ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 03/01/2013 Issue 14707 14707 الخميس 21 صفر 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

اللغة -أيُّ لغة في العالم- حاجة جماعية إلى أقصى وأوسع ما وصلت إليه المعاناة البشرية من البيان بالكلمات الرامزة عما هو مشترك في تصور المتلقي والمرسل؛ فالغرض من اللغة البيان والوضوح والصدق لأداء ما في التصور والوعي والمشاعر بأمانة،

والبعد عن هذه الغاية (لغير عجز في البيان، ولغير خوفٍ مشروع) بالغمغمة والروغان، ولغير غاية جمالية في الأدب: لابد أن يكون مستبطِناً غاية غير شريفة !!.. هذا هو واقع الحاجة اللغوية، وهذا هو واقع الغاية منها.. ثم إن لغتنا العربية -مثل غيرها من اللغات- ليست كُلِّيَّةً، ولا مطلقةً نهائيةً إلاَّ في قواعدها التي كرَّستها عشرات القرون؛ ذلك أنها ممارسة قوم وَفَتْ لغتهم بما يُحِسُّونه من مرئي ومسموع ومشموم وملموس ومذوق، وببعض ما يشعرون به؛ إلا إنهم لم يتفنَّنوا في التعبير عن كل المشاعر، وليس عندهم علم نفس يلتقط كل ما في الشعور واللاشعور، والوعي واللاوعي؛ فنلتمس مئات الكلمات المقابلة لما نجده في مصطلح علم النفس.. وبدأت لغتنا العربية بين أمة أميَّة لا كتاب لها في شظف من العيش؛ فلم تُرِحْها حياتُها الكادحة إلى بُعْدٍ فكري نظري يحتاج إلى رموز لغوية تُدَوَّن بكتاب؛ فلما كانوا أصحاب كتابَ وسَّعوا رموزهم اللغوية (وَفْق المستجد في حياتهم من معارف) باصطلاح وتوليد من لغتهم، وباقتراض من لغة غيرهم؛ فكثرت في التراث كتب المصطلحات العامة (إذْ لكل حقل علمي مصطلحاته في كتبه الخاصة به) مثل التعريفات للجرجاني، والكليات للكفوي، ودستور العلماء للأحمد نكري، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي.. ثم حاول بعض المستشرقين تكملة المعجم اللغوي التراثي بالمعجم الاصطلاحي التراثي في تأليف خاص كما في تكملة المعاجم العربية للمستشرق رينهارت دوزي.. ومهما كان هذا الثراء عمقاً وسعة فأمتنا في إنتاجها البشري غير مطلقة ولا نهائية؛ فاستجد في الماء واليابس أحياء ونباتات لم يعرفها العرب، ولا يلامون إذا لم يوجد في لغتهم رمزٌ لما لم يعرفوه.. واستجد العلم بمكتشفات في الأفلاك والفضاء والماء واليابس مثل العناصر الكيميائية، والموجودات التي احتاجت إلى تسمية في لغات البشر بعد العلم بها، وعِلَلٌ في النفس، وأدواء في الطبيعة؛ فلا يلام العرب، ولا تُلام أي أمة إذا لم يوجد في لغتهم الرمز لما لم يعرفوه.. واستجدت مصنوعات بشرية كالتلفاز؛ فمن الحمق أن يُطلب اسمها من لغة سبقت وجود المصنوع المختَرَع!!.. إذن لغتنا (وكل لغة) بحاجة إلى الإمداد والثراء بالرمز عن شيء استجد العلم به كالمكتَشف -بصيغة اسم المفعول- الكوني، أو استجد وجوده من المصنوعات كالتلفاز.. ولابد في هذا الإمداد من تحقيق علمي، وصدق خلقي.. ويَجْمع هذين (التحقيق، والصدق) أن ما عرفه الرب وسموه تُلتمس دلالته المطابقة من متون اللغة بهداية الله ثم هداية الاشتقاق اللغوي المعنوي الذي حوَّم حوله ابن فارس في مقاييس اللغة، والراغب في المفردات، والزمخشري في أساس البلاغة.. وما عدا الدلالة المطابقة من معاني الكلمة فهو دلالة تضمن، أو لزوم، أو شَبَهِيَّة.. وذلك هو المجال الأرحب لتوسع اللغة بمجازاتها.. وما وصل إلينا من لغة الآخرين وعندنا له الدلالة المطابقة، فلا يحق اقتراضه بمنطق قومي يعتز بأصالته، ويُبَرِّئ أمته من دعوى الجهل بالمسمَّى مثل كوبري؛ ففي تراثنا اللغوي الجسر والقنطرة.. وأما ما علمه العرب بجهدهم من اكتشاف كوني، أو مصنوع مخترع -وما أقلَّ ذينك في دنياهم!!- : فإنما نسميه من صلب لغتنا من مجازها الوسيع لزوماً وتضمناً وتشبيهاً، وحكم ذلك حكم مصطلحاتنا في الفقه والأصول والحديث والتفسير والفلسفة.. إلخ.. وما لم يعلمه العرب بجهدهم أوَّلاً، وإنما تَلقَّنوه من غيرهم ممن اكتشف المسمَّى أو صنعه؛ فهذا يحكمه التحقيق والأخلاق معاً؛ فمن العيب والمهزلة أن نأتي إلى آلة صنعها غيرنا كالفاكس والتلفون؛ فنغتصبهم على التسمية من لغتنا بمجاز بعيد، أو كلمة حوشية، أو عبارات كثيرة مُركَّبة أَغْنى عنها كلمة عند غيرنا.. من العيب أن يُخلص الخواجي في الكشف، وأن يتفنن في الصنع، ثم يأتي ابن يعرب أو معد يزاحم ويماحك في التسمية!!.. بل المثالية أن نشكر العلم وننسبه إلى أهله، ونترك لهم تسميتهم؛ لأن مكتشف الشيء أو مخترع صنعه أولى بتسميته؛ فما وجدنا في لغتنا الدلالة على أخص معانيه وأظهرها (استعرنا له على استحياء وخجل) اسماً من لغتنا مثل (الهاتف) اسماً للتلفون؛ فالتلفون صنع خواجي، والهاتف تسمية عربية.. ونطلب الصفح والإقالة والمعذرة : بأن ذلك أسهل لنا نطقاً، وأن مدلولنا العربي مطابق لأخص خصائص التلفون؛ ومِن ثَمَّ يحق لنا التوسُّع بما تسمح به أوزان لغتنا من النحت والاشتقاق؛ فنقول : تلفن له تلفنة.. وإذا لم نجد في لغتنا لفظاً واحداً يدل على أخص خصائص المسمَّى الجديد فإننا نقترضه، ولا نسميه بأكثر من مفردة، ولا نخضعه لاسم عربي يدل على شيء من معانيه وليس هو أظهرها كالفاكس ؛ فإن كانت صيغته الوزنية ثقيلة حوَّلناه إلى أوزاننا مثل التلفزيون نُحوِّله إلى تلفاز بالاستحياء نفسه الذي ذكرته آنفاً.. وما نقترضه نتعاطف معه بلا استحياء؛ فنشتقُّ منه كما نشتق من مفرداتنا؛ فنقول: فاكَسَه، وتلفنهُ.. بل أبعد من ذلك نحت من الكلمتين المقترضتين لفظاً واحداً للاختصار على منهج: البترو دولار، والقرو أوسطية -أو (وسطوية) على لغة أصحاب الخطاب الحداثي-، وزمكانية.. وما كان من لفظ خواجي ذي معانٍ كثيرة تدور في معايشتنا الثقافية الراهنة -وإن لم تكن معانيه من الاكتشاف أو الاختراع الجديد- : فإننا نقترضه لفظاً، ونترجمه بألفاظ.. وتزامُنُ الترجمةِ والاقتراض كفيل بأن يجعل اللفظ المقترض ذا معهود لغوي واضح في تراثنا المكتسب؛ وذلك مثل أيديولوجية، ورومانسية.. والترجمة عامة تشمل نقل معاني أي لغة إلى لغة أخرى بألفاظ اللغة المنقول إليها، والتعريب هو ترجمة أي لغة إلى اللغة العربية، وأما تسمية النقل بالمعنى ترجمة، وتسمية الترجمة الحرفية تعريباً فلا أعرف لهما وجهاً من اللغة.. وما كان من لفظ خواجي مركب لعلم جديد، فلنا أن نترجمه بألفاظ، ولنا أن نقترضه.. والاقتراض أمثل وأصدق كالإستاطيقا ؛ لدلالتها على أمشاج من علم الجمال، والأخلاق، والتفكير، وليس في لغتنا ولا في مصطلحاتنا التراثية ما يدل على معانيها.. وقد دلت كلمة إستاطيقا الإغريقية على دراسة المدركات الحسية؛ فهي علم وجدان.. وفي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي أُدخل في هذا الاصطلاح أيضاً دراسة الذوق؛ لأنه غير معلل إلا بشعور غامض، وكادت الكلمة تقتصر على الدراسات الجمالية؛ لأن معيار الجمال وجداني قلبي، وكان هذا الاقتصار منذ أن أعلن مير الألماني وجدانية الجمال، ولي عودة إن شاء الله إلى بيان مقدار حاجة لغتنا من معاني مصطلح الإستاطيقا، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.

ليستْ لُغتُنا وحيدةَ المعاناةِ
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة