ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 04/09/2012 Issue 14586 14586 الثلاثاء 17 شوال 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لا تخلو دولة ولا مؤسسة من الفساد، فالفساد بمختلف مستوياته يكاد يكون سمة من سمات العمل في عصر الاستهلاك، فدائماً هناك من يتصرف بما يخالف الأنظمة، أو بمنظور مصلحة شخصية فقط، وفي أسوأ الأحوال قد يضعف ويسرق المال العام أو يأخذ رشوة.

الاختلاف بين الدول هو في كيفية التحوط من ظاهرة الفساد وطرق معالجتها لأنه كلما تطورت أساليب ملاحقة الفساد تطورت معه بشكل تلقائي أساليب التحايل عليها.

التجربة البشرية أثبتت أن أفضل الطرق للحد من الفساد وجود قضاء نزيه وخضوع جميع أفراد المجتمع بلا استثناء للقوانين ذاتها.. وقد لا يختلف اثنان أنه رغم تطور أساليب الفساد في دول العالم المتقدم إلا أن أجهزتها الرقابية والقضائية تحقق نجاحات أكبر في محاصرة الفساد من مثيلاتها في دول العالم الثالث الذي قزّم الفساد نموها الحضاري والاقتصادي. ولا شك أنه على من يريد التحول إلى دولة حديثة متحضرة تنظيمياً واقتصادياً أن يتصرف ويعمل كدولة حديثة متحضرة تنظيمياً واقتصادياً، وربما يمكنه اختصار الوقت والجهد للوصول لذلك بالتعلم من تجارب من سبقوه عوضاً عن التخبط بطريقة التعلم من التجربة والفشل.

يمتد عمر بعض تجارب التحديث إلى مئات السنين وكثير منها يستحق الدراسة بعناية. فالدول التي نهضت مؤخراً سواء في آسيا أو أمريكا اللاتينية، أو حتى في بعض بلدان إفريقيا هي تلك التي عرفت كيف تستفيد بشكل مدروس وفعّال من التجارب الإنسانية الناجحة للشعوب الأخرى. أما تلك التي تقوقعت، لأي مبررات كانت، فمازالت تتخبط وتتلمس طريقها في عالم تنافسي متسارع التغير لا يعرف الشفقة الرحمة. والفرق بين الفئة الأولى والثانية هو الفرق الماثل أمامنا اليوم بين دول كماليزيا والهند، وأخرى مثل نيجيريا، وباكستان، وكولومبيا، والسودان، وإيران على سبيل المثال.

ولا يُعدم مسؤولو الدول الفاسدة المبررات والتبريرات لتفشيه في بلدانهم، فهم قد يرون لأنفسهم خصوصيات اجتماعية وتاريخية تجعل بعض الممارسات التميزية غير السوية جزء من خصوصية معينة تتميز مجتمعاتهم بها، وقد يطالب بعضهم بشكل مبالغ فيه بالتمسك حتى بالجوانب الأكثر سلبية منها.. فالتطور في كثيراً من مجالات البني التحتية، والمجالات الاستهلاكية، وبعض المجالات العمرانية يتطلب بالقدر ذاته التطور في المجالات الاجتماعية، والمجالات الفكرية، ومجال التعامل بشكل أخلاقي ومسؤول، وكذلك في بعض الجوانب التشريعية.

ومن الأمور التي استدعت هذا المقال، محاولة فهم جدلية الرخاء والتطور، جدلية توفر المادة وغياب النتائج المأمولة من كثير من المشروعات لدينا، بل وتعثر الكثير منها رغم توفر الدعم لها، وتفشي كثير من مظاهر الفساد وتعود الناس عليها بشكل يخاله الفرد أضحى مقبولاً، حيث وصل في بعض جوانبه إلى قطاعات مهمتها تحقيق العدالة والنزاهة. وتطور ذلك إلى ما يشبه أزمة ثقة بين الجهات الرسمية وبعض المسؤولين والقطاعات، فهي إن حاولت تشديد الرقابة عليهم تحول ذلك إلى بيروقراطية معيقة، وإن منحتهم صلاحيات كاملة خشيت من طغيان المصالح الفردية والفئوية على المصلحة الوطنية، فلا زلنا ندور في هذه الحلقة المفرغة، ولعل الجامعات أفضل مثال بهذا الخصوص، فالدولة منحت الجامعات كوادر وأنظمة خاصة بها على افتراض أن العاملين فيها يعتبرون من أعلى فئات المجتمع تعليمًا واستقامةً، ثم لا تلبث أن تشاهد تلاعب مخجل بلوائح الجامعات المرنة وبالصلاحيات الموكلة لبعض مسؤوليها، فتبدأ من جديد حلقة تعقيد ما هو بسيط، وتكبيل ما هو مرن. وحصل هذا وللأسف في جميع الدورات التطويرية للجامعات. الأمر كذلك ينطبق على قطاعات أخرى مثل الصحة، والمواصلات، وحتى القضاء.

وبدون حل لهذه الإشكالية سنظل ندور في حلقة مفرغة تحاول الإجابة على سؤال أبدي يتردد على ألسنة الجميع، لماذا نصرف ولا نتقدم؟.. وحقيقة فالفرصة أمامنا تتضاءل يوماً بعد الآخر، وأتمنى أن يكون ذلك من قبيل التشاؤم غير المبرر فقط، ولكن الواقع والأرقام تقول غير ذلك. فلابد من مراجعة آليات اختيار المسؤولين التي جعلت حالتنا هذه مزمنة، وكذلك آلية احتفاظ المسؤولين بمناصبهم. يجب ألا يسمح لبعض المسؤولين التعلم بالمنصب بدلاً من تطويره وبدلاً عن توفر الكفاءة والقدرة على اتخاذ قرارات إيجابية بمنتهى المسؤولية. وللأسف فقد تجذرت هذه الظاهرة وتحولت لما يشبه الأخطاء البنيوية غير القابلة للعلاج حتى أصبح البعض يؤمن بكونها خلل عضوي في طريقة تفكيرنا لا أمر عرضي يمكن معالجته.

الأمر الآخر هو العلاج بالمتابعة والتصحيح لا المتابعة والعقاب فقط، وهذا لا يمكن الوصول له إلا بالنظر لقضايا القصور، والتقاعس، وانعدام الكفاءة، وحتى الفساد على أنها قضايا اجتماعية تستوجب التوعية، حيث يجب أن نتوقف عن التمسك بخصوصية عفى عليها الزمن فينتهي الأمر وكأنه فص ملح وذاب، فمن خصوصيتنا الحرص على الستر على الأفراد وإن خالفوا، ونتوقف فقط عند استتابتهم، ونفضل أن نحتسب أمورنا عند الله، رغم أن ديننا الإسلامي الحنيف فرض عقوبات دنيوية تعزيرية شديدة على من يعيثون في الأرض فساداً على هذا النحو قبل العقوبة الأخروية.

ومن الأمور التي يصر عليها المشرعون عادة عندما يكون هناك خلل جسيم ما، أن تتولى التحقيق في ذلك لجان.. وهذا أمر متبع لدينا أيضاً فكل يوم نسمع عن لجنة جديدة، من أبرزها لجان تحقيق في غرقى سيول، أو حوادث مواصلات، أو إهمال صحي إلخ. إلا أن هذه اللجان لا تفصح عما بحثت عنه، وأحياناً، ربما منعًا للإحراج، يتم التكتم على النتائج من أجل عدم إرباك الرأي العام، وهذا امر متفهم. إلا أن ذلك بالمقابل يفقد نتائج هذه اللجان قيمتها التوعوية الاجتماعية، فلا يطلع عليها إلا مسؤولين محدودين هم في الأساس واعون ومستقيمون ولا حاجة لهم بالتعلم من نتائج هذه اللجان. وهذا بالطبع يصب في صالح يحتمل أنه مسؤول عن المخالفات لأن في ذلك تستر عليه. فما يحتاجه المجتمع هو أن يطلع على جوانب هذا القضايا كاملة ليتعلم منها، وليتعلم كيف يستهجنها، ويستهجن آثارها البعيدة غير المنظورة على المجتمع.

لمثل هذه الأمور يصر المسؤولون في الدول المتقدمة على كون اللجان مستقلة بشكل كامل عن أطراف القضية، بل أنهم قد يشركون أيضاً أطرافاً من المتضررين منها. فالإصرار على استقلالية لجان التحقيق لم يأت من فراغ، ولكنه أمر مهم جداً لحيادية التحقيق، وضمان عدم لملمته أو طمطمته، أو عزوه لأسباب غير أسبابه الحقيقية. والحلقة الأخيرة في الموضوع هو الإعلام الذي يدلي بدلوه في هذه القضايا من حيث الآراء والحوارات حولها بشكل يسهم في توعية المجتمع، وفي ذلك عون كبير للمشرعين أيضا الذي يستطيعون الاطلاع على الثغرات أو الفجوات التي يتم اختراقها في الأنظمة فتتم معالجتها.

تشكل اللجان عادة عندما يعرف المواطنون أن في الأمر خطب جلل، وعندما يعفى أو يعاقب مسؤول ما، فلابد أن يكون خلف ذلك تجاوزات خطيرة، وما لم توضح الأسباب والنتائج فإنها تترك فراغاً معلوماتياً لدى المواطنين المتلهفين لمعرفة الحقائق، هذا الفراغ تملؤه وللأسف الإشاعات، وتطغى عليه التخرصات، والجميع، وعلى وجه الخصوص من فقد حبيباً أو خسر مدخرات، أو حرم فرصة، واسودت الدنيا في وجوهه لن يرضى بغير معرفة الحقيقية، أياً كانت هذه الحقيقة. وهم لن يرضوا عن الحقيقة لو قيلت لهم من قبل أطراف لا يجزمون بحياديتهم واستقلاليتها. وإذا ما توفرت العدالة، والحيادية، والاستقلالية، فلن يكون هناك عذر لعدم ذكر أسماء من هم المسؤولين عن التقصير، أياً كانوا ومهما كانت مراكزهم. فمن أخل بمسؤوليته خان ثقة أولياء الأمر، وثقة المجتمع ولم يقدرها حق تقديرها. والمسؤولية هذه تشمل التورط المباشر، أو غير المباشر من قبيل التسهيل أو التستر، أو حتى التقصير، والإهمال في منعها والحد منها. وذكر الأسماء في مثل هذه الحالات لا يدخل في باب التشهير، كما يشاع، وإنما هو ركن من أركان الشفافية، التي نطالب بها جميعاً. ومن عرف أن عقاب فساده اللوم والتوبيخ أو الإعفاء فقط مع الاحتفاظ بمكاسبه من فساده، وأنه في مأمن من الخسارة المعنوية الاجتماعية فقد يبيت النية لإساءة الأدب، فالجانب الاجتماعي الخصوصي لدينا، كما أسلفنا، أهم من الجانب الحضاري.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif
 

المسؤولية والفساد
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة