ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Sunday 23/12/2012 Issue 14696 14696 الأحد 10 صفر 1434 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

بمشاعر الحب البريئة التي ربيت عليها (تلميذاً) بمدارسنا الابتدائية فالإعدادية فالثانوية.. تجاه أساتذتي من المربين والمعلمين المصريين الفضلاء، الذين كانوا يتعاقبون عليها حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي وما بعده بقليل، وبتلك التي نضجت في وجداني.. (طالباً) في ثاني جامعاتها (الإسكندرية)..

وقد رواها نهر ثقافة مصر الجميل والعريض.. بطوله وعمقه وتدفقه وحضارته ورؤاه الخلاقة الخلابة: أدباً وشعراً، مسرحاً ورواية، فكراً وفقهاً، طباً وفلسفة، عمارة وقانوناً، اقتصاداً وزراعة.. أورقت عشرة الحب الطويلة هذه مع مصر والمصريين: زمالات وصداقات وتآخ لا أقوى ولا أمتع ولا أمنع منها في دنيا الصحافة والأدب والسياسة والفكر، بت معها.. أبكي.. لما يبكي مصرَ، وأفرح لما يفرحها، وقد غدت لي (شقيقة)، أطل منها.. على (النيل) عصب الوطنية المصرية وعامودها الفقري -دون أن يعلم أصدقائي والبقية الباقية من أساتذتي (الإسكندرانيين) الغيورين في حبهم على فاتنتهم وفاتنتي (الإسكندرية)- لأتأمله وأعشقه وأحتويه.. متيماً به، هائماً فيه.. مردداً ما قاله (شوقي) عنه:

(يا نيل أنت بطيب ما نعت الهدى

وبمدحة التوراة أحرى وأخلق

أصل الحضارة في صعيدك ثابت

ونباتها حسنٌ عليك مخلق

ولَدَتْ فكنت المهد ثم ترعرعت

فأظلها منك الحفىُّ المشنق

ملأت ديارك حكمة مأثورها

في الصخر والبردي الجميل منمق)

.. فإذا عضني الجوع، شققت طريقي لمطعم (العمدة).. لأتناول وجبة (الكشري) المصرية الشهيرة، ولأستمع لمغنيه الطاعن، والفنان، والمجيد لأجمل ما في تراث الموسيقى العربية والغناء المصري.. أو كابدت في زحام شوارع طلعت حرب وعبدالخالق ثروت وقصر النيل وعدلي، وصولاً إلى مطعم (عم فرحات) على الرصيف المقابل لبوابة (الأزهر الشريف).. لأتناول (حمامه) الفريد، و(فريكه) الأمتع على مائدة من موائده المتناثرة في تلك الأزقة الضيقة الغاصة بالموائد والزبائن، ثم لألتقط أنفاسي.. مع فنجان من الشاي (أبو فتلة) في مقاهي باحة الحسين الكثيرة والمتلاحمة، التي لا يعرف عددها أحد.. حتى محافظ القاهرة نفسه، لأرشف فنجاني، وأشعل غليوني، وأعطي أذني لكل ذلك الصخب الجميل الذي يحيط بي.. من المغنين والرواة والعازفين.. وبائعي أحدث (النكات)، الذين تمتلئ بهم باحة (الحسين)!!



هكذا عرفت وأحببت (مصر) -ما قبل رئاستها (الإخوانية) التي لما يمض عليها سوى أربعة أشهر وثلاثة أسابيع-، فقد قرأتها.. طويلاً، وسمعتها.. كثيراً، وعشت أمجادها وأحلى طموحاتها، وعاصرت أحزانها ونكساتها، ورأيت نهوضها.. فكان يترسخ لديَّ إيمان لا يتزعزع بأن (مصر) الحضارة والثقافة والفكر والريادة والتجربة النضالية الطويلة ضد المستعمرين والطغاة أياً كانوا.. قادرة على النهوض دوماً من كل عثراتها.. برجالها ورموزها وجامعاتها ونقاباتها وجمعياتها وأحزابها، فليس أكثر من عثرة هجمة الرأسمالية المصرية عليها، وعلى أراضيها وبنوكها.. التي تربت على يد (مبارك) ودولة (الحزب الوطني) في دورتيه الرئاسيتين الأخيرتين.. وهي تدندن بـ(نغمة) التوريث التي تطرب حرم (المخلوع) وتزينها وحوش الرأسمالية من حولها.. التي استطاعت مصر أن تطيح بها -بعد ثلاثة وثلاثين عاماً من رسوخها وعزها وقوتها- في سبعة عشر يوماً!! ولذلك لم تخفني تلك الانشقاقات والاختلافات والخلافات والمظاهرات الضارية التي قادتها قوى المعارضة المدنية المصرية.. ضد (تأسيسية) الرئيس مرسي لصياغة دستور مصر الجديد وتمريره بسرعة البرق، وضد موعد الاستفتاء عليه الذي حدده بخمسة عشر يوماً من استلامه لـ(مسودته).. مخالفاً بذلك قراره الذي ألغى به الإعلان الدستوري (المكمل) في الثاني عشر من أغسطس الماضي، واستحوذ به على السلطتين (التنفيذية) و(التشريعية) بإحلال (الشورى) محل (البرلمان) المنحل.. بل رأيت فيها صورة مصر العظيمة والكبيرة والمأمولة، ووقفتها المطلوبة أمام حالة (التغول) المضمرة التي اتضحت عياناً بياناً ولم تهبط على الرئيس بالتأكيد فجأة.. أو على حين غرة!!

لقد ذهب اعتقادي بأن (براجماتية) الرئيس مرسي ستحمله و(جماعته) على التراجع (وكما فعل من قبل أمام حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب) عن تأسيسية الدستور بإعادة تشكيلها أو تعديلها، وعن موعد الاستفتاء.. من الخامس عشر من شهر ديسمبر إلى الثلاثين منه أو إلى أي موعد آخر ينسجم مع ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي لا يزال الرئيس وجماعته.. يتمحكون بها، ويدعون أنهم صناعها ووقودها.. رغم أن العالم كله وليس مصر والمصريون وحدهم.. يعلمون بأنهم قدموا إلى ميدان الثورة (ميدان التحرير) بعد خمسة أيام من قيام الثورة، حيث مارسوا (براجماتيتهم) المعهودة بإقامة (صلاة الجمعة) في الميدان.. وبالمشاركة في (قداس الأحد) مع (إخوتهم) من مسيحيي مصر وأقباطها!! وهم يعلنون فرحتهم بالخلاص من (مبارك) وحزبه (الوطني) رغم مشاركتهم له بالأمس القريب.. في بعض مقاعد آخر برلماناته، بل إنهم لن يقدموا (مرشحاً) لرئاسة الجمهورية عندما يأتي وقت ذلك، ولكنهم كانوا -وكعادتهم، يقولون شيئاً.. ويفعلون عكسه تماماً-، إذ تقدموا -وكما يذكر الجميع- بثلاثة مرشحين.. وليس بواحد، بعد أن فتح لهم (المجلس العسكري الأعلى) الذي تولى إدارة مصر بعد سقوط (مبارك).. الباب على مصراعيه لهم ولسواهم للترشح لـ(الرئاسة) حتى ولو كان للحزب عضو واحد في البرلمان!!

لكن الرئيس.. لم يتراجع، بل مضى لتنفيذ أجندته -أو أجندة مرشد الجماعة كما يقال- دون أن يعبأ بكل هذه المظاهرات والاعتصامات التي امتدت لمحاصرة قصر (الاتحادية) حيث يقيم.. ليهرب من أبوابه الخلفية..؟!

* * *

لقد كانت خطيئة المجلس العسكري الأعلى.. المقصودة أو غير المقصودة، هو أن جعل من تشكيل (الجمعية التأسيسية) لكتابة الدستور الجديد (للجمهورية الثانية) آخر محطات المرحلة الانتقالية التي تولاها المجلس العسكري لعام ونصف.. وليس (أولها) كما كان يتوجب، وكما تنادت به كثير من الأحزاب والهيئات والقوى السياسية المصرية الفاعلة، ولكن المجلس العسكري.. وضع طيناً في أذن وعجيناً في الأخرى ومضى على خطته (استفتاء لا معنى له على تعديل بعض مواد دستور 1971م القديم، فانتخابات تشريعية، فشورية.. فانتخابات رئاسية وضعت مصر وثوارها في “كماشة”: فإما “شفيق” أو”الإخوان”)!! لتجد مصر نفسها وشبابها وثوارها وساساتها ورموزها في هذا المأزق الفريد حول (الدستور) وجمعيته التأسيسية وموعد الاستفتاء الإلزامي عليه (بعد خمسة عشر يوماً من تسليم مسودته للرئيس).. سواء قرئ من قبل المواطنين أو لم يُقرأ!! فهم من قبل جموع المصريين أو لم يفهم!! ولست أدري.. كيف يمكن أن تكون الخمسة عشر يوماً كافية لقراءة وفهم دستور لدولة بحجم ومكانة (مصر) من مائتين وأربع وثلاثين مادة!! يجمع بعض كبار الصحفيين على ركاكته والتباساته التي يناقض فيها أول بعض بنوده آخرها.

ومع ذلك مضى الرئيس وجماعته إلى استفتاء الخامس عشر من ديسمبر -السبت الماضي- وسط أجواء من الوجوم والتبلد و(الزهق) مما يجري.. عبر عنه بالأرقام ذلك الغياب الملفت لملايين المواطنين في العشر محافظات الأولى التي جرى فيها الاستفتاء.. حيث بلغت تلك النسبة 67% غيابا و31% حضورا، ليفاجأ الرئيس وجماعته بأن (56%) هم الذين قالوا (نعم) للدستور الجديد، و44% قالوا بـ(لا)، وهي أرقام لا تريح الرئيس وجماعته ولا (الحقيقة).. إذ إن الاستفتاءات الإيجابية على الدساتير التي عرفها العالم.. لا بد وأن تقارب الـ(70-80%).. ليكتشف العالم تلك الشوائب المعيبة التي صاحبت المرحلة الأولى كغياب -أو تأخر- بعض القضاة عن دوائرهم وإحلالهم بشخصيات غير قضائية للإشراف على الاستفتاء، ومنع منظمات الرقابة الدولية ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان.. عن أداء مهامها الرقابية في الإشراف والمتابعة ضماناً لنزاهة الاستفتاء، وكان من أطرف طرائف ما حدث في دورة الاستفتاء الأولى.. هو وجود (صندوق) من صناديق الاقتراع في إحدى (البقالات)!! بينما كان حزب الرئيس (حزب العدالة والحرية) يشيد بهذا اليوم (الذي تسطر فيه مصر تاريخاً جديداً في مسيرة نضالها نحو الحرية)!! كما جاء في أحد بياناته.. الذي أضاف قائلاً إن الاستفتاء في مرحلته الأولى جرى (في جو من النزاهة والشفافية وتحت إشراف قضائي كامل ومراقبة إعلامية محلية ودولية)!!

* * *

ومع هذه التباينات الواضحة الأهداف.. تراجعت جبهة الإنقاذ الوطني -التي تضم أهم قوى المعارضة المصرية- عن طلبها بتوفير تلك الضمانات الخمس -كشرط لنزاهة الاستفتاء ومشاركتها فيه (الإشراف القضائي على كل صندوق، وتوفير الحماية الأمنية داخل اللجان وخارجها، وضمان رقابة محلية ودولية، وإعلان النتائج تفصيلاً في اللجان الفرعية فور انتهاء عملية الاقتراع).. وهي تدعو لتأجيل الاستفتاء، والعودة إلى (تأسيسية) توافقية جديدة.. تنفذية هذا الدستور (سيئ السمعة) كما قالت، ليكون الاستفتاء عليه في أنحاء الجمهورية في (يوم واحد) وليس في يومين ولا أسبوعين، وهو الأمر الحق.. والمعمول به في معظم دول العالم.. حتى تلك التي تتجاوز فيها نسب السكان المائة مليون مواطن!!

ولكن الرئيس وجماعته.. ماضون نحو المرحلة الثانية من الاستفتاء التي ستضم سبع عشرة محافظة.. في موعدها السبت -يوم أمس-، لتجري وسط اعتصامات ميدان التحرير، وحول قصر الاتحادية، ومحاصرة المحكمة الدستورية، والمدينة الإعلامية.. ومبنى الإذاعة والتليفزيون المصري الشهير في (ماسبيرو)، وفي ظل امتناع معظم قضاة مصر.. عن المشاركة في الإشراف عليه، ليبقى مشهد الاستفتاء في مجمله.. مقبضاً موحشاً إن لم يكن أكثر وأخطر، لا يحمل على الطمأنينة في (الحاضر)، ولا على الثقة بـ(المستقبل).. خاصة في غياب الصوت القبطي والمسيحي عن تفاصيل المشهد كله.. إلا من نتف أخبار عن مشاركة في (حوار وطني) لم يعد يجدي، لأنه جاء بعد أوانه..!

لذلك فإن من حق المصريين أن يقولوا.. وأن يقول معهم محبو مصر: إن هذه ليست مصر.. عرفوها وعرفناها.. والتي علمنا نيلها معنى واحداً، هو “الاستمرار” و”الخلود”!!

dar.almarsaa@hotmail.com
جدة
 

ليست هذه (مصر)..؟!
د.عبدالله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة