Monday  08/08/2011/2011 Issue 14193

الأثنين 08 رمضان 1432  العدد  14193

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

أكاد أقول اعطوني شاعراً لم يتغنَ ببلاده التي ينتسب إليها. أو إلى عشيرته التي ينتمي إليها، أو إلى قريته أو مدينته حيث وُلد أو وُجد.. قلة هم أولئك الذين نسوا إنسانيتهم في شعرهم حيث لا يهتمون بها..

شاعرنا أضاء قنديله على رحاب مدينته عروس البحر.. ورفع وتيرة قيثارة يتغنى بها كهيفاء حسناء تلامس أمواج البحر وتتغنى مع مده، وجزره، في عشق لا ينتهي.. بداية مع (رقص) ورحل، وعروس:

هل شفت جدة جنب البحر راقصة

على الرمال بأشواق وتعبير؟

كأنها وعذارى الحور طفن بها

يعربن باللحظ عن حب وتقدير

عروسة البحر من أعماقه طلعت

تروي الحكاية عن أحلى الأساطير

تروي حكايتها للعصر.. وللبشر يوم انبعاثها أخيلة حالمة تكاد تلمس لرقتها.. ولرشاقتها..

حفية أرسلت طرفا لطلعته

تومي إلى عُمر زاكٍ ومذكور

انظر إليها عروس البحر فاتنة

مفتونة بهتافات وتكبير

يشخص شاعرنا القنديل على ضوء قنديله الشعري صوب البحر:

الشط مدّ لها من رحله بسطا

خضراء تشرق بين الحسن والنور

كالديدبان مشى مثل الوصيف بدا

أمام موكبها في زي مأمور

فازدان يلمع بالكورنش منبسطا

أعاذها من غثاء اليم كالسور

مفردة (غثاء) أحسبها غير مناسبة.. يحسن من (هدير، أو نذير) أعني به الأمواج العاتية..

وزانها بالنوافير التي ابتدعت

يد الفنون بها أعلى البناوير

والبحر أصبح ديكورا لها، وبها

تعانقت فيه مسحورا بمسحور

وزف للشط لحن الحب هامة

آهاته.. بين حدري ومجرور

يبصر شاعرنا السماء نحو الشمس في إشراقتها وهي تميل نحو الغروب:

والشمس تجنح بالأفق الطليح هفت

تصبو لأفق فتي العمر مسجور

وبأفول شمسه أو تكاد تلوح سحابة بيضاء تؤذن بالمطر.. لم يقل لنا شاعرنا هل جادت بخيرها أم لم تجد!

يأخذنا القنديل إلى لوحات الأصيل:

وقد سعى البحر تياها بعزته

سَعْي المحب جريئا.. غير مقهور

إلى حبيبته، خفت تمد له

طرفا وتسعى بقدِّ شبه مخمور

يهدي الأصيل لها، لوحاته نطقت

بريشة الفن روحا غير مسطور

الروح مؤنثة والسياق مذكر، الأنساب (رسما).. وماذا بعد الإهداء؟

فاستقبلته عروس البحر باسمة

بالثغر يفضح حبا غير مستور

وعانقته عروس البحر حانية

بالصدر يروي الهوى في كل منظور

انتهى عناق الصدر.. كي نلج مع شاعرنا بوابة التاريخ:

جِدا التي ذكر التاريخ سيرتها

من قبل أن يُشرق الإسلام بالنور

دهليز مكة حين اختار ساحلها

عثمانُ مينا لأم المجلس الشورى

جِدا.. يعني بها جدة.. ودهليز ليته قال (ميناء) أما لأمِّ المجلس الشورى.. فأنا أجهل هذه الأمومة.. أتجاوز مع القنديل الكثير من سرده خارج دائرة التاريخ.. ومن داخله أيضاً كهذا النموذج:

يأتي لنا الفجر، والجمال يحرسها

حتى البيوت على ظهر البعيريري

يقصد بها البعارين.. أي الإبل.

ومثل هذا البيت تحت عنوان (ادهن السير يسير)

أما الكُبرلك فالكنداسا شربهمو

لأنهم برطلوا بعض المآمير

وهو انموذج للشعر الحلمنتيشي تعمده شاعرنا لا عن عجز، بدلالة بيته الثاني الذي يليه:

فأغلب الناس لا يسعى لها أبدا

ففحمها حجري كالمسامير..

ويبدأ شريط الذكريات

جِدا.. حبيبة قلبي من نظمت لها

أحلى القصائد، شعراً غير منثور

هل تذكرين؟ بلا شك فنحن هنا

وأنتِ من أنتِ في قلبي وتعبيري

من عشتها بين أترابي بما حفلت

دنيا الطفولة قد لفت ببشكير

دنيا الصبا، وشباب الأمس تعزفها

روح الشباب، بأعواد. بطنبور

تذكر القنديل أيامه الضاحكة، ولياليه الحلوة، التلال وهو يلامسها بأقدامه، والرياض الندية التي يطرب لها. والغصون مياسة القوام، وهو يحصرها وقرصه للخدود. وصراخه الذي يشبه النواعير.. أخيرا:

ونرجع البيت من بدري كعادتنا

لنسهر الليل في درس وتحضير

صبيحة كل يوم، ومساء كل ليلة له برنامج يصف بعضه بالمفردات الحلمنتيشية، وبعضه باللغة الفصيحة.. هو نفسه تعمد هذا الطرح:

وكم خرجنا إلى البحر العريض سوا

في بشكة جمعت كل النحارير

بين الجزيرة سموها: أبا سعد

ذات المجاميع جاءت بالبواكير

نلهو بها العمر في الأعياد في جُمع

معمورة بين بين شاهي أو تعامير

قيلاتها.. ولياليها مسجلة

بالرمل. بالشط. حلوا بالدحادير

أو فوق لجة بحر طاب فيه لنا

مسراه تقفز من بوت إلى هوري

وهذه وجبة ثانية:

وكم خرجنا لبرا الصور في مرح

مع العتيبي وشيخون أبي يوري

إلى العراء.. وفي الخليان واسعة

مديدة دون صخر أو تعاتير

نصيد فيها الدَّبا. مثل الجراد بدا

في الغيم لذَّ بيوم من ممطور

أو الهداهد بالأشراك ننصبها

لصيدها. كبقيات العصافير

أو لنضرب الشاي. بالبراد تحكره

مع التميس. وأحيانا بشابور

الشاي في عرق الشباب يحتاج إلى ضرب قبل الشرب كم يعتدل المزاج.. شاعرنا القنديل صور لنا بلغة غير متكلفة بعضا من ملامح شقاوة طفولته.. وكلنا يوم أن كنا صغارا نلهو كما يلهو. ونشقى كما يشقى.. كانت شقاوة لذيذة قبل أن نكبر.

كل ديوان شاعرنا القنديل ذكريات.. وبلغته الدارجة التي لا غبار عليها:

وكم ركبنا على الألواح نافحة

أو بالشباري تدلّت كالشخاشير

أو بالعقيلية اختصت بها ولنا

ظريفة ذات طبع غير مخفور

أشياء كثيرة لعبها القنديل ورفاقه أيام الصبوة المبكرة لعبة الكبت. والمداوين، والكبوش، والبارجوه، والاستغمايا. والضاع. واليدس.

أوبربرا حاجلا بالرجل. واحدة أو

جانا. جانا يبوي: الديب كنجوري

أو نزلة الليل للمزمار نلعبه

بين القشاح، أو التموين كالعير

يبدو وقد تجاوز الطفولة إلى الرجولة عاوده الحنين إلى الماضي.. ولكن شكوى غير قادرة على تغيير المسار..

كِدا. كفايا. بلاش الجرح ننكشه

كالراص في شيشة نكش المناقير

بالذكريات تجارت في مواكبها

بالذكريات غدت مثل الطماطير

في جدة الأمس كم كانت لنا وبها

من صورة بعد أخرى كالتقارير

ياليتها انحفظت حتى تؤرخنا

وصط المتاحف لا بين الأضابير

في جدة الأمس أفلام مصغرة

رسومها اليوم في حاجا لتكبير

يخاف على بصمات من الماضي اللذيذ أن تندثر باعتبارها الموروث الشعبي للوجه الاجتماعي القديم الذي يخاف عليه النسيان.

إلى هنا.. وينتهي أمس شاعرنا الراحل أحمد قنديل.. ليبدأ لنا من جديد ملامح يومه.. والمتغيرات التي طرأت على حياته، وعادات مجتمعه:

أما هي اليوم جِدّا.. حيث قد عبرت

كل الكباري ولم تحفل بتحذير

فإنها رغم هذا الدعم فاتنة

شهية، طعمة من دون تقشير

مثل الضميري. كالخربوز طاب لنا

إن هوّد الليل. أكلا لذّ كالشير

أو كالتميس رقيق اللمس نلدعه

كالبسكويت تماما دون تقمير

فجدة اليوم، شيء غير ما اتسعت

له التعاريف وصفا غير مكرور

فإنها الآن بنت الآية.. واعية

رشيدة العقل في وزن وتدبير

بعض ملامح المتغيرات المستجدة في واقع جدة.. وهو الواقع عبر وطننا الغالي كله:

فالسعر للمتر في بورصاتها غلبت

اسعاره لعب بورصات البناكير

العرض فيها تساوى في مرابحه

بكثرة الطلب الأغلى من الميري

فأصبحت في مدى عامين قد مضيا

حقيقة العصر جاءت دون تأخير

كعقرب الساعة الكبرى على عجل

دارت، وتلك بقت من غير تدوير

تلك هي دورة عجلة الحياة لا تراجع إلى الوراء ابدأ بمحاسنها ومساوئها.. إنها تتحرك المهم أن لا تتوقف ونتوقف بتوقفها.. شاعرنا يلتفت يمنة ويسرة وهو يذرع بخطوات سيارته الواسعة كي يرصد الجديد.. درب مكة.. مدن جديدة. شوارع جديدة.. اوتوستراد جديد.. حتى الناس.. وحتى النساء خلص عباءة التدثر.. وارتدين لباس التعصر!! حتى اللهجات بين السكان.. حتى السكن أيضاً طرأ عليه التغيير:

تعال قل لي: ووشوشني بلا خجل

هل شفت جدة مثلي في المقاصير؟

بنتا مرفهة، سمراء في طرف

حلو. سعودية رقت كما الحور

شقراء في الطرف الثاني بدت كلجا

في نطقها العرب اللفظ مكسور

بنتا مدردحة. للعصر فاهمة

تمدونت دون تكحيل وتعطير

تبدو كسنيورة في الفيللا قاعدة

أو بالجنينة عصرا جنب سنيور

أو في البقالات، تقضي كل لازمها

للبيت طبعا بتدبير بتوفير

هذه بعض ملامح المستجدات التي طرأت على مدينته.. وهي نفسها التي طرأت على مجتمع كامل بحكم متغيرات العصر وضروراته الحياتية.

في حنينه إلى الماضي بقايا، وبقايا يشد إليها وإلى معالمها خشية الانهيار أو الاندثار وبالذات ما هو في حكم الآثار

إن شئت فانظر إليها اليوم سيدة

عجوز سئمت مضع الدرادير

هذي الرواشين مازالت بخلقتها

آثار ماض مطل كالبنادير

وتلك أسواقها الكبرى مفشخة

من باب مكة حتى آخر البور

بها الأزقة - كالأنفاس - ضيقة

مزكونة مثل أكوام السحاحير

لما تزل رهن ماضيها ملولوة

خنشورة أصبحت مأوى الخناشير

هو الآن بَين بَين.. بين القديم والجديد.. إلى أين تتجه بوصلته؟!

دعنا من الأمس فالماضي بكامله

رهن الدراسات ما بين الأضابير

إنه يستشرف المسقبل بعيون شاعره تلمس.. وتحس: وتشهد جيلا جديدا من الشباب المتعلم والطموح:

فيه شباب بروح العصر مندفع

إلى الجديد كما ريح الأعاصير

انظر إلى اليوم، صارت فيه جدتنا

بتنا مودرنا تبدت دون زبزور

لمولهة وعشقه في عروس البحر تمنى لو أنه أجاد لغات العالم كي يمطر بها مدينته جدة.

يا ليت لي بلسان القوم معرفة

من انقليزي.. فرنسي.. لزائيري

أو ليت في فنون الرسم سابقة

أو ضبطة الزر في ضغط الكمامير

لو أنني أتقن اللغوات راطنة

لو أنني أعرف التصوير كالريري

لكنت أرّخت أو صورت فاتنتي

عروسة البحر في أحلى التصاوير

إلى هنا.. وقد أخذنا التطواف مع شاعرنا الراحل أحمد قنديل.. في مقطوعته الجداوية الطويلة الجميلة وقد رسمت مدينته كحسناء هيفا تجدل خصلات شعرها الطويل. وتستحم أقدامها على شاطئ البحر في الصباح وفي الأصيل. بين ذكريات للماضي.. والنيات للحاضر.. أعطاها مفردات شعرية.. وبلغة حلمنتيشية أوردتها، كما هي لأنها لغة خطابه الشعري الذي احترمه من شاعر أعطى الكثير من الدوادين المميزة.. بنكهته ورؤيته الخاصة.. انتهى

سعد البواردي

الرياض ص.ب 231185

الرياض: ص.ب: 11321 - فاكس

2053338

(*) 218 صفحة من القطع الصغير

 

استراحة داخل صومعة الفكر
(جدة) عروس البحر(*)
سعد البواردي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة