ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 18/10/2012 Issue 14630 14630 الخميس 02 ذو الحجة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

المثلّث الطوباويّ
بضاعة الثقافة الفقيرة
ياسر حجازي

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(أ)

يظلّ الفقيه الثقافي يسوّق لمثلّثه الأخلاقيّ (الحرية، المساواة، العدالة) على الظنّ أنّها بضاعة ثمينة وقيّمة -ولعلّه على صواب من ناحية العلاقة بين الندرة والقيمة- لكنّ المثلّث يفقد قوامه في اختبارات الممكن القريب والمحتمل الواقعي-حيث إنّ الممكن القريب فوق الواقع لكنّه ممكن الحدوث بينما المحتمل جزء من محتملات الواقع- وتبقى مفاهيم المثلث الطوباوي محلّ اختلافٍ وخلافٍ لأنّ قيمها المفترضة ليست طبيعة فيها إنّما لاحقة للتشريع وللتأويل؛ وإن كان يجوز للسياسيّ منح القيم المجرّدة بنوداً تشريعيّة محدّدة لإخضاعها للممكن والمحتمل بدلاً من استحالتها المطلقة، فلأنّ وعوده منحولة من محتملات الواقع وتصوّرات الممكن القريب..

.. وهذا أصل الجدل السياسي بين الشعب وممثّليه حين تضيّق السلطةُ الممكنَ ويحاول الشعبُ توسعته عبر ممثّليه من تيارات دينيّة أو ثقافيّة، إذاك تجد الفقيه الثقافي يقف على مقربة من المشهد السياسي متوجّساً، وفي غربةِ وعيٍّ بالفروقات بين: (الممكن والمحتمل والمفترض والمستحيل) فيكون انتقاده للممكن السياسي طوباويّاً في تسويقه لمستحيلات ثقافيّة مجرّدة؛ وهذا العجز الذي يحيدُ بالناس عن بضاعة الثقافي.

***

كلّ شيءٍ مستحيل التحقّق في الواقع لا قيمة فعليّة له، لأنّ أساس القيمة يستند إلى النفعيّة الفعليّة، فأيّ انتفاعٍ ممكن لشيء غير موجودٍ؟! إلاّ أن يكون طرفاً مع شيء موجود ذي قيمة وانتفاع فيتمّ افتراضه خدمةً للشيء الممكن التحقّق؛ ولكن يبقى الافتراض لا يحمل قيمة مستقلّة لذاته،؛ ومفاهيم: «الحريّة، المساواة، العدالة» لا تحمل خصائص حياديّة في داخلها تميّزها بالقطعيّة والإمكانيّة، إنّما يكون الانتفاع بها على (افتراض تحقّقها النسبي عبر العرف والتشريع)، أمّا التأويلات الثقافيّة لها فإنّها لا تحدّ من إطلاقها ولا توقعن من تجريدها بل تزيد في غموضها حدّ التناقض.

(ب)

بين الأحاديّة والتعدّديّة السياسيّة والثقافيّة يظهر استحالة التقاء الحريّة والمساواة في أيّ من الاتجاهين السياسيين؛ وليس من مفاجأة فيما نسوقه: (1) إذ تقدّم الأنظمة السياسيّة الشموليّة ثقافتها على أنّها معصومة ومقدّسة -فوق النقد ودون الخروج- وبالكاد تأذن للتعايش الثقافي والديني في حدود الظلّ إذا لم تمنعه أو تحاربه، ولا نريد لهذا التصدير أن يقتصر على التجارب السياسيّة الدينيّة، إنّما يتضمّن أيّ تيّار سياسيّ ذي عقيدة متطرّفة لا تأذن لغيرها بالتعايش معها: (الفاشيّة، النازيّة، الشيوعيّة السوفيتيّة، الرأسماليّة المتطرّفة)، وهذه الأنظمة تقدّم إمكان تحقيق المساواة على الحريّة، إذ يعتمد مفهومها للحريّة على معنى القوّة وليس الافتراض، فإمّا أن تكون فاعلة بالقوّة أو لا تكون، فلا قيمة لديها لمعنى الإدعاء الليبراليّ أنّ وجود الحريّة يحقّق أيّ شيء، لأنّ وجود الحريّة معقودٌ بقدرة التنفيذ وقوّته. (2) أمّا الأنظمة السياسيّة المتعدّدة فإنّها تعلي من مفهوم الحريّة على المساواة والعدالة، بالافتراض أنّ الحريّة فاتحة المساواة ومحقّقة لها بمجرّد الإباحة ولا شأن لها بإمكان التحقّق الفعلي الواقعي من عدمه.

والمعضلة: أنّ مفهومي الحريّة والمساواة يتعارضان فكراً وممارسة، وهما من التنافر بحيث إنّهما لا يعملان معاً؛ فضلاً عن طوباويّة المفهومين كلّ على حدا ومدى نسبيّة تداولهما، وحتّى المفهوم السياسي الاصطلاحي ما زال محلّ خلاف؛ والمسألة ليست نتيجة لنوع النظام السياسيّ، فالعلّة كائنة في الحريّة والمساواة ثقافيّاً وسياسيّاً على الرغم من التفاوت النسبي بين التأويل الثقافي والتشريع السياسي: (أ) إذ يسعى (التشريع السياسيّ للحريّة) إلى وقعنة الحريّة ونقلها من المطلق إلى المحدّد؛ وهو إجراء يرفع حالة الغموض التي فرضتها الطوباويّة الثقافيّة إلى حالة وضوح في بنود قانونيّة قابلة للتطبيق في حدود ما يتّفق عليه الخاضعون له، فكلّما ابتعدت الدساتير عن صيغ العموميّات والتأويلات فإنّها تقترب أكثر من مفهوم التشريع الأقرب لمفهوم الحقوق. (ب) أمّا في (التأويل الثقافي للحريّة) فإنّ الثقافة تحمّلها معاني يتعذّر إدراكها حين يتوقّف عليها مصير كلّ شيء؛ بحيث إن سألتهم عن سبب غياب الفعل والاكتفاء بردّة الفعل –وهي سمة العمل الثقافي- لجاءك الردّ أنّ الحريّة معطّلة، وكلّ شيء مؤجّل ومرتبط بها؛ هكذا يزداد إطلاق مفهوم الحريّة ليتضمّن معنى الحياة ويكون في عدم وجودها معنى الموت؛ وقد يصل التأويل حدّاً في الفكر الديني والثقافي إلى تجاوز المعنى حتّى نقيضه ممّا يجعل الشكّ ضرورة حين يدلّ تأويل الحريّة إلى سلبها عن أتباعها في الواقع. فكيف نفهم قول المؤوّلون: (الإسلام أعطى المرأة الحريّة) حينما تعارضها اجتهادات الفقهاء المتعلّقة بفقه المرأة إذ يعطّل ويُرهن إرادتها في الزواج والطلاق بإذن المعيل والقاضي، وينقص من شها دتها وقيمة طقوسها، ولا يسمح لها بالإمامة، ويضبط لها اشتراطات دون الذكر: في الرادء والخروج والسفر والحلّ والترحال والمواريث والقائمة ليست يسيرة، فما الذي يبقى حجّة لأصحاب هذه المقولة حتّى تستقيم مع الواقع الفقهي، ونحن هنا لا ننقاش هذه الشؤون الفقهيّة - وإن كانت مناقشتها وتجاوزها أو تعديلها ضرورة في الأحوال المدنيّة شئنا أم أبينا وهي مسألة قادمة عاجلاً أم آجلاً - إنّما نحن هاهنا نناقش المقولة لإظهار جانباً من التأويل الدينيّ والثقافي للحريّة، ومدى حرص أصحابه المؤوّلين على إضفاء معنى الحريّة الغامض على التشريعات الفقهيّة الواضحة، بحيث إنّك لا تستطيع أن تحيد عن التساؤل حول التناقض بين غموض التأويل ووضوح التشريع

وكما أنّ الأحاديّة السياسيّة تتنافر مع الحريّة وتفسد المساواة والعدالة فإنّ وجود الحريّة في التعدديّة السياسيّة يلغي المساواة؛ حيث إنّ تشريع الحريّة في إباحة التعدّديّات والثقافات يعزّز من الاختلاف والتفاوت ويخدش مفهومي المساواة والعدالة، فإنّ الأنظمة السياسيّة التي تفرض الحريّة تعارض مبدأ المساواة، والتي تفرض المساواة تعارض الحريّة. ومن هنا فإنّ إشكال الحريّة يتمثّل في وضوح التشريع بتحديد دلالة المفهوم سياسيّاً، وفي غموض التأويل الثقافي للحريّة بوصفها حلاً سحريّاً يُفضي إلى جنّة الإنسان على الأرض، لأنّ ما يمثّلها في الواقع يطعن فيها فكريّاً، ويدرجها تحت خانة (مستحيلات) الفكر الثقافي، ولا يمكن أن تكون في نطاق الممكن كما يقدّم لها دائماً ثقافيّاً.

***

هكذا يكون المأزق الداخليّ لأيّ نظام سياسيّ متمثّلاً في قيمة العدالة ودلالتها، فإنّ كانتا الحريّة والمساواة محلّ جدل بين ثقافات متعدّدة، فإنّ أيّا منها لا تدّعي معاداة العدالة؛ فهي الأساس الافتراضيّ الذي بُنيَت فوقها مفاهيم الجماعة والتشريعات، وهي العلّة في تنازل الأفراد عن حريّاتهم في سبيل حريّة الكيان نفسه، لذلك فإنّ الصراع لا يكون بوجود العدالة أو عدم وجودها، بل يكون حول تأويلات تنفيذها، والتي عجزت دائماً أن تجمع (الحريّة والمساواة) في سلّة فكريّة أو سياسيّة واحدة؛ فإلى أيّ مدى نحن في خديعة إذ نظنّ بإمكان حدوث الحريّة والمساواة في آن معاً واكتمال العدالة بمعزل عن النسبيّة والمحاصصة الحقوقيّة بين الأفراد، وعلى أساس الرضا بما هو قائم من مفاهيم غير متساويّة إلاّ بالإكراه وبالقوّة، تبعاً لتحوّلات التقسيمات الطبقيّة من حضارة إلى أخرى؟!

(ج)

يتحمّل فقهاء الثقافة بتأويلاتهم وزر تزوير الممكن الإنساني وتوريطه في منظومة من الأفكار يصعب مماثلتها في الواقع؛ ولعلّ شيئاً من هذا في أسباب فشل الفقيه الثقافي في وظيفته الوهميّة بحملانه بضاعة -وإن كانت تبدو محقّة ونادرة- إلاّ أنّها مستحيلة الوجود ولا شاري لها في سوق الممكنات والواقعيّات.

فإلى أيّ مدى نحن ندمّر هذه المفاهيم بينما نحن نفكّك إمكان تحقّقها وفق التأويل الثقافيّ الذي فشل في تحويل المثلث الأخلاقيّ: (الحريّة، المساواة، والعدالة) من عالم المستحيلات المجرّدة إلى واقعية العالم السياسيّ التشريعيّ، فكلّما ابتعد الثقافي عن معنى التشريع وغاص في التأويل فإنّه يضيّع ملامح المثلّث كلّه ويحوّله بالانكماش إلى بقعة قابضة ومستبدّة، وهي البقعة التي تُبرّر الاستبداد وتزوّر تشريعه.

Yaser.hejazi@gmail.com
 

رجوع

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة