ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 09/08/2012 Issue 14560 14560 الخميس 21 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

رمضانيات

      

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . (183) سورة البقرة.

أتى شهر رمضان، ونحن غافلون عن الثواب الكثير، ساهون عن الملك الكبير، لاهون عن لباس السندس والحرير، متقاعدون عن اليوم العبوس القمطرير، نائمون عمّا أتى به محمد البشير النذير، مصرون على الذنوب والعصيان مقيمون على الآثام والعدوان، متمادون في الجهالة والطغيان، متكلمون بالغيبة والبهتان، قد تمكن من قلوبنا الشيطان، فألقى فيها الغفلة والنسيان.

أتى شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران شهر البر والإحسان، شهر مغفرة الديان، شهر العتق من النيران.

قل لأهل الذنوب والآثام

قابلوا بالمتاب شهر الصيام

إنه في الشهور شهر جليل

واجب حقه وكيد الزمام

شهر فيه جزيل الثواب، وهو شهر المتاب، لياليه أنور من الأيام، وأيامه مطهرة من دنس الآثام، وصيامه أفضل الصيام، وقيامه أجل القيام.

قال ابن الجوزي - رحمه الله- في كتابه (بستان الواعظين) عن شهر رمضان شهر فضّل الله به أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، شهر جعله الله مصباح العام، وواسطة النظام، وأشرف قواعد الإسلام، المشرق بنور الصلاة والصيام والقيام.

في شهر رمضان أنزل الله كتابه، وفتح للتائبين أبوابه، فلا دعاء فيه إلا مسموع، ولا عمل إلا مرفوع، ولا خير إلا مجموع، شهر السيئات فيه مغفورة، والأعمال الحسنة فيه موفورة، والمساجد معمورة، وقلوب المؤمنين مسرورة.

أين أهل القيام لله دأبا

بذلوا الجهد في رضا الجبار

أنتم الآن في ليال عظام

قدرها زائد على الأقدار

يقول ابن الجوزي رحمه الله: الصيام ينقسم إلى أحد عشر ضرباً صيام الفرض (صيام شهر رمضان)، وصيام الظهار (كقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي)، وصيام النقل (أي الانتقال من دين إلى دين الإسلام) وصيام الوطء في رمضان (وهو كفارة لمن وقع منه مثل ذلك)، وصيام كفارة اليمين، وصيام فدية الأذى، وصيام التمتع والقران، وصيام إفساد الحج، وصيام كفارة قتل الصيد، وصيام النوافل، وصيام النذر. وليحذر المسلم من صيام ستة أيام هي يوم الفطر (عيد الفطر)، ويوم الأضحية (عيد الأضحى)، (وثلاثة أيام بعد التشريق) (ويوم الشك اليوم الذي يشك فيه هل هو من شعبان أم من رمضان) على خلاف بين الفقهاء في بعض هذه الأيام، كما أن بعض العلماء يضيف إلى هذه الأيام أياماً أخرى، مثل يوم الجمعة الذي يكره صيامه منفرداً.

والصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصيام العقل، وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع.

الصوم جنة أقوام من النار

والصوم حصن لمن يخشى من النار

والصوم سترٌ لأهل الخير كلهم

الخائفين من الأوزار والعار

فصام فيه رجالٌ يربحون به

ثوابهم من عظيم الشأن غفّار

فأصبحوا في جنان الخلد قد نزلوا

من بين حور وأشجار وأنهار

مرَّ الحسن البصري - رحمه الله- بقوم يضحكون فوقف عليهم وقال: إن الله تعالى قد جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه الباطلون.

وقد قيل: ليس في العبادات أفضل من الصيام، لأنه باب العبادة، وقد جعل الله تبارك وتعالى هذا الشهر العظيم كفارة للذنب العظيم وليس في الذنوب إلا عظيم، لأننا إنما نعصي بها الرب العظيم، وقد قالوا لا تنظر إلى صغر ذنبك ولكن انظر إلى من عصيت!

والحكمة في فرض شهر رمضان، أن الله تعالى أمرنا أن نصوم فيه ونجوع، لأن الجوع ملاك السلامة في باب الأديان والأبدان عند الحكماء والأطباء فما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، والحكمة ملك لا يسكن إلا في بيت خال.

وقد قيل شعراً:

تجوّع فإن الجوع يورث أهله

عواقب خير عمها الدهر دائم

ولا تك ذا بطن رغيب وشهوة

فتصبح في الدنيا وقلبك هائم

يقول ابن الجوزي - رحمه الله- في كتابه (رياض السامعين) الله الله عباد الله صوموا جوارحكم عن المنكرات، واستعملوها في الطاعات، تفوزوا بنعيم الأبد في قرار الجنات، والتمتع بالنظر إلى جبار الأرض والسموات.

وشهر الصوم شاهدة علينا

بأعمال القبائح والذنوب

فيا رباه عفواً منك والطف

بفضلك للمجير والكئيب

وهذا الصوم لا تجعله صوماً

يصيرنا إلى نار اللهيب

فالصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع بنيّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ولا يخفى على كل لبيب وجه التناسب بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للصيام.

إن شهر الصوم شهر عظيم، زكي مبارك كريم، من أطاع فيه الملك الجبار واتبع فيه السنة والآثار، غفر الله له ما قد سلف من الذنوب والأوزار، وخاصّه برحمته من عذاب النار، ومن عصى فيه الملك الجبار، وخالف القرآن والآثار، وعمل بأعمال الفجار، ولم يوقر شهراً عظمه الإله القهار، غضب عليه مقدر الأقدار، ولعنه كل شيء يختلج بالليل والنهار.

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (185) سورة البقرة.

وما جعله الله سبحانه وتعالى هدى فلا يكون ضلالة وما جعله بياناً فلا يكون جهالة، وما ضعف فيه الأجر فلا يجعل بطالة.

قيل: سمي شهر رمضان بهذا الاسم، لشدة الحر فيه (يُقال أرض رمضاء أي شديدة الالتهاب لشدة حرارتها)، وقيل أخذ من حرارة الحجارة لما يأخذ القلوب من حرارة الموعظة والفكرة والاعتبار بأمر الآخرة، فسمى رمضان بذلك لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقيل سمي بذلك لأنه شهر يغسل الأبدان غسلاً، ويطهر القلوب تطهيراً، وهو شهر الإيقان، وشهر القرآن، وشهر إغاثة اللهفان، وشهر التوسعة على الضيفان، وشهر تفتح فيه أبواب الجنان، ويصفد فيه كل شيطان، وهو شهر الأمان والضمان.

يقول ابن الجوزي - رحمه الله-: شهر رمضان تزهر فيه القناديل، وينزل فيه بالرحمة جبريل، ويتلى فيه التنزيل، ويسمح فيه للمسافر والعليل.

رمضان للعباد مثل الحرم في أم البلاد، رمضان في الدنيا، مثل الجنان في العقبى: سدر مخضود، وطلع منضود، وظل ممدود، ملكه خلود.

قيل: الشهور الاثنا عشر كمثل أولاد يعقوب عليه السلام، وشهر رمضان بين الشهور كيوسف عليه السلام بين إخوانه، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علاَّم الغيوب.

فهذا شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات، والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور.

وقد ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله: (لو يعلم الناس ما لهم في شهر رمضان لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان) وقال كذلك (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. وقال أيضاً: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفّدت الشياطين (وقال عليه الصلاة والسلام): (أتاكم شهر رمضان شهر خير وبركة).

وفي الحديث القدسي قال عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به)، فالله لله والحرمان، والتمادي في العصيان والرضا في أدياننا بالنقصان، في الشهر الفاضل شهر رمضان.

ثم إن اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاث وجبات إلى وجبتين اثنتين فرصة طيّبة لخفض مستوى الاستهلاك، وهي فرصة مواتية لاقتصاداتنا خصوصاً ونحن أمة مستهلكة، أشارت كل الإحصاءات إلى أن أقطارنا كافة تستهلك أكثر من إنتاجها وتستورد أكثر من تصديرها، وما هذا الاستهلاك الزائد دائماً والاستيراد الزائد غالباً إلا عاملان اقتصاديان خطيران تشقى بويلاتهما الموازنات العامة وموازين المدفوعات.

ومن الواضح أن هناك علاقة طردية أصبحت بين شهر رمضان المبارك والاستهلاك المبالغ فيه، والمرء يدهش من هذا النهم الذي يستشري لدى الناس في هذا الشهر الكريم، فالكل يركض نحو دائرة الاستهلاك، والاستعداد للاستهلاك في رمضان يبدأ مبكراً ومصحوباً بألوان الدعاية والإعلانات التي تحاصر الأسرة في كل وقت ومن خلال أكثر من وسيلة.

وبالتالي يكون المرء مهيأ تماماً للوقوع في دائرة الاستهلاك الشره، والتي ليس لها حدود دنيا أو قصوى، وإنما هي حالة تستوطن الإنسان في شهر رمضان ولا تتركه إلا بعد أن تتجرّد جيوبه وحساباته، خاصة أصحاب الدخل الثابت والمحدود.

إن خطة شاملة لمكافحة الشراهة الاستهلاكية أصبحت مطلوبة في رمضان وغير رمضان.

إن الإنفاق البذخي في رمضان أمر لا يمكن أن يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الإسلامية التي في أغلبها مجتمعات نامية تتطلب المحافظة على كل جهد وكل إمكانية من الهدر، وما نصنعه في رمضان هو بكل تأكيد هدر لإمكانات مادية، وهدر لقيم سامية، وهدر لسلوك منزلة القناعة.

إن هذه الحالة من شراهة الاستهلاك المتنامية فينا تدل على مدى التخلف السلوكي الذي تعيشه مجتمعاتنا الإسلامية، وتعكس واقع المسافة بين المبدأ والفعل والتي تتسع يوماً بعد يوم.

إن التأمل من بعد لصناديق وأكياس القمامة يؤكّد أننا في حاجة إلى ضرورة إعادة النظر في قيمنا الاستهلاكية، وذلك بتعديلها لتصبح قيماً إنتاجية، أو قيماً استهلاكياً رشيدة.

والاستهلاك أو تزايد الاستهلاك معناه المزيد من الاعتماد على الخارج، ذلك لأننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، أو مستوى معقول لتوفير احتياجاتنا الاستهلاكية اعتماداً على مواردنا وجهودنا الذاتية، وهذا له بعد أخطر يتمثّل في وجود حالة تبعية غذائية للآخر الذي يمتلك هذه الموارد، ويستطيع أن يتحكم في نوعيتها وجودتها، ووقت إرسالها إلينا.

ومن ثم كان للاستهلاك أبعاد خطيرة كثيرة تهدد حياتنا الاقتصادية، وتهدد أمننا الوطني فهل يكون شهر رمضان فرصة ومجالاً لامتلاك إرادة التصدي لحالة الشراهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم؟

لقد درجت أمانينا على اغتنام فرصة الصيام لتقويم الروح بفوائد روحية وتقويم الجسم بفوائد جسمية، فهل نتعود على اغتنام الفرصة لتقويم اقتصاد الأمة، وهو جسمها وروحها من داء عضال، هو داء الاستهلاك الدائم من غير إنتاج كاف؟!

إن بعض معاني الصوم أنه إمساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي هو تخفيض الاستهلاك، أو على الأقل ضبط الاستهلاك.

إن استهلاك المسلم هو الكفاية لا التبذير، وإن منفعته وإشباعه يتحقق ليس فقط بالإشباع المادي، بل من خلال الإشباع الروحي بأداء الواجب نحو المسلمين من مال الله الذي رزقه إياه، وإن منفعته تتحقق حتى من قيامه بواجبه نحو أهله وزوجه وولده. ولذا يسعى المسلم إلى مرضاة الله تعالى، فيشكر الله على نعمه، ويحمده كلما وفّقه إلى استهلاك شيء من رزق ربه، والمسلم ينفق ماله ليحقق منفعة بسد حاجته، وبلوغ متعته، والكفاية عن الحرام، وتحقيق مرضاة الله، ونيل ثوابه عزَّ وجلَّ.

إن شهر الصيام فرصة دورية للتعرّف على قائمة النفقات الواجبة بالمفهوم الاقتصادي، وعلى قائمة الاستبعاد النفقي، ثم فرصة لترتيب سُلم الأولويات ثم فرصة كذلك للتعرّف على مستوى الفائض الممكن.

إن شهر الصوم فرصة لتحقيق ترشيد أفضل، ولتوسيع وعاء الفائض الممكن، ولكن شريطة أن يرتبط بالقاعدة القرآنية الإرشادية المعروفة: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} هذه القاعدة ولا شك هي ميدان الترشيد على المستوى الفردي والمستوى العام.

إن شهر رمضان فرصة للقادرين لاستجلاء مشاعر المحتاجين، بما يحدثه الصوم من أثر حقيقي في نفوس القادرين إزاء المحتاجين.

ومما سبق يمكن القول بأن الخصائص الاقتصادية المرتبطة بشهر رمضان هي خصائص كامنة في جوهر الصيام، باعتباره مرتبطاً بقوى اقتصادية، مثل الاستهلاك والإنفاق والإشباع، مقدار المنفعة ودرجة الحاجة.

وتحريك هذه الخصائص وتنشيط فاعليتها هو مهمة البشر، على مستوى الأفراد لضبط استهلاكهم، وعلى مستوى المؤسسات بتوفير الوسائل الكفيلة بحسن توجيه الأموال، وحسن توظيف قوتها الاقتصادية.

ثم إن الصوم من أقوى العبادات على تهذيب النفوس والسمو بالأرواح، إذ فيه إعداد النفوس، وتهيئة لها على تقوى الله ومراقبته.

وفي الصوم تربية على قوة الإرادة وكبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك ما يضره من مألوفاته، أكلاً، وشرباً، أو متاعاً.

والصوم ينمي في النفوس رعاية الأمانة، والإخلاص في العمل، وألا يراعي فيه غير وجه الله، دون مداهنة أو مجاملة.

والصوم يمثّل ضرباً من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة.

ثم إن للصوم أسراراً يحسن العلم بها، وتتبين هذه الأسرار من خلال مراتب الصوم الثلاث، وهي: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، فصوم العموم: هو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وصوم الخصوص يعني: كف النظر، واللسان، واليد، والرجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة.

الصوم تربية لروح المسلم وأخلاقه، حتى يشعر الغني بحاجة الفقراء والجوعى، فيزداد إيمانه بالله، ويقينه بضرورة أداء حق الفقراء في أمواله، بل يزيد على ذلك الحق عندما يشعر بألم الجوع والعطش.

ومن الأسف أن بعض الناس اعتاد على بعض العادات السيئة الدخيلة على شهر رمضان، والتي تتمثّل في طريقة الإنفاق الاستهلاكي، وهي ليست من الإسلام، فعندما يأتي شهر رمضان نرى أن أغلبية من المسلمين يرصدون ميزانية أسرية أكبر بكثير إن لم تكن ضعف الميزانية في الأشهر العادية، تبدأ بمضاعفة استهلاكها، ويكون النهار صوماً وكسلاً والليل طعاماً واستهلاكاً غير عادي.

إن الطعام الزائد في الليل وبإفراط يؤدي إلى فقدان الكثير من تلك الفوائد، بل قد ينعكس ذلك بشكل سلبي على صحة الإنسان، فإذا أكل كثيراً في الليل يصبح كسلاناً بسبب تخمّر الطعام في جهازه الهضمي.

والنصيحة التي يمكن أن نوجهها إلى المسلمين هي عدم التفريط في تناول الطعام في ليالي رمضان، والتزام القوام والاعتدال، ذلك أن أحد أسباب الكارثة التي حلّت بنا اليوم هي البطر والإفراط في الاستهلاك، والتبذير والبعد عن الدين القيم، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (النحل: 112) وكلنا يعلم قصة قارون كما وردت في القرآن الكريم (القصص: 76-83) وفرعون وغيرهم الذين جحدوا نعم الله.

فالإسراف والتبذير في الاستهلاك يعتبر سوء استخدام للموارد الاقتصادية، والسلع التي أنعم الله بها على العباد لينتفعوا بها وهو عمل يذمه الإسلام ذماً كبيراً، حيث وصف الله المبذرين بأنهم إخوان الشياطين، لما لهذا العمل من آثار سيئة لا تقتصر على صاحبها الذي مارس الإسراف، بل تمتد لتشمل المجتمع والعالم.

وإن للصوم أبعاداً اقتصادية عظيمة، منها ما يدركها العقل البشري، كأثره على صحة الإنسان مثلاً، الثروة البشرية، ومنها ما لا يستطيع العقل البشري إدراكه، فطوبى لمن اقتدى، في صيامه وقيامه بمحمد صلى الله عليه وسلم.

إن من واجب المسلم أن يعمل على توفير ما تقوم به الحياة من مأكل ومشرب، وملبس، ومسكن.. إلخ من الضروريات لصيانة دينه، ونفسه، ونسله، ولحفظ عقله وماله. كما يفترض في المسلم أن يتجنب النزعة الاستهلاكية قدر الإمكان. وإن كان هذا يختلف من شخص لآخر، بحسب يساره المادي، وبقدر زهده في الدنيا ومباهجها، إلا أن هناك حدوداً لذلك على كل حال ينبغي مراعاتها.

إن الإنسان أهم بكثير من أي نموذج أو نظرية أو تفسير، هذا ما اكتشفه علماء الاقتصاد أخيراً، فالإنسان هو الذي يقرّر مستوى رفاهه ودرجة ثرائه، وكل الأمر متوقف على قراره وسلوكه، فبإمكانه إن أراد أن يكون معتدل الاستهلاك فيصبح حجم الوفر لديه بما يمكنه أن يصبح ثرياً، وبإمكانه إن كان نهم الاستهلاك كما هو حال الفرد في أغلب المجتمع الغربي أن يأكل ثروته.

وبعد أن كان علماء الاقتصاد مصرين على أن الدولة وسياساتها هي العنصر الأهم في العملية الإنتاجية عادوا ليقرّروا أن المستهلك والمنتج هم أسياد اللعبة. فيوم يُربي المجتمع عادات الاستهلاك ويهذبها ويوجهها، فإن عملية ترشيد واسعة ستؤدي إلى انتفاع هذا المجتمع بخيراته على أكمل وجه.

وهكذا فمفتاح حل الأزمات الحقيقي إنما يكمن في التربية الاستهلاكية، وهو مفهوم حديث نسبياً على المجتمعات الغربية، التي جعلت من الحرية المطلقة بلا ضوابط إلهاً يُعبد من دون الله. فلقد كان هناك من يعتبر هذا النمط من التربية اعتداءً غير مبرر على حق المستهلك في أن يستهلك ما يشاء، وقت ما يشاء، وكيفما يشاء. ولكن اكتشف العديد من المجتمعات أن تدليل المستهلك إلى هذا الحد باهظ الثمن، وأنها إذا استطاعت أن تلبيه اليوم، فقد لا تستطيع ذلك في الغد. ولذلك عادت مفردات التدبير والتوفير، وحسن التصرف في المال تشق طريقها إلى الدراسات الاقتصادية الحديثة. ووجدنا من الاقتصاديين من يقول: لقد تحدثنا كثيراً عن قوانين الاقتصاد، ورسمنا المزيد من المنحنيات والمعادلات، ولكننا نسينا المتغيّر الأكبر الذي يقرّر صلاحية أو عدم صلاحية كل ما تحدثنا عنه وتوقعناه وهو الإنسان.

إن رمضان هو محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد، وعملية تدريب مكثفة تستغرق شهراً واحداً تفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بإلغاء استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية، ولساعات طويلة كل يوم. وأنه محاولة تربوية لكسر «النهم الاستهلاكي» الذي أجمع علماء النفس المعاصرون أنه حالة مرضية، وأن مجال علاجه في علم النفس وليس علم الاقتصاد. وإن كان يصيب بتأثيراته أوضاع الاقتصاد وأحواله.

إن رمضان مناسبة للمسلمين ليتذكّروا أن الجسد والعقل يعملان بكفاءة تامة خلال ساعات الصوم، وإن إمكان تحمّل الجوع والعطش لفترات طويلة والبقاء في حالة ذهنية أكثر صفاءً وحالة جسدية أكثر انتعاشاً وخفة، أمرٌ وارد ومشاهد.

وهذا الاكتشاف الذي يتكرّر مع كل قدوم للشهر المبارك هو الخلاص من الوقوع في الديانة الاستهلاكية التي أصيب بها بعض المجتمعات، والتي أصبح فيها السوبر ماركت هو مكان عبادتها الجديدة، على حد تعبير الدكتور جمال حمدان في مؤلفه «مصر.. دراسة في عبقرية المكان».

وفي الختام نود أن نؤكّد حقيقة مسلمة أنه لا بد من بناء الإنسان المستهلك باعتدال.

- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
 

رسالة الصوم الاقتصادية
د.زيد محمد الرماني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة