لقد قلبت وسائل الإعلام الجديد وتحديدا صحافة المواطن وشبكات الإعلام الاجتماعي - يوتيوب، تويتر، فيس بوك، المدونات.. الخ - مفهوم الإعلام رأسا على عقب وأسقطت كثيرا من النظريات أو على أقل تقدير غيرتها كليا . كان المفهوم الأساسي للإعلام هو قيام المؤسسات الإعلامية بتوفير المواد الإخبارية والمعلوماتية للجمهور، أما الآن فالجمهور أصبح هو من يعطي الجمهور بل هو من يعطي وسائل الإعلام أيضا! وقد زاد هذا العطاء فيما يبدو حتى بدأ يحرج وسائل الإعلام التقليدي وحصل ذلك في عدة حوادث لعل من أبرزها حادثة السيناتور «ترنت لوت» حيث توجهت انتقادات المدونين ليس إلى الألفاظ العنصرية التي أطلقها رئيس كتلة الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي، بل بالدرجة الأولى إلى وسائل الإعلام التقليدي وعلى رأسها كبريات القنوات التلفزيونية الأمريكية CNN وغيرها التي تجاهلت ماحدث وتكتمت عليه، ولكن ذلك لاينفع في عصر الإعلام الجديد الذي تناقلها وسلط الضوء عليها حتى تفاعل مع ذلك الرئيس الأمريكي بوش نفسه واضطر لإطلاق تصريح ينتقد فيه «لوت»، وهو التصريح الذي نقله الإعلام التقليدي في محاولة لتدارك الأمر وإثبات الوجود ولكن بعد أن وقعت في حرج كبير.
وكانت صحيفة الاندبندنت البريطانية قد ذكرت أنه أثناء إعصار تسونامي فإن وسائل الإعلام لم تتابع موقع الحدث مباشرة فقط، بل أيضا كانت تهتم بمتابعة المواطنين القادمين من هناك للحصول على شهاداتهم و ما التقطوه بآلات تصويرهم الخاصة، فمن أصبح المرسل هنا ومن تحول إلى متلقٍ ؟! لقد قال «مات دروج» وهو مدون أمريكي وأول من أخبر عن فضيحة (كلينتون/مونيكا): «إنني مواطن أولا ثم صحافي ثانيا» وكأنما هو يعيد بجملته هذه ترتيب المواقع في العملية الاتصالية.
في الشأن المحلي يتبادر للذهن الكثير من الحوادث المشابهة التي نشرها صحفيون مواطنون ولم تتطرق لها الصحافة التقليدية، ثم جاءت الردود الرسمية على «ماتم تداوله في بعض مواقع الإنترنت» لتقوم الصحافة التقليدية بعد ذلك بتغطية الموضوع .
أما في الجانب النظري فإن الإعلام الجديد أسهم في إسقاط أو تغيير نظرية تعد من أقوى النظريات وأعرقها وهي نظرية «حارس البوابة»، فلم يعد هناك مراسل ثم محرر ثم رئيس تحرير، يقررون مايصل إلى المتلقي وما لايصل. وكذلك نظرية «ترتيب الأولويات» حيث لم تعد وسائل الإعلام هي من يرتب للجمهور أولوياته. أصبح كل صحفي مواطن هو حارس بوابة، ومع وجود هذا العدد الكبير من حراس البوابات فلك أن تتخيل الكم الهائل من المعلومات والخيارات التي أصبحت متاحة لك، مقابل تلك التي كانت متاحة مع وجود عدد محدود من حراس البوابة وهم في الغالب خاضعين لأنظمة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تسهم في عجزه عن القيام بمهمته الأساسية (نقل المعلومة) بدقة وأمانة.
لقد أثبتت الدراسات عزوف الكثير من الناس عن متابعة وسائل الإعلام التقليدية مع دخول العالم في عصر الثورة المعلوماتية، ومن هذه الحقائق أن الشريحة العمرية الأهم وهي من بشكل عام تقضي مع وسائل الإعلام الاجتماعي وقتا أكثر وبما يعادل أربع مرات من التقليدي، كما ارتفع عدد مشتركي الفيس بوك ليضع الشبكة الاجتماعية الأشهر كثالث دولة بعد الصين والهند من حيث عدد السكان!
ولأن سبب هذا العزوف ليس فقط تقليدية تلك الوسائل مقابل حداثة وسائل الإعلام الجديد، بل أيضا ابتعادها عن هموم الناس وانكشاف مصداقيتها في مواطن متعددة، فإن المجتمعات باتت تتأثر بقوة بما ترسله وسائل الإعلام الجديدة، ليس تأثرا سلبيا بالتلقي فقط بل إيجابيا أيضا بالانتقاء والنقد وطرح الأسئلة وهي الممارسات التي بدأت تقوض المفهوم الهرمي في المجتمع, وتعيد ترتيب مراكز القوى والسلطة التي اعتاد الناس عليها منذ القدم.
ومن هنا فقد أسهم الإعلام الجديد في إيصال الصوت الذي لا يصل عبر الإعلام التقليدي، وخاصة في الدول الشمولية أو الدول التي تتبع «النظرية السلطوية» في الإعلام. حيث أفشى مفاهيم غير معتاد تداولها بشكل علني في مثل هذه المجتمعات مثل: حقوق الإنسان، حرية التعبير، المساواة، العدل الاجتماعي.. الخ، كما أسهم في انتشار أفكار تحديثية منفتحة، في مجتمعات ظلت قرونا عديدة منغلقة محافظة على تقليديتها.