ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Wednesday 24/10/2012 Issue 14636 14636 الاربعاء 08 ذو الحجة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) سورة الحج. في هذه الآية الكريمة ثلاث عبارات للصحة شأن مباشر بكل منها.

الأولى: إيذان الناس بالحج؛ فهو الركن الخامس من أركان الإسلام وفرض على كل مسلم بالغ مستطيع مرة في العمر. والمسلم قد لا يستطيع في حالات معينة، منها مثلاً أن تعوزه النفقة، ومنها الضعف لمرض أو شيخوخة متقدمة. لكن التيسير الذي يرفع الحرج عن المرضى لم يكن حائلاً لعدد كبير من المسلمين دون القيام بفريضة الحج. فهم يحجون بما هم فيه من ضعف الشيخوخة أو الإصابة بأمراض مزمنة من أمثلتها أمراض الجهاز التنفسي وأمراض الدورة الدموية والقلب وأمراض الكلى وغيرها. وهؤلاء يدفعهم إيمانهم القوي إلى تحمل مشقة الحج بتنقلاته وزحامه؛ ولكن بعضهم لا يصمد طويلاً بسبب الإعياء الشديد أو استفحال المرض. في عام 1431هـ توفي من الحجاج (666) حاجاً، وتصدر أسباب الوفيات أمراض القلب وفشل الجهاز القلبي التنفسي بنسبة 87%، ذلك أن أمراض الجهاز الدوري والشيخوخة المتقدمة تمثل عوامل ذات درجة عالية من الخطورة بالنسبة للحاج، كما أنها تجعلهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض طارئة ناشئة عن ظروف بيئية مثل حرارة الشمس (ضربة الشمس) أو البرد (الالتهاب الرئوي) أو تلوث طعام (إسهال) أو من عدوى بمرض معدي. ولكن تلك الأمراض الطارئة (أو الموسمية) قد تصيب حجاجاً آخرين - حتى لو كانوا في الظاهر أصحاء وقادرين جسمانياً - إذا كان تعرضهم لمصدر المرض شديداً أو كانوا قادمين من بيئات مختلفة في طبيعتها عن الظروف البيئية السائدة وقت حجهم. وغني عن البيان أن الإصابات بالأمراض الموسمية تزيد أو تنقص حسب الظروف المناخية. وعلى سبيل المثال بلغ مجموع حالات ضربات الشمس خلال عشر سنوات (1422هـ - 1431هـ إحدى عشرة حالة فقط، وهي كانت مواسم حج باردة أو معتدلة (بين نوفمبر وفبراير)؛ في حين بلغ مجموع حالات ضربات الشمس في مواسم الحج الحارة خلال السنوات العشر (1408هـ - 1417هـ) التي وقعت بين أبريل ويوليه (5586) حالة. على أن الحاجة للرعاية الطبية تشمل مختلف أنواع ودرجات الأمراض والأعراض. وعلى سبيل المثال سجلت إحصاءات وزارة الصحة لعام 1431هـ زهاء مليون زيارة للمراكز الصحية وعيادات المستشفيات - بمعدل 36 زيارة لكل مائة حاج، وما يقارب (9700) حالة تنويم بمعدل 35 حالة لكل عشرة آلاف حاج.

الثانية: يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر:

القدمان والدواب كانتا وسيلتي النقل المتاحتين لمئات السنين لمن أراد الحج، ثم أضيفت لهما السفن حتى حل عصر السيارات والطائرات. ولكل وسيلة نقل مشكلاتها الصحية. وإذا كان الإعياء والإنهاك الجسدي وأخطار الطرق الطويلة والموحشة وما ينتج عنها من أمراض وحوادث أو وفيات هي السمة الغالبة على حجاج الحقب السالفة، فإن السفن لم تكن أقل خطورة وهي تمخر عباب البحار ناقلة أعداداً غفيرة من الحجاج من مختلف ديار المسلمين. والحجاج في السفن يتكدسون في مكان محدود السعة خلال سفر طويل. لذلك كانت تنتشر بينهم في الماضي الأمراض المعدية بسهولة، مثل الكوليرا أو التيفوئيد أو الجدري، ويمرض بعضهم أو يموت على ظهر السفينة التي قد تكون أيضاً موبوءة بأنواع من القوارض تنقل ميكروب الطاعون. ولم يكن حجاج السفن أقلية بين حجاج الخارج في الأزمان السالفة، بل كانوا هم الأكثرية. وعلى سبيل المثال بلغ عددهم في عام 1367هـ ثمانين ألفاً يمثلون ستة أضعاف القادمين من الخارج (جريدة أم القرى). وفي عام 1390هـ بلغ عددهم (84000) حاج بنسبة 20% من حجاج الخارج (كتاب الصحة في قرن). أما في عام 1431هـ فقد بلغ عددهم (13000) حاج فقط - أي ما يقارب سبعة في الألف من حجاج الخارج (الكتاب الإحصائي لوزارة الصحة). وهكذا فإن دخول عصر السيارات والطائرات انحدر بأعداد الحجاج القادمين عن طريق البحر إلى قريب من الصفر. لكن وسائل النقل السريعة جلبت معها زيادة كبيرة متصاعدة في أعداد الحجاج ومكنت ضعاف الجسم ومعتلّي الصحة من القدوم لأداء مناسك الحج وجعلت الانتقال السريع للأمراض الوبائية - حتى قبل ظهور أعراضها- ممكناً. وذلك يزيد من ثقل الأعباء الواقعة على وزارة الصحة من حيث توفير الرعاية الصحية العلاجية والوقائية الجيدة للحجاج الذين يقدمون بأعداد كبيرة متتابعة.

الثالثة: يأتين من كل فج عميق:

ذلك يعني أن الحجاج يقدمون من أقصى بلاد العالم إلى أدناها ومن أقلها ومن أكثرها سكاناً، ومن أفقرها ومن أغناها ومن بلاد يوجد فيها أوبئة مثل الكوليرا أو الحمى الشوكية أو الحمى الصفراء أوغيرها وبلاد خالية من ذلك، ومن بلاد حارة وبلاد باردة لايتحمل حجاجها حرارة الشمس. لذلك منيت مناطق الحج في الأزمان السالفة بموجات من ضربات الشمس وتفشيات متتالية وقاتلة من الأوبئة مثل الطاعون (كان آخرها عام 1336هـ) والكوليرا (كان آخرها عام1394هـ) والجدري (كان آخرها عام 1349هـ) والحمى الشوكية (كان آخرها عام 1407هـ). وفي جميع هذه الأوبئة لا تكمن الخطورة فقط في سريان العدوى بين الحجاج أنفسهم، بل في انتقال عدوى المرض بواسطة الحجاج العائدين إلى بيئات جديدة وعدوى سكانها (د. رمزى الزهراني: الأبعاد الجغرافية لظاهرتي الصحة والمرض خلال مواسم الحج - 1416هـ). وإن كانت الأوبئة هي المشكلة الصحية الكبرى في الماضى، فإن احتشاد الحجاج بأعداد غفيرة ولغات مختلفة ودرجات متفاوتة من التعليم والوعي الصحي والحماس الديني ومستويات متنوعة من السكنى في المشاعر (ومنها الافتراش) يمثل مصدراً محتملاً لحوادث طارئة مثل إصابات التدافع الجسدي والدهس وحوادث التسمم الغذائي أو العدوى أو الإنهاك الممرض (والكلام هنا يقتصر على الجوانب الصحية). ومن كل ما سبق ذكره لا أبالغ إن قلت إن وزارة الصحة وغيرها من جهات ذات علاقة تخوض معارك صحية على عدة جبهات بأسلحة متنوعة، وخرجت حتى الآن فائزة ومنتشية بالنصر في جل -إن لم يكن فى كل- مواسم الحج.

القوة الأهم التي تعدها الوزارة دائماً لكل هذه المعارك هي القوة البشرية. في هذه السنة جندت الوزارة ما يزيد عن عشرين ألفاً من القوى العاملة لديها من أطباء (حوالي ألفي طبيب) وصيادلة وفنيين وممرضين وممرضات وإداريين وفوق ذلك فقد تعاقدت - كما تفعل منذ 15 عاماً- مع أطباء وأفراد تمريض وفنيين من ذوي التخصص الدقيق في العناية المركزة والتخدير وأمراض القلب من خارج وزارة الصحة بلغ عددهم هذه السنة (320) استشارياً زائراً، وذلك لأن مستشفيات الوزارة في المناطق الأخرى لا تستغني عن المتخصصين العاملين لديها لندرتهم. وتستعد الوزارة لعلاج الحجاج المرضى بـ(5250) سريراً في 25 مستشفى وبـ(141) مركزاً صحياً بما يلزمها من المستلزمات والأدوية وكميات الدم وسيارات الطوارئ التي تزود بها كل عام. ويقوم الهلال الأحمر السعودي بالدور الرئيسي في نقل الحالات الإسعافية. وقد كافحت الوزارة بنجاح مشكلة علاج ضربات الشمس في مواسم الحر بأن وفرت منذ أكثر من ثلاثين سنة وحدات سريرية للتبريد عالية التقنية.

ومع كل ذلك فإن أولوية الوزارة تنصرف إلى جبهة الوقاية من تفشي الأوبئة والأمراض المعدية كافة، حيث يمثل ذلك خط الدفاع الأول في حماية صحة الحجاج. وكان مكتب الصحة الدولي منذ عام 1892 ثم منظمة الصحة العالمية منذ عام 1948 قد أحكمت وصايتها على صحة الحجاج ثم تركت المسؤولية الكاملة لحكومة المملكة بعد أن شاهدت فعالية تطبيق الإجراءات الوقائية الصارمة من قبل المملكة وانحسار التفشيات الوبائية وتحسن صحة البيئة وسلامة الحجاج، وخصوصاً بعد إنشاء المحجر الصحي الحديث فى جدة عام 1375هـ، وتعميم استخدام اللقاحات والفحوصات الوقائية.

على أن تلك المعارك لم تكن تمر دون دروس يستفاد منها نتيجة لما خرج به العاملون في الحج من خبرات جديدة اكتسبوها من التعامل مع ظروف الحج الصحية. وعلى سبيل المثال فقد حفزت صعوبة نقل المرضى بسيارات الإسعاف العادية بين كتل الحجيج المتراصة إلى توفير سيارات إسعاف صغيرة الحجم. وكذلك هيئة الهلال الأحمر تجاوزت صعوبة نقل الحالات الخطرة بإنشاء أسطول من طائرات الهيلوكوبتر. وعلى جسور الجمرات أنشئت أبراج لإجراء الإسعاف السريع لحالات الدهس ثم النزول بها في المصعد ونقلها للمستشفى. وفيما عدا ذلك فقد كانت أفضل طريقة اتبعتها وزارة الصحة لتيسير الوصول إلى والحصول على الرعاية الصحية هي حسن توزيع نقاط الشبكة الصحية الممتدة عبر المشاعر المقدسة ومكة المكرمة من مراكز صحية ومستشفيات. وفي مجال مكافحة الأوبئة فقد ظهر من متابعة تفشيات الحمى الشوكية تنوع فصيلة الميكروب المسبب للمرض لذا عممت الوزارة استخدام اللقاح المضاد للعديد من أنواعها وكذلك العلاج الوقائي ضد المرض بالنسبة للحجاج، وفي الداخل استمرت الوزارة في تنظيم حملات التطعيم كل ثلاث سنوات.

لا ريب أن تراكم الخبرات في التعامل مع ظروف الحج الصحية وحشود الحجاج كان ذا تأثير إيجابي على إدارة وتوفير الخدمات الوقائية وإدارة حالات الكوارث في المملكة نفسها؛ ولكن هذه الخبرات كانت أيضاً موضع الاهتمام خارج المملكة. وعلى سبيل المثال فإن الجهة المشرفة على إدارة وتنظيم الأولمبياد في لندن هذا العام طلبت من وزارة الصحة السعودية إرسال خبراء في طب الحشود للمشاركة في مناقشة الخطة الصحية لتلك المناسبة الحاشدة، وقد أوفدت الوزارة بالفعل اثنين من خبرائها - (مجلة دير شبيجل الألمانيه، وإفادة شفوية من الدكتور سلمان رواف من لندن).

 

الحج من زاوية صحية: معركة ومدرسة
عثمان عبدالعزيز الربيعة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة