ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Saturday 27/10/2012 Issue 14639 14639 السبت 11 ذو الحجة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الركن الخامس

      

هو من العلماء الأفذاذ والأدباء النابهين ونشأ على حب اللغة العربية والأدب والثقافة الإسلامية الواسعة، حيث تولى القضاء والتدريس في كلية الشريعة في دمشق والرياض ومكة المكرمة، وله كتب كثيرة ومقالات متنوعة وأحاديث في الإذاعة والتلفاز، وقد استقر في نهاية عمره في مكة المكرمة وتوفي سنة 1420هـ رحمه الله، ولقد استهل حديثه عن الحج بأسلوبه الأدبي السهل قائلاً:

يا عازمين على الحج، يا من يشد الرحال، ويعد الأحمال ليصل إلى فناء الحرم، ويقوم عند الملتزم، ويشرب من ماء زمزم: قفوا قليلاً فاستمعوا مني كلمة، ثم أمضوا على بركة الله.. إنكم ما حملتم مشاق السفر، ولا رضيتم بفراق الأهل، ولا أنفقتم هذا المال إلا ابتغاء ثواب الله، وادخاراً من الحسنات ليوم الحساب، فهل علمتم قبل أن تمشوا أن الحج حجان: حج مبرور وردت الأحاديث الصحاح بأنه ليس له ثواب إلا الجنة، وأن صاحبه يرجع منه كيوم ولدته أمه، وحج ما فيه إلا إنفاق المال وإرهاقُ الجسد، وفراق العيال، فماذا تعملون ليرفع الله حجكم إليه، ولا يرده عليكم، فيضرب به وجوهكم.

أنا أقول لكم: هل ترتفع الطيارة إذا أثقلتها بالحديد، وحمّلتها أضعاف ما تطيق، ثم ربطتها بحبال الفولاذ إلى صخور الجبل؟

إنها لا ترتفع إلا إذا خفّفت أحمالها، وقطعت عنها حبالها، وكذلك الأعمال فإذا أردتم أن يصعد حجكم فخففوا عن عواتقكم أثقال الذنوب، واقطعوا الحبال التي توثقكم بأرض الشهوات، حُلُّوها.

فاقعد يا أخي الحاج وحدك، وأحضر فكرك قبل أن تخطو أول خطوة في طريق الحج، وحاسب نفسك، وانظر في حياتك في بيتك، وصلاتك بأهلك، وروابطك بأصحابك، وسلوكك في وظيفتك أو تجارتك، وفي مصادر ثروتك، وطرق إنفاقك، فكّر فيها كلها، وقسها بمقياس الشرع، فما وجدته منها محرّماً فتب منه، واستسمح أصحابك قبل أن تمضي إلى الحج.

ثم تدبر أمورك وأمور عيالك في غيبتك لتريح بالك منها، فلا تفكر فيها وأنت في الحج، فتعطي أهلك من النفقة ما يكفيهم في غيابك، وتوكل بهم من يقوم بأمرهم إلى حين عودتك، وتعهد بعملك إلى من تثق به، وتعتمد بعد الله عليه.

ويمضي مسترسلاً في الحديث وذكر الحج وشعائره وآدابه قائلاً:

واعلم يا أخي الحاج أن الحج غسل للقلب من أوضار الذنوب، فهل يغسل أحد جسدَه من الأوساخ بالماء الوسخ؟ فكيف إذن تبغي أن تتخلص بالحج من تبعات الحرام إذا كان حجك بمال حرام؟ إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً فليكن أول ما تصنعه ان تعد لنفقات حجك مالاً حلالاً.

ويوصي بأهمية اختيار الرفيق قبل الطريق للحج قائلاً:

واعلموا أن على ألسنة الناس أقوالاً سائرة يلقونها، لا يفكرون بمعناها، وكأنها من كثرة الترداد قد صارت ألفاظاً بلا معانٍ، وهي ثمرة تجارب بشرية طويلة منها قوله: (الرفيق قبل الطريق).

وأولى سفرة باختيار الرفيق الصلاح سفرة الحج، ورب رفيق حججتَ معه فاستفدت من علمه، واسترحت إلى حلمه، واطمأننت إلى أمانته، ورب رفيق نغّص عليك حجتك، وأضاع عليك ثوابك.

رفيق يجعلك الحج مردوداً ومرفوضاً، ورفيق يجعله مبروراً ومقبولاً، فاختر لك رفيقاً عالماً بالمناسك، فإن لم تجد فخذ كتاباً من كتب المناسك لعالم موثوق به، ولا تركن إلى هذه الكتب التي يؤلفها من ليسوا بعلماء، ولو رأيت الإعلان عنها، والدعوة إليها، فإن فيها خطأ كثيراً.

ولا تأخذ كلام المطوفين قضية مسلمة فإن أكثرهم من غير العلماء.

ولا تقبل من كل من يتكلم في العلم فربما تكلم في العلم في زماننا وتصدر للإفتاء من ليس بعالم ولا بطالب علم.

فإذا أعددتم المال الحلال، وانتقيتم الرفيق الصالح، وتبتم من ذنوبكم، وأديتم الحقوق التي عليكم، فأخلوا أذهانكم من هموم العيش وخلّفوها وراءكم، وفرّغوا قلوبكم ما استطعتم لربكم، فإنكم تفكرون في الدنيا العمر كله، ففكروا في الآخرة هذه الأيام فقط، وتعملون طول حياتكم لما لا ينفعكم بعد مماتكم، فاعملوا هذه الأيام فقط لما يبقى لكم، ويفيدكم يوم العرض على ربكم.

ثم يوجه الحديث والنصح والإرشاد والحفاظ على الوقت وحكمة الحج وشعائره واستشعار معنى الحج ومناسكه وآداب الزيارة وفتح الأبصار والبصائر على هذه الأماكن المقدسة قائلاً:

يا إخواني الحجاج:

إنكم تقومون للصلاة، تنظرون إلى مسير الشمس في النهار، وتبحثون عن نجم القطب في الليل، وتضعون (البوصلة) أمامكم وتستحضرون موقع البلد في أذهانكم لتعرفوا أين تقع الكعبة، فتجعلوها قبلتكم في صلاتكم، وبينكم وبينها الأبعاد والآماد، وبينكم وبينها الصحاري والبحار، والجبال والأنهار، لا يمنعكم بعدها ولا تصدكم العوائق دونها عن أن تتوجهوا إليها بأجسادكم وقلوبكم، وأن تتصوروها على الغيبة، وتحنوا إليها على البعد، فهل أنتم هؤلاء تمشون إليها كما يمشي المحب إلى لقاء المحبوب، ودونه الحُجُب والأستار، فكلما جزتم إليها بادية، أو ركبتم بحراً، رُفع لكم من دونها حجاب، وكلما دنوتم منها شبراً رُفع لكم ستر، حتى وصلتم إلى المواقيت.

ويواصل الحديث حول مواقيت الحرم وهذه الفريضة - التي أكرم الله بها هذه الأمة - قائلاً:

هذي مواقيت الحرم يا حجاج فقفوا، هذه أعتاب ديار المحبوب، هذه مشارف بيت المليك، إن من يدخل حضرة ملك من ملوك الدنيا، يلبس للمقابلة لباسها الرسمي، وهذه أبواب حضرة ملك الملوك، رب العالمين، فاخلعوا عن أجسادكم ثياب الدنيا، والبسوا للنسك لباسه الرسمي.

البسوا ثياب الإحرام التي لا يمتاز فيها غني عن فقير، ولا أمير من أجير، وانزعوا مشاغلها ومشاكلها عن قلوبكم، واغسلوا بالماء أجسادكم، واغسلوا بتجديد التوبة نفوسكم، وانووا إما الحج وحده، وإما العمرة والحج مقرونين، تدخلون بالعمرة فتطوفون وتسعون وتبقون محرمين إلى انتهاء أعمال الحج، وأما العمرة وحدها فإذا أكملتم مناسكها - أي طفتم وسعيتم - حلقتم ولبستم ثيابكم وحللتم، ثم أحرمتم بالحج يوم الحج، والأول هو الإفراد، والثاني: القران، والثالث: التمتع، وكل ما تنوون حسن، وكل من الثلاثة هو الأفضل في أحد المذاهب، وإن كان التمتع هو آخر ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العمل به أولى.

ويدعو للتواصي بالسكينة والصبر في الحج قائلاً:

ثم اصغوا تسمعوا صوت الشرع في قلوبكم يأمركم بالتوحيد وإخلاص العبد لله، واتباع سبل الخير، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، اسمعوا أوامر الله في آيات كتابه وأقوال نبيه، فإذا تمثّلت لأذهانكم، فأجيبوا بألسنتكم وبقلوبكم:

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

لبيك أمرتنا فأطعنا، ونهيتنا فاجتنبنا، فأعنا اللهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فإنا لا نستطيع أن نقوم بغير معونتك، لا شريك لك، فنطلب منه، ولا إله سواك فنفر إليه، لقد فررنا إليك، وجئنا قاصدين بيتك، فهل تردنا عن بابك خائبين، وأنت أكرم الأكرمين؟

ثم يفيض في الحديث عن المواقيت والالتزام بها قائلاً:

هذه يا حجاج مواقيت الحرم (آبار علي) على أبواب المدينة، و(الجحفة) عند رابغ، و(قرن) عن السيل الكبير، ووادي محرم قرب الطائف، و(يلملم) في الجنوب الشرقي من مكة.

هذه حدود منزل الوحي، لقد جزتموها الآن محرمين، فجدُّوا السير، واحدوا المطي أو استحثوا سائق السيارة.

لقد دنوتم الآن من الحرم، أتعرفون يا إخوان ما الحرم؟

هنا دار السلام إن عمت الأرض الحروب، هنا دار الأمن إن شمل الناس الخوف.

كل حي هاهنا آمن: الناس والحيوان والنبات، ليس هاهنا حرب ولا قتال، الحيوان هاهنا لا يُصاد، والأشجار لا تُقطع، لا عدوان على أحد، ولا تجاوز على شيء.

هذه حدود الحرم، ألا ترون أعلامها؟

لقد أقام هذه العلامات أبو الأنبياء إبراهيم، وبقيت حيث أقامها.

لقد دخلتم الآن الحرم، فجددوا التلبية واجهروا بها، وقولوا بقلوبكم مع ألسنتكم: لبيك اللهم، قد دعوتنا فأجبنا، سمعنا المؤذن يؤذن بالحج فجئنا رجالاً وعلى كل ضامر، أتينا من مكان بعيد، نزرع الأرض، نطوي البيد، نركب الريح، ونمتطي اللجج، امتثالاً لأمرك، ابتغاء رضاك.

لبُّوا يا حجاج، واجهروا بالتلبية، لبوا عند كل رابية وجبل، تلبّ معكم الروابي والجبال، لبّوا كلما صعدتم نُشُزاً، لبوا كلما هبطتم وادياً، لبوا فهذه جبال مكة بدت لكم.

لقد وصلتم، لم يبق إلا قليل، فجدُّوا المسير.

هذه مكة فادخلوها من أعلاها، من جهة ذي طوى - حي الزاهر - ثم اهبطوا من الحجون، من عند المقبرة، فمن هناك دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم امشوا من عند المسعى حتى تدخلوا من باب السلام (باب بني شيبة).

فهنيئاً لكم، نلتم المرام، هذا باب السلام، وهذه زمزم، وهذا المقام، وهذه الكعبة البيت الحرام.

فلبُّوا وهللوا، وادعوا فإن دعاء المسلم أولُ ما يرى الكعبة مستجاب، هذا هو المشهد الذي قطعتم من أجل رؤيته الآفاق، وحملتم المشاق، إني لن أنسى يوم وقفت هذا الموقف أول مرة، من إحدى وثلاثين سنة، لقد سلكنا الصحارى من دمشق، فكنا كلما دنونا يوماً زاد الشوق بنا شهراً تمنيت ان تُطوى لي الأرض، وأن يتصرم الزمن.

وأكثر ما يكون الشوق يوماً

إذا دنت الخيام من الخيام

حتى إذا وقفت على باب السلام صفّق من الفرحة اللب، وبكت من السرور العين، فما رأيت الكعبة إلا من خلال الدموع:

هذه دارهم وأنت محبُّ

ما بقاء الدموع في الآماق!

إني لا أتمنى إلا أمنية واحدة، هي أن أنسى هذا المشهد لأستمتع برؤيته من جديد، هذه مكافأة الحاج، إنها لذة من لذائذ الروح لا مثيل لها، فأشبهه بها لأدل عليها من لم يعرفها.

لذة لا يدرك مداها إلا من ذاقها، لذة لا توصف ولا تعرف:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبَّابة إلا من يعانيها

أسأل الله أن يمن بذلك على كل راغب فيه، مشتاق إليه.

وجملة القول فقد استعرضنا ما كتبه الشيخ علي الطنطاوي عن رحلة الحج بلغة سهلة ملائمة لموضوعها ووصف حي بليغ وهو بطبعه حين يتحدث أو يكتب يترك النفس على سجيتها فلم يتكلف في عبارة ولا فكرة ونراه يحسن مخاطبة المتلقي ويصور ما بداخله من مشاعر وأحاسيس إزاء بعض المواقف، وجاء حديثه مفعماً بالشوق والحنين إلى هذه البقاع المقدسة وعامراً بالتوجيهات السديدة والأمور العلمية والمعاني العظيمة للحج وآدابه واللقاء في هذه الرحاب الطاهرة ميدان عظيم، حيث إنه مهوى أفئدة المؤمنين تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام، حيث يكتظ الحرمان الشريفان من كل عام بألوف الحجاج في غبطة وبهجة روحية عميقة وأمن وأمان وسط أجواء مفعمة بالإيمان وخدمات متميزة فائقة بالحرمين الشريفين والأماكن المقدسة من توسيعات متتالية وإنشاءات للمرافق هائلة خدمة لضيوف الرحمن وخدمة الحرمين الشريفين وهما مصدر فخر وشرف واعتزاز لقادة هذه البلاد وشعبها لتمكين حجاج بيت الله من أداء مناسكهم في يسر وسهولة واطمئنان ليؤدوا فريضة الحج ويشهدوا منافع لهم من اجتماعية وأدبية ومادية وتربوية.

وهكذا رسم الشيخ الطنطاوي في رحلة الحج مناهج عمل من خلال دعوته الإيمانية لهؤلاء الحجاج ليتفيأوا ظلال دوحة الإسلام وتعاليمه السمحة ولأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وتبقى راية التوحيد خالدة خفّاقة، إلى جانب شمولية الوصف الطبيعي للمكان إلى جانب جملة خصائص تتمتع بها رحلته وهي موضوعات حميدة الأثر في النفس غنية بالمشاعر والصور وذات مضمون تربوي بارز.

وأخيراً: فإن من نعم الله علينا أن هدانا للإسلام وجعلنا خير أمة وخصنا بما حبانا به من رحمة وفضل في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإذا تمسكنا فلن نحيد عن الطريق المستقيم ولا يزال مناراً للأمة ومثاراً للهمة، وأن في الحج إلى بيت الله إعلاء لشأن الملة وسقيا لجمع الكلمة وسبيلاً لوحدة المسلمين وتحقيقاً لحكمة الحج أعاده الله على المسلمين بالخير والقوة والسعادة والعزة.. وفي هذه الأجواء المفعمة بالإيمان والعامرة بالعبق الروحي وبشتى أنواع الخدمات لحجاج بيت الله حتى ينعموا بالنفحات الروحية في أطيب جوار بقرب بيت الله الحرام.

عضو جمعية التاريخ بجامعات دول مجلس التعاون باحث في أدب الرحلات
 

مع الشيخ علي الطنطاوي في رحلته إلى الحج
عبد الله بن حمد الحقيل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة