Friday  24/12/2010 Issue 13966

الجمعة 18 محرم 1432  العدد  13966

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

في مساء الخميس 3-1-1432هـ ومع مستهل عام جديد حرص أبناء فضيلة العالم الشيخ محمد الصالح المقبل رحمه الله، وبعض أعيان المذنب على إقامة ندوة علمية، تبنّاها مدير المكتبة العامة بالمذنب، تحت مسمى: يسر المكتبة العامة دعوتكم لحضور الندوة الثقافية التي تُقلب صفحات من حياة فضيلة الشيخ محمد بن صالح المقبل،

في مركز الأمير سلطان الحضاري بمحافظة المذنب.

وقد استقطبت هذه الندوة عناية ورعاية أبناء الشيخ وأحفاده، وكان الحضور كبيراً يتناسب مع مكانة الشيخ المقبل وعلمه رحمه الله وسمته، فلقد عرفت الشيخ قبل وفاته، عندما كنت مع ابنه مقبل، نعمل سوياً بتعليم البنات، فأنِست به وكان محباً للصلة مع الكرم، كما هي جزء من أخلاق والده الشيخ رحمه الله، وسمات إخوته الذين عرفت الكبار منهم: عبدالله وحسن وصالح وسليمان -ذرية بعضهم من بعض- بالخلق والوفاء والصلة والدين برابطته المتينة.

وقد عرض علينا الشيخ مقبل، ونحن ستة زملاء العمل، بتنظيم زيارات متتالية لمناطق كل منا، زيارات أخوية، والبداية بالمذنب وقد ترك الشيخ محمد في تلك الزيارة، وحفاوته ونصائحه وتواضعه وجلساته العلمية، ومصاحبته الدائمة للكتاب أثراً لا أنساه وخاصة نصحه لي شخصياً، لما علم أن الحديث الأسبوعي في إذاعة القرآن الكريم بعنوان من فقهاء الإسلام من إعدادي وتقديمي وقد نصحني بالامتثال بقول الشافعي في شكواه لشيخه وكيع أيام الطلب:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترْك المعاصي

وقال اعلم بأنّ العلم نور

ونور الله لا يؤْتاه عاصي

ثم وجه إليّ سؤالاً بقوله: ماذا تريد وراء هذا الحديث؟ قلت: أنوي التسلسل فيه بتراجم العلماء - للفائدة والقدوة: إن أعانني الله حتى أصل العصر الحاضر، قال: إنني أستمعه صباح كلّ جمعة، وأنْصحك بنصائح العلماء لتلاميذهم: ألا تكتب عن من هو على قيد الحياة، ولا تكتب عن المعروف ببدعة، واختر مراجعك من الكتب الموثوقة، والمعروف مؤلفوها، بحسن العقيدة، وضرب أمثلة بكثير من العلماء، وسِيَرِ حياتهم لأخذهم قدوة، حتى يقتدي بأعمالهم السامع، وقد دعا لي بعد هذا التوجيه والنصح.

فقد كان الشيخ محمد -رحمه الله- من جيل الرعيل الأول، الذين شمّروا عن السواعد وطرقوا أبواب العلماء استجابة لاهتمام المؤسس الباني لكيان الدولة السعودية في دورها الثالث، الملك عبدالعزيز يرحمه الله، الذي وهبه الله معرفة دقيقة في سَبْر أغوار الرجال، ومنحه سبحانه فراسة أعانته في الاستصفاء والمعرفة الدقيقة للرجال كما نقل عنه الريحاني في تحويره بيت شعر، بما يتلاءم مع طموحاته، وهو لأحد شعراء بني أمية:

نَبْني كما كانت أوائلنا

تَبْني ونمل «فوق» ما عَمِلوا

ونبه الريحاني عن هذا التحوير «فوق بدل مِثْل» وهذا من بُعْدِ نظره رحمه الله، وقد حصل من عمله هذا الطموح، خير كثير على البلاد والعباد.

وكان الشيخ محمد قد أعطاني نبذاً عن ذكاء الملك رحمهما الله، وبُعْد نظره بحكم عمله معه، وطريقته وجديته في حل الأمور مع فطنته وإخلاصه وزيّن ذلك بالورع، وذكر نماذج في مواقفه، واهتمامه الديني وعبادته وكثرة دعائه في رابطة مع الله بأمور محسوسة مع المتابعة.

والشيخ محمد المقبل مع نشأته وفقره قد رسم لنفسه في طلب العلم فوق ما عمله أبناء جيله، إذ ليس الطريق مفروشاً بالورود، بل دون خرْق القتاد، ولا الخيال بالتمني ولا التحلي، ولكنه تذرع بالصبر، ولبس له ثوب الشدة، وما في الطريق من متاعب قد توهن العزم، إلا أن استسهاله الصعب خفف عليه الحمل كما أمر الله سبحانه بقوله الكريم: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة آية 45).

وممتثلاً بقول الشاعر:

لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى

فما انقادَتْ الآمالُ إلا لصابر

وبالقدوة الحسنة، وتوطين النفس وتحمل الصعاب، حقق الله ما أمل، وقد أورد حفيده عمر في كتابه عنه: نماذج من الصعاب والصفحات المطوية من سيرته، وما تحمل في سبيل العلم، وما ثبت عليه له ملازمته للكتاب، وجلسات العلماء في إشادة لعمله اليومي، بأنه رحمه الله أحب العلم لذات العلم، وسار في طلبه وامتثاله سيرة السلف الصالح من أبناء الإسلام، ولم يعرف الكسل وشاهده أن الباحثين عن الكلأ لمواشيهم، ذلك الوقت يتحركون لعملهم بعزم ونشاط مبكرين، بعد منتصف الليل، ويحشون هذا الكلأ بجد واجتهاد، طعاماً مرّخراً لمواشيهم، وكان عمُّه علي رحمهما الله يعطيه قبل النوم ست تمرات فقط، هي غذاؤه وكل قوته ليوم مرهق بالعمل، حتى يعود في المساء إلى فلاحة والده، ويقول عن نفسه: إنني أكمل أربع تمرات، واحتفظ باثنتين: واحدة لوالدتي والثانية لخالتي، حتى يعود في المساء إليهما، ويقول: والله إنها لتنتظران هاتين التمرتين لشدة الفقر، عندما يدخل عائداً من رحلته الشاقة، فيا ليت بعضا من شبابنا يدركون الواجب منهم في طلب العلم، مع أن السبل ميسرة، لهم، ومع أن معه جملاً فإنه يمشي على رجليه، ولا يركبه في الغالب، رأفة به لأن عليه حِملاً ثقيلاً، قد أوقره به، ذلك اليوم (ينظر كتاب حفيده عمر عنه ص62).

وهذا تعبير عن الشح وقساوة المعيشة التي كابدها الشيخ محمد وجيله ذلك الوقت، وأمثاله فصبروا على شظف المعيشة، علاوة على الجهد الجسماني، ومع هذا لم يتوانوا في طلب العلم بجد وهمم عالية، والسعي من مكان لمكان في سبيله، والبحث بخطى حثيثة عن رجاله، ليأخذوا عنهم بأدب واحترام وصبر مدركين مكانة العالم، وحسن الأدب عند الأخذ منه، كما قيل: من علمني حرفاً كُنت له عبداً.

ومع أنه وحيد والده، فقد كان لا يستغني عنه، ليساعده في أعمال الفلاحة، فكلما ذهب إلى شيخ لشغفه بالعمل، استدعاه أبوه ليعينه في أعماله، فهو عضده الأمين في كسب المعيشة الشاقة بدنياً، ولبره بأبيه يستجيب لإرضائه، محاولاً الجمع بين الحالتين إرضاء والده، في معاونته مع اقتناص الفرص للعلم ولمحبته للكتاب فإنه أنيسه وبصاحبه، (ينظر ص30-33) من كتاب حفيده د. عمر عنه، فكأنه يتأسى بحكاية جريح عابد بني إسرائيل، في عبادته ومطالب أمه المشهورة، أمي وصلاتي.. إلا أن الشيخ محمد أكثر إيجابية منه مع أبيه.

فالشيخ محمد المقبل يمتثل المجاهدة والمصابرة المثالية في طلب العلم والتنقل بين المجالس، والتأدب في الأخذ منه بنصيب وافر، ليأخذ العلم بلذة لا يقدرها إلا من تعلّق قلبه بالعلم مثله (منهومان لا يشبعان: طال علم وطالب مال) فقد كان طالب علم مجد، ولم يفكر في المال لتوكله على الله، كما قال بعض السلف: لا أهتم برزقي لأن الله سبحانه قد كتبه، وأنا في بطن أمي، ولن يأخذه أحدٌ عني، ولن أموت حتى أستوفيه.

عرفت الشيخ رحمه الله بخصال عديدة وصفات راسخة حباً في العلم، ودعوة إليه، وعبادة وذكراً لله، وإخلاصاً في العمل وصدقاً ونصحاً في الحديث، ومحبة للعلماء وتزاوراً معهم، ومباحثة بينهم، وغير هذا من السجايا الحميدة، مع الزهد في الدنيا وهذه الخصال هي حلية العالم.

وقد بان أثر ذلك في سلالته الذين، ورثوا عنه ما هو أغلى من المال، الذكر الحسن، فهي خصال لا تفنى بل تكتسب بالدعاء وحسن الاقتداء فكان من حبه تعلقه بالكتاب: قراءة ومناقشة، حتى أنه إذا ذُكر له كتاب، ولم يجده استعاره لشح الكتب والمكتبات، فيستعيره لينسخه بسرعة وقد أبرز حفيده عمر في كتابه عنه: صفحات مطوية من حياة الشيخ محمد بن صالح المقبل، الكثير من تلك الخصال، لراغب الفائدة وأبرز ذلك أيضاً ما ظهر في كلمات المشاركين في تلك الندوة، إنها خصال أقرّ الله عينه بها، ظهرت فيمن حوله، هي من نِعم الله على الإنسان، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:

نِعَمُ الإله على العباد كثيرة

وأجلهن نجابة الأولاد

وما يجب أن نستفيده ونحث عليه من هذه الندوة التي هي من السنة الحسنة: أهمية تكرار مثلها لإبانة مكانة علمائنا وإبراز النماذج الحسنة من سيرهم وأعمالهم، والدعوة إلى الامتثال بمثل صبر وجلادة أبناء جيل هؤلاء وكيف تخطوا الصعاب، في شق الطريق نحو العلم، وفي تحملهم الصعوبات بجهود ذاتية، في وقت لا مُعِين ولا مشير، مع شدة الخوف وقلة الأمن، حتى قيض الله قيادة حكيمة ذللت الصعاب حتى نالوا النتيجة الجيدة، متسلحين بأهم ذخيرة: بالصلاة والدعاء، وارتباطهم بالله في كل أمر: توكلاً عليه سبحانه ومن توكل عليه كفاه، فيجب أخذ القدوة من أعمالهم، وترسم خطاهم، والصبر كصبرهم بهمة كهممهم، مصحوبة بالنية الصادقة.

إذْ من المحزن عندي وعند كل غيور على دينه وسمعة دولته التي قامت على القيم الإسلامية والجد في العمل أن يبرز في الصحف منذ أيام بأن طلاباً ومبتعثين للخارج قد سُحب من البعثات دفعة واحدة قرابة ستة آلاف مبتعث لم يراعوا حق الاختيار والخدمات والإمكانات التي قُدمت لهم، فأعيدوا خائبين وهم لا يمثلون إلا أنفسهم والدولة السعودية في أدوارها الثلاثة، قامت على نصرة دين الله والجد في العمل وتشجيع العلم.

وجيل الشيخ محمد الصالح المقبل، ثمرة من شجرة العلم، ومسبباته التي تبناها ولاة الأمور منذ قامت دعوة الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهما الله على أسس من التقوى والإخلاص، منذ عام 1157هـ على منهج جاد وسليم ولذا ثبتت القواعد رغم التحديات: سيداً وكريماً بعد سيدٍ وكريم.

وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -حفظه الله- ما توسع في الابتعاث إلا للأخذ بأسباب القوة، ونيل التخصصات النادرة التي تحتاجها البلاد في عهدها الزاهر، حتى تنال البلاد في عهده الذي هو تواصل مع من قبله، منذ فتح الباب الملك عبدالعزيز رحمه الله، كخطوة مهمة بعد جمع الشمل والوحدة الوطنية وترسيخ دعائم الأمن، فتتابعت الأعمال شيئا بعد شيء، لإثبات المكانة اللائقة بمكانة الدولة الثابتة في جميع شؤونها مع المواطنين وتطلبات الرقي ومع الأمم الأخرى، التي يستفيد بعضهم من بعض.

إنّ الرقابة والمتابعة من أهم المهمات للمبتعثين كما قال سبحانه: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (الآية) وبلا تكبر الهمم ويحصل التنافس بين المبتعثين رجالا ونساء بقدر ما يؤمل منهم، وأن تكون أمثال هذه الندوة درساً للجد وسبيلا للتغلب على الصعاب، لأن قوة الأمة مبني على العلم كل في ميدانه، وتكبر الطموحات بقدر ما يطلب من المبتعث جداً وبحثاً وتجديداً، وليس الابتعاث للنزهة وإضاعة الوقت والإهمال، ونحث الكل على حفظ الوقت، فالأوائل كما بدوا وبذلوا طاقاتهم على حسب ما يتناسب مه زمانهم، وسدوا فراغاً البلاد أحوج ما تكون إليه، وما على الجيل الجديد ألاّ ترسم خطاهم والأخذ من حيث انتهوا إليه حيث وضعوا الصُّوى على الطريق كما قال ابن الصلاح في هذا البيت:

فتشبهوا إنْ لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

ويجهد المقل لما كلفت من مكتب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالمساهمة في إثراء الموسوعة من علماء وأدباء العرب والمسلمين ترجمت لمجموعة من علماء نجد يقرب عددهم من 100 منهم الشيخ محمد المقبل، حيث لم أُكَلّف إلا من حرف الشين، وكلف آخر عن علماء المنطقة الغربية، ذلك أن تخليدهم بالذكر، من حقهم علينا، للتأسي بهم وإبراز مكانتهم أمام الآخرين، هذا من أهم المهمات.

 

محافظة المذنب.. في ندوة عن الشيخ محمد المقبل (1306هـ ـ 1420هـ)
د. محمد بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة