ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 12/07/2012 Issue 14532 14532 الخميس 22 شعبان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

هل يجوز تكريم العلماء والمفكرين؟ سؤال كثيرًا ما يطرح، فالبعض يستشهد بالآية القرآنية الكريمة: فَلَا تزَكُّوا أَنفُسَكمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقَى ، وأنا أظن أن الآية القرآنية وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِث تجد.....

..... مكانًا لها هنا، فالعلماء ورثة الأنبياء ويجب تبجيلهم والإشادة بهم والتعريف بهم حتَّى يكونوا نبراسًا تسير على خطاهم الأجيال الصاعدة، وأخذت على عهدي أنه في افتتاح منتدى فاس الذي أنظمه كل سنة بمدينة فاس المغربية، نقوم بتكريم شخصيّة أسدت خدمات جليلة لوطننا العربي وعالمنا الإسلامي، وسأحكي لقرائنا الأعزاء اليوم عن العلامة المغربي عبد الهادي التازي الذي كنّا قد كرمناه وأصدر عنه المركز المغربي متعدد التخصصات للدراسات الإستراتيجية والدولية كتابًا مفعمًا بالكتابة والصورة.. فعندما أردنا تكريم هذا العالم الجليل، فإننا انطلقنا من خصوصية هذا الرجل الفذ الذي التزم الفكر وقضايا بلده ووطنه وأمته في كلِّ الظروف وفي كلِّ الأمكنة، حيث قضى كل حياته ومازال يقضيها ناسكًا في محراب العلم المقدس، حتَّى أصبح اسمه قرينًا بتاريخ الدبلوماسية المغربية الذي رسم لها معالمها المميزة، وفي البداية لا بد من الإشارة إلى خاصيتين يتميع بهما ويعرفهما عنه الكثير من ذوي الفكر والقلم في المملكة العربية السعودية وفي كلِّ الأقطار العربية، أما الأولى فعلاقته بالكتاب، وهي علاقة الروح بالجسد، ودائمًا يقول: إنه ما مرَّ من مصر ولا قطر ولا بلدة إلا وزار مكتباتها قبل كل شيء وعندما تدخل منزله الذي سماه باسم عاصمة العراق التي كان سفيرًا فيها سنة 1964م، تجد الكتاب في كلِّ مكان، وهذا ما يفسر طبعًا أنه يعمل بانتظام واستمرار، كانت نتيجته تلك الكوكبة من الأعمال الفكرية الرائعة والنادرة التي خلفها، وذلك الشريط الطويل من الخصوصيات الذاتية والجريئة لرجل يعشق الكتابة بالحركة الدائبة، لتكوّنَ في جملتها سفرًا كبيرًا ستقرأ فيه أجيال قادمة دروسًا من الجهد والبذل العلميين تشهد لجامعة القرويين التي أخذ العالميّة منها ولفاس التي تربى في أحضانها وللعربي بقدرته على ولوج الكونية المعرفية من أوسع أبوابها وعلى الإقدام على المنافسة الأكاديمية في معترك العلم والمعرفة.

أما الثانية فهي مزاجه الخاص وخفة دمه ومرحه والكلمات المعسولة التي يجد لها دائمًا مكانًا في محاورته للآخرين وامتلاكه لأسلوب فن البلاغة قَلَّ نظيره، حيث يمزج الجد بالهزل مما يُثير إعجاب الحضور وسامعيه من مختلف الأعمار والجنسيات، وكم من مرة نكون بجانبه ونتمنى أن يطول الحوار، فهو دائمًا صاحب مشروع كلام أو كتابة من النوع الدسم والقائم على البحث المعمق والتوليد المعرفي المدجج بالجد والهزل، وهما عنده توأمان، وكلا الأمرين مع عطائه العلمي تصب في مجرى واحد، هو إظهار مدى قدرة نهر الثقافة العربية على التدفق والدوام. ثمَّ إن مسيرة عبد الهادي التازي الفكرية لم تكن إطلاقًا محصورة في تاريخ الحضارة والثقافة المغربية ولا هي أطلت على همومها وإشكالياتها من خارج، وإنما كانت ولا تزال مفصلاً حاسمًا في هيكلها، وإضافة رئيسة في باب الجواب عن أسئلتها، فاتحة أمام مغامراتها العبقرية آفاقًا رحبة المدى.

وإذا كان مما صنع لمساهمة عبد الهادي التازي في ميادين الفكر والعلم والعمل الدءوب، فرادتها ونوعيتها ما انطوت عليه ثقافته وذكاؤه من موسوعة وثراء عزت لها النظائر -مغربيًّا وعربيًّا وعالميًا- فإن مما صنع لها حرارتها وصدقها التزام خريج جامعة القرويين قضايا وطنه وأمته، فغدا صاحب مشروع بأتم معنى الكلمة.

نعم إنه صاحب مشروع كتابة من الطراز المعرفي الهائل سيبقى مرجعًا للأجيال لا محيد عنه والقائم على البحث والتنقيب المعمق والمدجج بقوة الأسلوب وعظمة الفكرة والاستشهاد.

وهو من شجرة طيبة جنت منه الإنسانيّة المئات من المؤلِّفات بعضها في العشرات من الأجزاء.

وهو من المحظوظين الذين توالت أولوياتهم: فهو أول من نجح في فوج الشهادة العالميّة من جامعة القرويين عام 1947م؛ وأول من نجح في مباراة التدريس بالجامعة المذكورة عام 1948م؛ وأول من نال دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة (جامعة محمد الخامس) 28 فبراير 1963م؛ وأول من ألف ثلاثة مجلدات عن جامع القرويين 1972م؛ وأول من ألف حول التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم 15 مجلدًا 1986م؛ وأول من اكتشف على الصعيد العالمي خللاً في ترتيب رحلة ابن بطوطة 2004م التي ترجمت إلى عشرات اللغات؛ وأول من حبس مكتبته الخاصَّة (وعنده مخطوطات نادرة) على خزانة جامعة القرويين عام 2006م.

وعندما أردنا تكريمه استبشر الجميع خيرًا، لأنّه في الإبان استحضرت ما قاله أحد علماء المغرب أحمد زروق في كتابه عدة المريد الصَّادق، الذي حققه الدكتور العلامة إدريس عزوزي، عندما قال لأحد مريديه: (إننا لا نذكر حتَّى نسوس تحت التراب) وهذا خطأ كبير وطامة كبرى ومصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة، في حق أناس تركوا بصمات شاهدة على أحسن أعمالهم، لكن المنية أتتهم دون أي يكرمهم أحدٌ أو يعترف لهم بما قدموا وأنجزوا، فقلت في نفسي: إن هذا التكريم، خاصة بمبادرة من أبناء جيلي، والذين يجنون دون عناء ثمار أجدادهم، فريضة علينا، عوض أن نقوم بالتأبين بعد الغياب، ليكون ذلك اعترافًا لهم بما أسدوه للعالمين، والرسول المصطفى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من لم يشكر الناس، لم يشكر الله) وحافزًا للأجيال الشابة على المضي قدمًا في طريق الجد والمثابرة والبحث والتنقيب والاستقامة ومكارم الأخلاق.

وعندما شرعت في الإعداد لتنظيم هذا الحفل وبدأت أول اتصالاتي بالعالم الفذ، المكرم الفاضل، وجدت فيه من السجايا والكرم ما لا يوجد في غيره، ووجدت أنه يتمتع بقوة الذاكرة وهو الذي تعدى التسعين حتَّى لنبقى مبهورين أنا وأفراد عائلته عندما يقول لك مثلاً: اذهب إلى ذلك الرف وخذ الملف الثالث الموجود بعد الملفين الأولين وخذ الظرف الرابع ثمَّ الرسالة الثالثة الموجودة فيه وانظر آخر السطر الفلاني تجد ضالتك، وهنا استحضر الأثر الشاهد الذي جاء فيه (من قرأ كتاب الله لم يرد إلى أرذل العمر)، وإذا كنت شخصيًّا تربيت في أحضان عالم من خريج جامعة القرويين الأستاذ إدريس عزوزي وملازمًا لحلقات الدروس عندما كنت صبيًا، ومطلعًا على خصال علماء القرويين الذين كانوا يجتمعون كل سبت بعد العصر في منزل من منازلهم بالتتابع، فلا أظن أن عالمًا مثله يمتلك أسلوبًا يمزج الجد بالهزل.

وهو يتقن فن الخطابة مما يجعلك تنبهر أمام سحره، وما زلت أتذكر أنني كنت في غرفة نومه (والكتب المبعثرة فيها توحي أنك في مكتبة من مكتباته وليس في غرفة نومه)، والهاتف لا يتوقف على الرنين وكان بيني وبين المؤتمر أيام قلائل، وكنت دائمًا مضطرًا إلى الرد، فإذا به ينظر إلى مبتهجًا وينشدني بيتا:

وكيف أرجى منك صدق العواطف

وقلبك مقسم على ألف هاتف

وهو الذي عرض عليه (كما أسر إلي) مالاً كثيرًا لتشترى مكتبته، فرفض وحبسها بأكملها على مكتبة القرويين، ولعله استحضر قول الرسول المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم): (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وقد جمع عالمنا الكبير كل هذه الخصال والحمد لله.

وهو الأب الحنون والوطني الكبير الذي يحب الخير لغيره ويشجعهم وينصحهم وكان يقول لي، وهو يستحضر معي الأنشطة المؤسساتية والفكرية التي أقوم بها: ضع كيلوغرامات من القطن في أذنيك واستمر في عملك ولا تسمع لأحد، وكل ذي نعمة محسود.

 

هل يجوز تكريم العلماء والمفكرين؟
د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة