ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Wednesday 18/07/2012 Issue 14538 14538 الاربعاء 28 شعبان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

استحت اللغة، وصار بيني وبين الكلام شيء كالفاصلة الضخمة، أو كحد السيف، أو كفوهة البندقية، أو كوجع الرمح، لقد أصابني الهوس والتعجب الكبير، والمتاهة الهلامية، والحركات الجامحة، التي ما انفكت تطاردني، وتشكلت لدي وصلة عنيفة تدفقت في شراييني، حين يصبح - سليم - حارس المدرسة الفقير وفيا لزوجته التي أصابها الشلل التام منذ أكثر من خمسة سنوات

لدرجة تفوق الدهشة والخيال والتصديق في زمن عز فيه الصدق والنبل والوفاء وكثر فيه الكذب والبهت والدجل والنفاق والرياء.

سليم يحمل زوجته على كتفه ليل نهار، لقد عاش حياة سعيدة معها، في غرفة بالمدرسة التي يعمل بها، لكنها فجأة أصيبت بشلل تام، ففقدت القدرة على الحركة وعلى الكلام، إنه منذ ذلك الوقت أصبح الزوج، هو من يقوم برعاية زوجته، فهو يستيقظ باكراً ليحضر الفطور لزوجته وابنه، ويذهب إلى العمل ثم يعود بعد ساعة، لينظف المنزل ثم يحضر الطعام، ويطعم زوجته بيده لأنها لا تقدر على حمل الملعقة ثم يعطيها الدواء، ويجلسها على السرير بالاستعانة بالوسائد، ويبقى مطالباً بالعمل والعودة إليها بين الساعة والأخرى، وفي الليل يستيقظ الزوج أكثر من أربع مرات ليقلبها من جنب إلى جنب، لقد هجر - سليم - الدنيا ليتكفل بزوجته، إلى درجة أنه عاش محاصراً في عالم ضيق لا يعرف فيه إلا زوجته والغرفة، غريب هو هذا الرجل البسيط يمنح زوجته الدفء والحنان ورحابة المقام وصفو الكلام ويقاسمها اللقمة واللذة وبين حناياه تعب طويل وعطش قديم وعوز وفقر وحطام حياة، هو مثل سدرة عالية، وربوة عالية، ونبت حديقة، وشلال ماء، وموجة وإيقاع، وتخوم شعر ونثر، وخطاب مكتظ بالإيحاء، وبحر واتساع حياة، وبساتين وجزر، وضفتي نهر، وزهور ماء لامعة، وإيقاع موج، ورائحة ساحل، في نفسه شهود كثيرة تغني وتتكلم في داخله، تتراءى طرية خلف أسوار ذاكرته، الواقع في مسروداته يكتسب الحياة ويمسي حاضرا، والأشياء عنده شواهد، وعناوين لقصص توحي بقوة الأشياء وشواهدها ومعالمها، أن هذا الرجل البسيط تمثل بزخم حضوري تغلفه الإنسانية النبيلة، مزجها كأفعال حقيقية لها ارتكازات قوية راقية ونبيلة، حتى أنه حول الحلم والتخيل لدى زوجته إلى ثية واقعية، وإيقاظ وعي حي في وجدانها، لقد اعترف بحقها وأكرمها بالعناية وأضاء لها الحياة، لقد أدرك عقله قيمة اللحظة وحال الواقع ولم يتوارى عن زوجته كما تتوارى المجرات بل جسد حسابات الربح الروحية واحتضن الحب والفقر والحقيقة، لم يفر عنها كالعصافير، لكنه انتصر على حزنه ودموعه وواقعة بتراتيل الدعاء، وابتهج بها كقصيدة راقية، تخيل زوجته كربيع عامر، ولم يتخيلها كخريف ينبئ بالبكاء والسقوط، نضجت برأسه الرؤى، وتخمرت حتى صارت بحجم الواقع، وامتلك مشهد التحدي، وأمسك بفوانيس الأمل، ودون في دفاتر الإملاء عناوين الحلم وهاجس البياض والصباحات الآتية، تحدث برؤى العقلاء وبساطة الحياة رغم قيد الفقر وأنين الألم وتراكيب الأشياء الكثيرة، لم يبكِ من ثقل الحال والحالة وركاكة الناس السيرون بخدر الجفاء والحوارات الباهتة والعاطفة المرة، بل ولد يوم قرر الآخرون سلب حياته وقهره، وحول بحر حزنه إلى محيط أمل أزرق به نوارس وبجع وسفن عابرة، وتحدث بلهجة الواثق ومشى على أرض وزن فيها سعادته بميزان عيني زوجته المكلومة، إنه منجم أسطوري فيه حكايا وشوق ورغبة وهاجس وأمنية وتطلع.

فهل بعض ناسنا النائمون والمخدرون بجفاف الوفاء ووعورة البعد وصلف الجحود والنكران، الذين يشبهون القبور المهجورة، والدور العتيقة، والأبواب الموصدة، والسكون المهول، والأعمدة المائلة، والسقوف التي تكاد تسقط، والدروب الضيقة، وأشباح المساء، والطقوس الخرافية، يثيرهم فعل هذا الرجل البسيط المعدم ويحدقون بقصة جيدا ومن ثم يبكون بعويل حاد وبعدها يهرعون إلى الزوايا الكثيرة ليبحثوا عن طرق الوفاء والنبل التي هجروها طويلا، لكي يكونوا ملتحمين بتلك الحالات ومشدودين إليها، وفق أعمال لها وهجها وبريقها لكي تبقى طويلا في مخزون الذاكرة ومكنون الوعي، وليدخلوا في قلوب البؤساء والمحتاجين والمعاقين صورا جذابة لها ضوء، وليكونوا ملتحمين بالناس والأمكنة والأشياء على صعيدي الواقع والحلم، وحتى لا يكون ركودهم مثل الخيبة التي تستر الضعف لكنها لا تشفي ولا تعزي، أو كالرمل الذي يحز العيون، وقبل أن تلفظهم الحياة، ويتوارون في أفق العدم، ويأخذهم الموت، وتنسل أرواحهم خارجة من الأبدان، ويختفون تحت التراب، وينخر محاجرهم الدود، وينتهون تماما كما تنتهي أيام نشوتهم والرخاء والكذبة الباهتة.

ramadanalanezi@hotmail.com
 

سليم.. جعل الكلام عندي شيئاً كالفاصلة الضخمة!
رمضان جريدي العنزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة