة ، لا في مسألة القرآن فحسب، بل في أبواب كثيرة من أبواب الاعتقاد.

وكان ابن الثلجي يسمى (ترس الجهمية) كما ذكر ابن تيمية في (التسعينية 1/344) وأصوله أصول جهمية، كما لا يخفى على من عرفه.

ولذا فإنه عندما أوصى نص في وصيته بالثلث على الآتي: «ولا يُعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق»! (تهذيب التهذيب لابن حجر 9/221).

فتبيّن بذلك أنّ قول الواقفة في أصله قول للجهمية، ولذا ذكر أحمد أن الجهمية ثلاث فرق، ذكر منها فرقة تقول: «القرآن كلام الله وتسكت» كما في كتاب (سيرة الإمام أحمد، لابنه صالح (ص72)).

وإنما ركّزت هنا على كلام أحمد؛ لأنه إمام أهل السنّة في وقته الذي صمد للقائلين بخلق القرآن، وعرف حقيقة قولهم وناظرهم وتحمّل في ذلك ما لا يخفى على من عرف تاريخه.

وبناءً على ذلك وجب على أحمد وعلى غيره ممن عرف الأمر على جليته تحذير الأمة من هذه الخديعة، نصحاً لأئمة المسلمين وعامتهم؛ لأنّ الوقوف كان باباً خطيراً تدخل منه الجهمية إلى مرادها.

أما من وقف من المحدِّثين الذين لم تتبيّن لهم حقيقة المسألة فالأمر فيهم كما قال الدارمي حين ذكر أنّ من أكبر ما احتج به الواقفة أن من المحدّثين من قالوا بالوقف، وأجاب بأنّ هذه الأغلوطة التي ذكرتها الجهمية لما وقعت في مسامع هؤلاء لم يتفطنوا لها، أما غيرهم من أهل البصر بالجهمية وبمرادهم، ممن جالسهم وناظرهم فصرحوا على علم ومعرفة أنّ القرآن غير مخلوق، والحجة إنما هي بالعارف بالشيء لا بالغافل عنه، القليل البصر به، فإن يكن الواقفون من المحدثين إنما جبنوا عن قلة بصيرة، فقد اجترأ أولئك الأئمة وصرحوا ببصيرة، وكانوا من أعلام الناس، وأهل البصر بأصول الدين وفروعه. (ينظر الرد على الجهمية ص(196)).

وقال ابن تيمية في (الفتاوى 2-477) أثناء كلامه عن موقف السلف من الجهمية: «السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فإن كثيراً من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة حتى يتدبرها، ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سرِّ القول نفروا منه».

فهذه حقيقة القول بالوقف في القرآن، في أصل نشأته، وهدف من أثاره، وسبب وقوع بعض المحدثين، ممن لم يكن جهمي الأصول في التورط به.

فهل يستحق قول بهذه المثابة التي بيّنّا أن ندافع عنه ونتبنّاه بعد أن مضى عليه (12) قرناً توالى علماء الأمة على دحضه ورده؟

الأمر الثاني

أنّ جملة مما ذكر أبو عبد الرحمن في شأن الروايات الواردة عن السلف في هذه المسألة غير صحيح البتة، والبرهان على ذلك موجود في الروايات.

فقد أطلق غفر الله له عدة أحكام أسوق أهمها، متْبعاً كل حكم منها التعقب عليه فيما يأتي:

1 - ذكر أنّ السلف الأول لم يصح عنهم كلمة واحدة في الموضوع، وأنّ الخبر إنما ورد عن سفيان الذي لم يدرك من الصحابة أحداً.

هكذا صوَّر أبو عبد الرحمن المسألة: كلمة فاه بها رجل بعد أن انخرم جيل الصحابة! فبداية الجزم بأنّ القرآن غير مخلوق إنما كان اجتهاداً من سفيان، دون أن يحدد (ابن عيينة أو الثوري).

والحق أنّ الأمر قبلهما بدهر، حيث ثبت عن علي بن الحسين زين العابدين أنه سئل عن القرآن فقال: «ليس بخالق ولا مخلوق، وهو كلام الخالق». كما في (الأسماء والصفات: (534) للبيهقي، وغيره).

وعلي هذا قد روى عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، كما في (تهذيب التهذيب 7-304)، بل إنه مات عام (93) كما في التقريب (3715) وجيل الصحابة لمّا ينقض بعد، وبين وفاته ووفاة سفيان بن عيينة أكثر من ( 100) عام ، كما أن بين وفاته ووفاة سفيان الثوري ( 68) عاماً.

و ثبت عن جعفر بن محمد حفيد علي مثلما ثبت عن جده، عند البيهقي في (الأسماء والصفات 536، 537) وجعفر أيضا قبل السفيانين.

وسأورد إن شاء الله ما هو أهم من ذلك كله عند الكلام على ما يعد اتفاقاً عامّاً على المسألة عند الأمة في رواية عمرو بن دينار التي حكت حقيقة قول السلف من الصحابة ومن بعدهم.

2 - ذكر أن كل ما ورد عن الصحابة في المسألة لا يصح، وأنهم لم يقولوا فيها كلمة واحدة، ثم جزم بتكذيب ما ورد عن ابن عباس في تفسير قول الله عن القرآن في أول سورة الكهف ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا? (الكهف:1) حيث قال: «غير مخلوق» واحتج على بطلانه أيضاً بأن الآية الثانية من السورة فيها ما يدل على خلاف هذا التفسير.

والذي ذكره غير واحد عن ابن عباس هو في تفسير آية (الزمر:28) ?قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ?، وأشار البغوي في (التفسير 5/143) إلى أنّ الرواية وردت بذلك عن ابن عباس في هذه الآية، لا في آية الكهف.

وجزْم أبي عبد الرحمن بكذب المروي عن ابن عباس غريب، فإنّ الخبر رواه الآجري (160) وليس في رواته عنده من رمي بالكذب، وإن كانت الرواية فيها راوٍ ضعيف، والفرق كبير بين رمي الراوي بالكذب، ووصفه بالضعف.

خاصة وأنّ الرواية بذلك جاءت عن ابن عباس من طُرُق، كما ذكر الأصبهاني في (الحجة 1/227) وكما نبّه البيهقي حين أشار إلى بعض طرقه في (الأسماء والصفات: 518) والخبر الذي يُروى من طرق لا بد من الوقوف على طرقه كلها، حتى يُجزم بالحكم عليه، فقد يُروى من طريق يصح به الخبر، لا سيما وأنّ إمام المحدثين أحمد بن حنبل لمّا بلغه هذا الخبر كتب إلى أحد رواته بإجازته فأجازه فسُرّ أحمد، وقال: كيف فاتني عن عبد الله بن صالح هذا الحديث؟ كما في (الشريعة للآجري (160)).

ومما ورد عن الصحابة في المسألة قول علي رضي الله عنه - حين لامه الخوارج في أمر التحكيم -: «ما حكّمت مخلوقاً ما حكمت إلا القرآن» (رواه اللالكائي 730، 731) وقال البيهقي حين رواه في (الأسماء والصفات: 525): «هذه الحكاية عن علي رضي الله عنه شائعة فيما بين أهل العلم، ولا أراها شاعت إلا عن أصل».

وهذا يؤكد على أمر التأني في إطلاق الحكم على الروايات، مع أني لا أريد الدخول في الحكم على أسانيدها فذلك يحتاج إلى دراسة مفصَّلة في مناسبة غير هذه، غير أني أحببت التنويه إلى أمر التريث في الحكم، خاصة في رمي الرواة بالكذب فإنّ أمره عظيم، وقد يسأل الله عنه قائله حين يخاصمه من رماهم به بين يديه تعالى.

3 - ذكر أبو عبد الرحمن أنّ القول بالوقف هو الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم، في الوقت الذي أكد فيه أن المسألة برُمّتها لم تحدث أصلا إلا بعدهم!

وهذا مستدرك من وجوه، منها:

أ- أن على من ينسب إلى الصحابة قولاً ساروا عليه - بهذا الإطلاق - أن ينقل عنهم ما يدل عليه من صريح قولهم، وقد قدّمنا أن القائلين بالوقف لا يمكنهم أن يرووا عن الصحابة حرفاً واحداً يدل على قولهم بالوقف، وأبو عبد الرحمن نفسه ذكر أن المسألة لم تحدث إلا بعدهم، فكيف إذاً ساروا على هذا القول؟ وقد تقدم أن مقالة الوقف إنما نشأت متأخرة، على يد الجهمية، كما نقلنا عن أحمد وغيره.

ب- إن قيل: فهل يروي القائلون بأن القرآن غير مخلوق عن الصحابة شيئاً يبيّن ما الذي ساروا عليه؟

فالجواب أنهم يروون روايات ذكرتُ بعضاً قليلاً منها، فينبغي لمن أراد الخوض في هذه المسألة أن يدقق فيها ولا يغفلها.

فإن ادعى ضعفها فليبرهن على ذلك، مستنداً إلى قواعد المحدِّثين المعروفة في التصحيح والتضعيف، مجيباً على كل ما ورد في هذا الباب.

ولو فرضنا أنه برهن على ذلك فلا بد له من النظر في الروايات العامة التي وردت عن الصحابة بشأن القرآن، والسبب أن التابعين - وهم تلامذة الصحابة وأعرف الناس بمنهجهم - قد استنبطوا من تلك الروايات قول أصحاب نبيهم في المسألة حين وقعت.

ومن أظهر ما يجلي ذلك -ويجلي حقيقة موقف الصحابة- ما ثبت بسند صحيح عن تلميذ الصحابة الجليل عمرو بن دينار عند (الدارمي في الرد على الجهمية (344) وغيره) أنه قال: «أدركت أصحاب النبي فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله، (منه خرج)، وإليه يعود».

فتأمّل كيف قرن الصحابة رضي الله عليهم بين حقيقتين كبيرتين، الأولى: أنّ القرآن كلام الله، مضافاً إليه وحده؛ لأنه منه خرج، أي هو المتكلم به كما فسره الإمام أحمد في (السنّة للخلال (1859))، ثم أوضحوا الحقيقة الثانية، وهي أن كل ما سوى الله فهو مخلوق، ولا ريب أن ذلك يقتضي أن القرآن غير مخلوق، لأن القرآن (من الله)، وليس من الله شيء مخلوق قطعاً.

فهذه العبارة العظيمة التي نقلها عمرو بن دينار عن الصحابة بالصيغة الدالة على أنهم كانوا ينشرونها في الأمة قد رسمت للتابعين منهجاً واضحاً انطلقوا منه، حين ظهرت مقالة الجهمية الشنيعة في القرآن، فلم يتردد التابعون في ردِّها، انطلاقا مما كان يقرره لهم أصحاب محمد، فقال تلميذ الصحابة الجليل أبو عبد الرحمن السلمي كما في (الأسماء والصفات للبيهقي (504) وغيره): «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرب على خلقه، وذلك أنه (منه)». يعني القرآن.

فجعل الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفرق بين الله وبين المخلوقين، ثم أوضح أن السبب في ذلك هو أن كلام الله (من الله)، فصار بالمقام الذي لا يمكن أن يُقارَن بينه وبين كلام المخلوقين، فكما أن الرب الذي قاله لا يقاس بالمخلوقين فكذلك لا يقاس كلامه تعالى بكلامهم.

وقد ركّز كثيرون من علماء الأمة على هذه الحجة المستمدة من كلام الصحابة رضي الله عنهم، فكان علماء مدينة النبي يقولون: «القرآن من الله، وليس (من الله) شيء مخلوق» كما رواه (اللالكائي (478)).

وجاء هذا عن غير واحد من أهل العلم كمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فيما رواه اللالكائي (474) وحجاج الأنماطي كما في (السنة للخلال (1932)) وغيرهم من أهل العلم.

وقرّر وكيع بن الجراح ذلك مقروناً بدليله من القرآن، فقال كما عند اللالكائي (359): «من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق» فسُئل: من أين قلتَ ذلك؟ فقال: «لأنّ الله تبارك وتعالى يقول ?وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ? (السجدة:13) ولا يكون (من الله) شيء مخلوق» كما أوضح ذلك الإمام أحمد جليّاً، ففي (السنّة للخلال (1848)) أنه قال لمن سأله عن القرآن «ألستَ مخلوقا؟ فقال: نعم، فقال: أليس كل شيء منك مخلوقا؟ فقال: نعم، فقال أحمد: فكلامك أليس هو منك، وهو مخلوق؟ فقال: نعم، فقال: فكلام الله عز وجل أليس هو (منه)؟ فقال: نعم» فأجابه أحمد بصيغة سؤال الإنكار: فيكون (من الله) شيء مخلوق؟».

وقال علي بن المديني في الاعتقاد الذي رواه (اللالكائي (318)): «القرآن كلام الله، ليس بمخلوق، ولا تضعُفْ أن تقول: ليس بمخلوق، فإنّ كلام الله ليس بباين منه، وليس (منه) شيء مخلوق».

وقد اختصر أبو الوليد الطيالسي بيان ذلك في عبارة دقيقة كما عند اللالكائي (437) فقال: «القرآن كلام الله، والكلام في القرآن الكلام في الله» وصدق رحمه الله، لأنّ القرآن كما بيّن أصحاب النبي (من الله)، وعليه فإنّ أي اعتقاد يعتقده العبد في القرآن يكون اعتقاداً في الله الذي تكلم به، وذلك أنّ كلام الله صفة من صفاته، وصفته تعالى مما يدخل في مسمّى اسمه، وهذا يقال في سائر الصفات، كالقدرة والحياة والسمع والبصر فإنها كلها (من الله)، أي مما يدخل في مسمّى اسمه، كما بيّن ابن تيمية في (التسعينية 1/363-364).

ومن هنا ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن من حلف بالقرآن فعليه بكل آية منه يمين، ولما سمع من حلف بسورة البقرة قال: «أتراه مُكفّراً؟ فعليه بكل آية منه يمين». (رواه عبد الرزاق (8/472-473)، واللالكائي (378، 379)).

واليمين التي تلزم فيها الكفارة هي التي تكون بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، فمن حنث لزمته الكفارة، أما إذا كانت اليمين بشيء من المخلوقات فإنها لا تنعقد أصلاً، ومن حنث فلا كفارة عليه، كما لا يخفى، وبه نعلم أن إلزام ابن مسعود مَن حلف بالقرآن أن يكفّر دليل على أنّ القرآن عنده غير مخلوق، كما أوضحه اللالكائي حين رواه، وقد حكى الشافعي عن مالك أن من حلف بعظمة الله وقدرته ونحوهما فحنث فعليه الكفارة، ثم قال الشافعي: ومن حلف بغير الله كالكعبة فحنث فلا كفارة عليه، قال: «لأن هذا مخلوق، وذلك غير مخلوق» (رواه البيهقي في الأسماء والصفات (565)).

وبناءً على ما تقدم فلا وجه للتوقف في كون كلام الله غير مخلوق، فضلاً عن نسبة ذلك للصحابة فمنهج الصحابة في القرآن يُعرف منه حقيقة قولهم في هذه المسألة، حتى لو لم يثبت عنهم حرف واحد في النص عليها بعينها، وهذا سبب إصرار علماء الأمة على الجزم بأنّ القرآن غير مخلوق، كما تقدم.

والذي ينبغي للباحث في موقف الصحابة أن يدقق في رواية عمر بن دينار الثابتة عنه، فإنّ فيها بيان الحال الذي كان عليه المسلمون قبل نشوء مقالة الجهمية الشنيعة في القرآن، وأن المنهج الذي رسمه أصحاب النبي أنتج هذا الاتفاق العظيم في تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم، فلا ينبغي نسف هذا كله والرجوع لقولٍ حدث بعد الصحابة بدهر طويل، وفيه ما فيه من إشكال كبير بيّنّاه فيما تقدم.

الأمر الثالث

ما يقول أبو عبد الرحمن في الحجج التي أوردها علماء السنّة، لبيان أنّ القرآن غير مخلوق؟

لقد نص هؤلاء الأئمة على براهين لا يسع المنصفَ أن يهملها، من أهمها ما تقدم بيانه قريباً من أنّ القرآن (من الله) وليس من الله تعالى شيء مخلوق، وثمة أدلة كثيرة أسوق بعضا قليلاً منها فيما يأتي:

1 - أن القرآن من علم الله، وعلم الله لا يكون مخلوقاً، كما بين (الآجري 1/489).

وروى الآجري (175) أن الإمام أحمد قال: «ليس شيء أشد عليهم مما أدخلتُ على من قال: القرآن مخلوق، قلتُ: علم الله مخلوق؟ قالوا: لا، قلت: فإن علم الله هو القرآن».

واحتج أحمد على ذلك بآيات من القرآن كقول الله: ?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ? (البقرة:120) وقوله: ?وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ? (البقرة:145).

وأوضح أحمد أيضاً كما في (السنة للخلال (1865)) أن مما يترتب على القول بخلق القرآن أن الله لم يكن له علم حتى خلقه.

وهذا من أفظع ما يمكن أن يعتقده أحد، وهو دال على وضوح بطلان القول الذي يؤدي إليه، وهو الزعم أن القرآن مخلوق. وقد استدل أحمد على المسألة كما في (السنة للخلال (1900)) بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآَنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن:1-4) من جهة أن الله تعالى فرّق بين العلم والخلق، وهذا استدلال قوي فقد ذكر الله (القرآن) في أكثر من (50) موضعاً في كتابه فلم يخبر عن خلقه، ولا أشار إليه بشيء من صفات الخلق، وذكر سبحانه الإنسان في (18) موضعاً من كتابه، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه.

ثم جمع بين (القرآن) و(الإنسان) في سورة الرحمن فقال ?الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3}? فأخبر عن خلق الإنسان دون القرآن، فلو كان القرآن مخلوقاً لما فرّق الرب بينه وبين خلق الإنسان في هذا الموضع، لأن أكمل بيان هو بيان رب العالمين الذي لا يعزب عن علمه شيء.

2 - استدل أئمة السنّة على أن القرآن غير مخلوق بما ثبت عن النبي من التعوذ بكلمات الله من شر ما خلق، فقال الإمام أحمد كما عند الخلال (1922): «ولا يجوز أن يقول: أعيذك بالنبي أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالملائكة ... أو بشيء مما خلق الله، لا يتعوذ إلا بالله وكلماته».

وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/400-402): «أفليس العلم محيطاً يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟» إلى أن قال: «محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه».

واحتج بهذه الحجة جمّ غفير من أئمة السنّة على بطلان القول بأن القرآن مخلوق، لأن النبي قد استعاذ بكلام الله. والقاعدة المسلَّمة التي لا يتطرق إليها الشك أن الاستعاذة لما كانت نوعاً من الدعاء لم يجز أن تكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته، فلذا استعاذ سيد الموحدين بهذه الكلمات، لأنها من الله، وليست مخلوقة وإلا لكان متعوذاً بمخلوق، حاشاه أن يقع في هذا الأمر الفظيع.

ومن هنا ذكر البغوي في (شرح السنة 1/185) أن النبي استعاذ بكلام الله كما استعاذ بالله، ثم قال: «ولم يكن النبي يستعيذ بمخلوق من مخلوق».

وقال الخطابي: «لا يستعاذ بغير الله أو صفاته، إذ كل ما سواه تعالى وصفاته مخلوق، ولذلك وُصفت كلماته تعالى بالتمام، وهو الكمال، وما من مخلوق إلا وفيه نقص، والاستعاذة بالمخلوق شرك مناف لتوحيد الخالق» (نقله السويدي في العقد الثمين ص(225)).

فكيف يسوغ لأحد بعد ذلك أن يتوقف في كون القرآن -الذي هو كلام الله- غير مخلوق، وهو يعلم أن النبي قد استعاذ بكلام الله؟

وهل يتصور مسلم أن النبي الذي قد أعلا ربه قدره يمكن أن يتعوذ بمخلوق بهذه الصيغة؟ فإذا لم يقع التردد في كون النبي يستحيل أن يقع منه ذلك ، فكيف يقع التردد في أن الكلام الذي تعوذ به النبي غير مخلوق؟ لا ريب في وضوح هذه الحجة، وتعلقها ببابين كبيرين من أبواب الاعتقاد:

أولهما: توحيد الله تعالى، من جهة أن التعوذ به تعالى توحيد، وأن التعوذ بغيره شرك.

والثاني: مقام نبي الله الذي هو أعظم الناس علماً بربه وأبعدهم عن الشرك.

وقول من زعم أنّ القرآن مخلوق، يشكل من ناحية التوحيد والنبوة معاً، فبطلانه جلي لا ينبغي أن يكون محل تردد.

3 - روى الآجري (171) أن سفيان بن عيينة لما بلغه قول بشر المريسي بأن القرآن مخلوق قال: «كذب، قال الله تعالى: ?إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ? (الأعراف:54) فالخلق خلق الله، والأمر القرآن.

ولما روى اللالكائي (358) هذا الخبر عن سفيان قال: «وكذلك قال أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد السلام بن عاصم وأحمد بن سنان وأبو حاتم الرازي.

والآية كما ترى قد فرقت بين الخلق والأمر، فجعلت الأمر مغايراً للخلق، وعليه فالقرآن الذي هو أمر الله ليس مخلوقاً.

والأدلة كما قدمت كثيرة جدّاً، لكني أقتصر على ما سقت منها، تنبيها بما ذكرت على ما لم أذكر.

الأمر الرابع

أَيَهُون على الأمّة هذا العدد الكبير من أئمة الإسلام الذين قرروا -منذ زمن القرون المفضلة- أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وأنكروا ما سواه من الأقوال؟

علماء في أزمنة متعددة وأمكنة متفرقة، ساق أقوالهم اللالكائي في أكثر من مائة ورقة (1/227-329) ورتب أزمانهم، وبلدانهم، فذكر علماء الحرمين: مكة والمدينة، والمِصْرين: البصرة والكوفة، والشام ومصر وخراسان، وواسط وبغداد والري وأصبهان وبلخ ونيسابور وبخارى وسمرقند والثغور.

ولم يكن هؤلاء بحمد الله من المغمورين، أو أنصاف المتعلمين، بل كانوا أئمة الأمة وهداتها من الفقهاء والمُحدّثين والمفسرين الذين أفنوا أعمارهم في الدعوة إلى دين الله والذب عنه بكل ما أوتوا، حتى حفظ الله بهم دينه، واتضحت معالمه، وقد قال اللالكائي (2-312) بعد أن ساق أقوال عدد منهم: «فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا أو أكثر، من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين، سوى الصحابة الخيّرين، على اختلاف الأعصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام، ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم».

ثم نبّه إلى أنّ العدد الذي ساقه ليس هو عدد جميع من جاءت الرواية عنه في هذه المسألة العظيمة، لكنه اختصر العدد فقال: «ولو اشتغلت بنقل قول المحدّثين لبلغت أسماؤهم ألوفاً كثيرة، لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار».

ولا عجب فيما ذكره اللالكائي من العدد العظيم، فإنّ علماء الكوفة لما جُمعوا؛ ليُقرأ عليهم الكتاب الجائر الذي ورد من المأمون بامتحان الناس في مسألة القرآن قال أبو نعيم الفضل بن دكين: «أدركت ثمانمائة شيخ ونيفاً وسبعين شيخاً، منهم الأعمش فمن دونه فما رأيت خلقا يقول بهذه المقالة -يعني خلق القرآن- ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رمي بالزندقة». (رواه اللالكائي (481)).

وفي رواية أنه قال للوالي بعد أن أخبره بكثرة أهل العلم الرافضين لهذه المقولة: «رأسي أهون علي من زِرِّي». وأخذ زِرَّه فقطعه. (تهذيب التهذيب 8/275).

فإذا نقل أبو نعيم وحده عن هذا العدد الكبير من أهل العلم فلا غرابة في نسبة اللالكائي مقولة أهل السنة لألوف العلماء، على مدى الأزمنة المتطاولة، وفيهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة.

أيقال: إن هذا العدد قد جهل حقيقة الأمر، وإن ما تحمّله أهل العلم من الأذى العظيم في هذا السبيل كان في أمرٍ لم يكن لهم فيه سلف من أصحاب النبي ، وإن الواجب عليهم كان هو الكف عن الدخول في المسألة من أصلها، وإن الرشاد والسداد كان في قول من توقفوا؟ مع ما قد أوضحنا من أن توقفهم كان لعدم درايتهم بحيلة الجهمية التي نوّهنا عنها! لا ريب أن ذلك قد يفتح باباً، بل أبواباً على أمور من الاعتقاد الراسخ الثابت. فلئن كان هداة الأمة وأئمتها قد خطئوا الصواب في هذه المسألة وهم بهذا العدد الكبير والأزمنة المتفاوتة، فإنهم قد يكونون كذلك في أبواب أخرى من الاعتقاد الذي نافحوا عنه، وصنفوا فيه، ونشروه في المسلمين، وذلك أمر إن جوّزناه قوّضنا أمور الاعتقاد وزعزعناها بلا ريب.

وهذه المسألة قد تخفى على البعض في الوهلة الأولى، لكن لا يلبث من تأمل الأمر جيداً أن يتضح له وجه الصواب فيها، حتى إنّ الإمام الجليل سليمان بن حرب جزم بأنّ القرآن غير مخلوق بعد أن كان لا يقوله، فسئل عما بدا له فقال: «استخرجته من كتاب الله ?إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?(آل عمران:77) فالكلام والنظر واحد» (رواه عبد الله في السنة (169)).

هذا بعض مما عندي في هذه المسألة التي نحن بحمد الله فيها على بينة من كتاب ربنا وسنّة نبينا ونهج سلفنا الصالح، بدءاً بأصحاب رسول الله والتابعين لهم على بصيرة إلى يوم القيامة.

فإن عُدّ هذا تقليداً فأكرم به من تقليد، وثبتَنا الله عليه حتى نلقاه به.

والعجيب أنّ أبا عبد الرحمن قد ذكر نزراً قليلاً، وهم (الكرابيسي والمقبلي والشوكاني) مجَّد موقفهم في اختيار التوقف، وهم ممن لا يُشك في أنهم ليسوا قرناء للأئمة الذين صرحوا ببطلان هذا القول، لا في مكانتهم العلمية ولا حتى كميتهم العددية على أنّ ثمة إشكالاً كبيراً فيما قاله بشأن الكرابيسي، فإنّ المعروف عنه أنه كان يجزم بأنّ القرآن غير مخلوق، وإنما كان نقاشه في مسألة أخرى هي مسألة اللفظ، كما هو معروف عنه (انظر ترجمته في ميزان الاعتدال وغيره) وهو الذي أكد عليه ابن كثير في ترجمته للكرابيسي في (الطبقات 1-133) ونص على أنّ الذي رآه عنه القول بأنّ القرآن غير مخلوق.

فبقي اثنان ممن ذكر أبو عبد الرحمن، وهما من المتأخرين: المقبلي، والشوكاني الذي رغم ميله إلى الوقف، إلا أنه صوّب موقف أئمة السنة فقال- في نفس الموضع الذي نقل منه أبو عبد الرحمن موقفه -: «ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه، وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع» (فتح القدير 3-397) وهذا يختلف عن جزم أبي عبد الرحمن باستواء قول هؤلاء الأئمة مع قول المعتزلة، وأنّ من قال بأي من القولين فقد «قفا ما ليس به علم!».

فقول الشوكاني فيه تصويب لأئمة السنة في امتناعهم من الإجابة إلى القول الباطل، ووصفٌ لصنيعهم بأنه حفظ للأمة عن الابتداع، فلم يقل ما قاله أبو عبد الرحمن من نبزهم بالوقوع في هذا الذنب العظيم، وهو القول بلا علم، وبكل حال فإن توقُّف مَن توقَّف مما قد بيّنّا لك سببه الناشئ عن عدم التفطن إلى ما في الوقف من إشكال، فلا تكون غفلة من وقع فيه هي الحجة على سلف الأمة وأئمتها.

والمرجو من أبي عبد الرحمن وفّقه الله لكل خير أن يعود إلى الروايات المسندة في كتب الاعتقاد، والتي نقلت إلى الأمة اعتقاد نبيها وأصحابه بالأسانيد، وأن يتأمّلها -وبعض مما أوردناه جزء قليل مما فيها- ويتأمّل الحال الذي كانت عليه أمة الإسلام وقت عزها، زمن الصحابة والتابعين قبل تفاقم مقالة الجهمية وتشعبها.

كما أنّ المرجو من رجل في سِنّه وتمكّنه الإعلامي أن يبيّن في مقالاته ما يحاك للجيل الصاعد اليوم من مؤامرات هدفها أعزّ ما يملكون: دينهم وخلقهم، فإنّ كلمة الحق في بيان ذلك من أعظم ما نحتاجه، ولاسيما في الميدان الإعلامي.

أسأل الله أن يكتب لي وله السداد والتوفيق، ويمنّ علينا جميعاً باتباع الحق بدليله، ويحسن لنا الخاتمة، ويجعلنا جميعاً مفاتيح للخير مغاليق للشر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

(*) أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود بالرياض -

alanquary@gmail.com
 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة