ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 11/01/2013 Issue 14715 14715 الجمعة 29 صفر 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

حرص خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - مَتَّعَه الله بالصحة والعافية وسعادة الدارين، ومَتَّع الأمة بوجوده- منذ تولَّى مقاليد الأمور على حثِّ أمته بأن تتمسَّك بهُوِيَّتها، وبأن تبتعد عن تصنيف الأمة إلى مذاهب وفرق، وكان فتح الحوار بين المذاهب والأديان من أجل تضييق نطاق التصنيف.. وهذا شعور منه -حفظه الله- بأن رعيته خاصةً، وأمةَ الإسلام عامةً ذات قِبْلَة واحدة، وأن اختلاف البشر (وهو سنّة الله الكونية في عباده) شِفاؤه الحوار بعلمٍ وفكرٍ؛ وبهذا التوجيه الكريم يجب على علماء أهل هذا البلد ومفكريها أن يُجنِّدوا جهودهم بكل أمانة من أجل حوار علمي عاقل يُظْهر صدقاً علمياً ونزاهةً فكرية نُبيِّن بهما هويتنا عند مَن يُصَنِّـفنا؛ ليُحدِث فينا التجزئة والتعددية في بقعتنا (ونحن مُـجزَّؤون على رغم أنوفنا [هذا صحيح بدون حاجة إلى (مِن أن)؛ لأن المراد بالرغم الكُرْهُ] بالحدود السود في تركتنا التاريخية ذات الامتداد العربي الإسلامي)؛ فإن كان المصنِّف لنا من أبناء ملتنا، أو يَدَّعي ذلك: فحقه علينا أن نُبرز له هويتنا التي تمنع التصنيف، وتفرض علينا أن تكون أمتنا أمةً واحدةً.. وإن كان المصنف لنا عدوَّ ملتنا وتركتنا فالحوار بيننا وبينه بالعدل من جانبنا وإن تجاسر علينا بالحيف الظالم والتضليل المتعمَّد، والله يُتَمِّم مسيرة مَن يريد الحق.. والعدل الذي هو ميزان الحوار ليس شيئاً غير ما تقضي به القيم الثلاث التي لم يجدوا لها رابعةً ألبتة، ويسمونها المعايير، وعليها بناء كل معرفة مباشِرة وعلمٍ أنتجته المعرفة، وتلك هي (الحق وهو حكم وجودي)، و(الخير وهو سلوك عملي تجريبي)، و(الجمال وهو حكم وجداني).. إنها ثلاثة معايير لا غير لا غير لا غير؛ ومنها تُشتقُّ كل البراهين.

وإذا كان همُّ المسلم ذي العلم والفكر أن يلم شمل أُمَّته عن تجزئة التصنيف التي هي خلاف قوله تعالى:

وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ (103) سورة آل عمران: فهل معنى هذا أن نسكت عن افتراء مَن يُصنِّفنا تصنيفاً باطلاً ؟.. كلا.. وقبل معالجة هذا الموضوع أُبيِّن أنَّ بين الأمة اختلافَ رحمة ليس برهانه الحديث الموضوع: (اختلاف أمتي رحمة)؛ وإنما برهانه رحمةُ الله عبادَه إذا تعبوا في تحرِّي الحق، وأخلصوا النية: أن يهب المخطئ أجراً لصواب اجتهاده، ومعذرة؛ لعدم إصابته المراد.. ويهب المصيب أجرين؛ لصواب اجتهاده، وإصابته المراد.. ولم يجعل الله ذلك إلا فيما يسع فيه الاختلاف، وأما القطعي ثبوتاً ودلالة من نصوص الشرع فالخروج عنه تَعَمُّدُ فرضِ التصنيف والتجزئة في وحدة الأمة.. ومن التصنيف الآثم ما اقترفه مركز (راند)، وهو مركز أُعِدَّ حديثاً، وهُوِيَّتُه أنه (مركز البحوث الأمريكية) أُعِدَّ بتمويلٍ من مؤسسة سميث ريتشارسون، واسم النشرة (الإسلام الديمقراطي المدني)، والمؤسسة يظهر أن هدفها البحث العلمي المجرَّد - بتقديم حسن الظن -، ولا أهداف لها ربحية مادية؛ ليكون إضاءةً لدولة الولايات المتحدة.. ورئيسة هذا المركز شاريل بينارد (زوجة زلْماي خليل زاده الذي كان يشغل منصب المساعد الخاص لبوش، كبيرُ مستشاري الأمن القومي في الخليج العربي وجنوب شرق آسيا).. وغاية المركز بحث ما يُواجه أمنياً القطاعين (الخاص، والعام) في العالم.. ومع حسن الظن به فهو أداة للصهيونية بفعل قهري تضليلي في توجيه ما ينشره من وقائع، وما يطرحه من حلول.. وقد قسَّم المسلمين إلى ثلاثة أقسام: أصوليين متشددين، وقصرهم على السلفيين من أهل السنَّة والجماعة، وجعل قاعدتهم (المذهب الوهابي!!) في السعودية [وحول هذه الفِرْية حديث يأتي إن شاء الله بإنصافٍ لا يُحابي أحداً].. وإلى تقليديين خطرُهم الوحيد حمايةُ مجتمعٍ محافظ!!.. وإلى حداثيين، وفي تفسيره إياهم كلُّ العناصر التي تسلخ المسلم من دينه، ولا تعني الحداثة نشدان ما أنتجته المهارات والابتكارات بحُكْم قيم الحق والخير والجمال، وتوظيفها لتلك القيم.. ووالله ما كل حداثيِّيْ بلدنا كذلك، بل هم أهل خير وفطرة سليمة؛ وإنما ينشدون الجديد في تأملاتهم وجمالياتهم، ولكنَّ أبالسة المركز أضافوا إلى التعريف بهم جملة تُقنع الغوغائية، وهي (يريدون من العالمين [يعني النامي والمتخلِّف] أن يكونا جزءاً من التقدم الذي يسود العالم).. ولو كان التقدم المنشودُ إبادةَ أسلحة الدمار المضادَّةِ الحاةَ السويةَ على الأرض، وإشراكَ الآخرين في تعلُّم ضرورات حياتهم، وعدمَ هضم مواردهم: ما كان هذا السباقُ في أسلحة الدمار، وجَعْلُ المستضعفين جذوةَ حريقه، وحصولُ ائتلاف القوى المتنفِّذة بحقِّ الفيتو وبدونه على اقتسام مواردهم، وإحباط طموحهم، وسلب هويتهم، والتحكُّم في عواطفهم، والحيلولة بينهم وبين مُلْكِ كل قرارٍ لهم يحفظ لهم هُوِيَّتهم، وزرع التعددية من الأغيار القِلَّة الـجُدَد، وتسليط الأغيار التاريخيين أيضاً بالإكراه والتضليل والمال؛ ليكونوا اليد العدوانية المباشرة التي يتوارى وراءها الحقد الطغياني للأمم القوية الـمُتَنَفِّذة.. ثم ذكر المركزُ التسييسيُّ خارج تلك الأقسام العَلمانيين بالشرط الكفري (بتقديم الكاف على الفاء).

قال أبو عبدالرحمن: إن ضَلَّ فرد في فهم العَلمانية مصطلحاً وسلوكاً فهو بيقين لا يخطر بباله المعنى الكُفْري؛ لأن أمتنا أبعد وآخر من يرتاح إلى تدمير الهوية ومقوماتها التي هي أَخْذُ الميزة وطرح المجمل، ولكن التثقيف الفرنسي للجنوب صار له توأم أعظم فاعلية وهو (التثقيف الأمريكي [أو التسييس العالمي] للشرق العربي والإسلامي) بمدٍّ إعلامي عنيف يكبت الصوت العربي والإسلامي لدى شعوب العالم الأقوى؛ وإنما يصل إلى من يملكون القرار وحسب، وقديماً قيل: (الرأي لمن يملكه لا لمن يراه!!).. فَوُجِد عَلمانيون قلة جداً فَهِمُوا المصطلح عن تضليل يُفيد معهم الحوار الفكري، ووجد علمانيون هم الأكثر تمذهبوا من أجل الخبز الخبيث، ومن أجل التلميع والشهرة الزائفة الزائلة، وقد يفيد مع قليل منهم الوعظ بالتقوى من ذي الفكر المؤصَّل المرغِمِ العقلَ الإنساني المشترك.. وكبار مثقفي أمتنا - ولا سيما في هذه المملكة - من الدكاترة هم أبناء الفطرة، والوعي بالمتغيرات، وهم: أمكن مني في تفسير الوقائع، وأطول مني باعاً في تملُّك الوسائل إليها من قراءاتهم بلغات العالم الحية.. وليس عند العبد الضعيف لغة حية ولا مَيِّتة إلا أم اللغات الحية (لغة معد بن عدنان)، وما تقاطر منها من جميل اللهجات والعاميات.. هذه هي الوقائع، وأما الركائز المطروحة فتتمثَّل في خبثٍ أخذ يسرد بِدَعاً تجب حمياتُها ودعمها؛ لأن فيها كارثةً على الشرق ومأمناً لطموح الغرب، وهي:

أ - تبنِّي الصوفية - ولكل شيخ طريقة-، وتقويةُ مكانتها، وإدراجُها في مناهج التعليم.. وحقيقٌ على عامة الصوفية (وفيهم أهل تربية روحية سلوكية كريمة) مراجعةٌ وجدانيةٌ تُبصِّرهم بأن الدعم من دين الله وإخوان الملة لا من التناغم الصهيوني الصليبي.

ب - ضرب الأصوليين والتقليديين فكراً وتعييراً - بياءين بنقطتين من تحت -.

ج - تشجيع الحداثيين [بعد أن أفرغوا الحداثة من معناها الكريم] بإبراز الصحافة لهم، وخدمتهم في نشر الكتب وإعداد المناهج، وتزويدهم ببرنامج سياسي عام، وإدراج نظرهم في المناهج الدراسية والإسلامية!!.

قال أبو عبدالرحمن: ليس ههنا شفقة من الآخر تريد الخير للبشرية، وتدعو إلى نهوض الشعوب الضعيفة مع مَدِّ اليد إليها في إعداد قُوَّةٍ تحمي بها نفسها، وتُبْرز لها تنمية بشرية تُحقِّق الضروري لحياتها، وصقلِ عقلٍ اقتصادي يُنَمِّي مواردها الطبيعية، ويجعلها سوق توريد وتصدير تبادلي بلا غبنٍ وإجحاف من القوى الكبرى؛ وإنما ذلك ثعلبية حاقدة تريد تمزيق وحدة الأمة ذات التاريخ الجهوري، والرقعة الشاسعة، والإستراتيجية في سُرَّة الأرض، وثراء الموارد الطبيعية.. وهي وِحدة هشَّة نخر فيها السوس من كل جانب.. ونحن في هذه المملكة خاصة تحقَّق لنا وحدة بدأت بتجذُّر التجزئة منذ أواخر الدولة العثمانية، ولا يستطيع مؤرخ أن يذكر وحدة بعد التجزئة - بعد كل الشعارات عن وحدةٍ من المحيط إلى الخليج - غير وحدة مملكتنا.. وهي وحدة حصلت بالله ثم بالجهاد المضني الشاق بالدعوة السلمية والجهاد الذي حمل أعباءه أبناء هذا البلد بشرائحهم المختلفة رِضىً بقادتهم، وإشفاقاً على دعوتهم الكريمة.. ويختفي في غبار الجهاد المقدس الذي حقَّق تلك الوحدة ذحولٌ وحميَّة لجهل بعض الأجداد عفا الله عنهم، وأحقاد يضخِّمها شياطين الجن والإنس ما دامت الحرب عمياء في كل جهاد مُقدَّس.. وتلك الذحول عصبيات إقليمية ومذهبية وقبلية كثيراً ما تكون بعد الـمَلَلِ من النعمة كما عند سبإ إذْ قيل لهم:

كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) سورة سبأ؛ فقالوا:

رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19 سورة سبأ).

والاستسلام لتلك الأهواء يُسَهِّل الأمر لاستقبال تَسْييْسِ عدونا، ويجعل نوازعَ مِنَّا أمينةً على تنفيذ كيد عدونا، ولن تُضامَ أمتنا بعدوٍّ من سوى أنفسها؛ لهذا تجد بعض من ترجو منه الخير - ولا سيما من طلبة العلم الشرعي - من ينتهز ضغوط الإكراه العالمي الطغياني التي تريد مَـحْوَ سيادةِ الحكومات الشرعية شعوبَها بمقتضى هوية الشعوب أنفسها؛ فتستغلَّ وسائل الإعلام كالإنترنت (وهو من ضغوط الإكراه العالمي) لتشحن القلوب والعقول - وليس أكثر السواد على مستوى المسؤولية - بالتأليب على وحدة الأمة، والكفر بنعمة الوحدة، وإنكار المنجزات الكريمة، وتضخيم الأخطاء القسرية، وافتراء ما لم يكن، وتأويل كل مقصد كريم بضده.. وساعد على ذلك غياب وازع (الحياء الاجتماعي)، وغياب وازع (الحضانة الأُسَريَّة والقبلية والإقليمية) التي تستصلح أفرادها، وتمنعهم من خرق السفينة، وتُفعم قلوبهم بالوازع القرآني؛ ذلك أن (الوازع السلطاني) هو آخر الطبِّ، والحكومة المسلمة الراشدة تتحرَّى بالعلاج والوقاية ما قد يرغمها في النهاية على الوازع العِقابي.. والأمةُ رائدةُ (الحياء الاجتماعي)، و(وازع الحضانة) إنما هي رحمة للأمة نفسها.. والدولة التي أبدعت الوحدة وظلت تتصدى لضغوط الإكراه بكل أوجه السياسة رحمة للأمة أيضاً؛ فلا جماعة إلا بدولة، ولا دولة إلا بجماعة؛ فهما أمران متلازمان، وبغياب أحدهما نفقد هُوِيَّتنا وأمننا ورغدنا.. وأعلم علم اليقين أن ذباب الإنترنت - من كل ذي ذِحْلٍ تاريخي، أو متشوِّفٍ إلى السلطة بقَدَره الخاسئ، أو عاشقٍ الشهرةَ والتلميع، أو مرتزقٍ بالخبز الخبيث -: لن يضر إلا نفسه، ولن تنفعه انتهازية الإكراه العالمي؛ فإذا حدث ما لا تريده الأمة والمجتمع من الوازع السلطاني العِقابي فإن ذوي القوة والتدبير والتقوى - أمةً ودولةً - مع هُوِيَّتهم التاريخية، والله ضامن لهم تتميم المسيرة.

قال أبو عبدالرحمن: وإن ساء الظن ببعض المتستِّرين بالحميَّة الدينية من مُدَّعي العلم الشرعي - ومنهم المتطرِّف الذي يعبد الله على جهل، ومنهم المنافق الذي يتمسَّح بكل ناعق مُستحلَّاً التجزئةَ وعذابَ الأمة بعد استحلاله التضليل بتأويل النصوص الشرعية مما يعلم أنه غير مراد الله -: فإن أملنا الكبير بعد الله في علماء الشريعة الأتقياء، وفي سواد مثقفي جيلنا في المعارف الأخرى من الدكاترة والأساتذة الذين هم أعظم إدراكاً لمتغيِّرات العصر، وما يُدار في الكواليس، وفي ذوي الأبوية الأُسَرِيَّة والقبلية والإقليمية؛ لهذا أهيب بهؤلاء الأخيار من دكاترة الجيل في بلدي إلى وعظ وجداني، ومراجعة فكرية، وتلاحم قوي ينقذنا من نوابت الشر التي تتبنَّى تأسلماً مُشوَّهاً نُسمِّيه (الإسلام السياسي)، وما هم إلا مطايا لمصَّاصي دمائنا المتكالبين على تركة أسلافنا.. وليس في قَدَرِهم التضليلي، ولا في حِيلهم الخاسئة رَفْعُ شعار للتقدمية يعني (الكشف الكوني، والصنع المبتكر).. إن أساتذة ودكاترة الجيل في بلادنا في تخصُّصاتهم الدنيوية، وفي ثقافاتهم النظرية: هم جزء مُكمِّل لجهد علماء الأمة الربانيين؛ لأن أولئك علماء بالحكم، وهؤلاء علماء بالواقعة.. وللأخيرين نشأتهم الفطرية، ووعيهم المتميِّز بمتغيِّرات العصر، وهم أعظم حماساً لهمومهم الوطنية والقومية بشرطها التاريخي، والجميع في سفينة واحدة يُهدِّد أمنها سفهاء ومرتزقون وذوو أحقاد ضيقة تافهة اتخذوا التأسلم السياسي مطيةً لهم بين تحسير وتقصير.. ولبعض العلماء والمثقفين صوت كريم في الإنترنت، ولكن من الأهمية بمكان حضورُ أصوات ذوي الأبوية الأُسَرِيَّة والقبلية والإقليمية؛ ليذودوا الذُّبان عن تلويث النعمة، ويَغْمسوا ما نالوه في الماء الحار؛ فإن في أحد جناحيه شفاء من داء جناحه الآخر.. وليسفِّهوهم ويتبرأوا منهم؛ ليظهر بذلك ظُلْمُ الاعتداء على حرية الجمهور، ولأن مسؤولية كل مسلم وفرد عاقل قَمْعُ كلِّ قتنة وتفرقة وتجمهر وركون إلى العدو.

قال أبو عبدالرحمن: لقد أحسنتُ الظن بكفيف لحيته إلى سِرِّه، ودافعت عنه في كتابي (حديث الشهر) مُوقناً بسَلَفيَّته وهو ينكر ورطة لأحد المثقفين تلقَّاها عن تضليل - وإن كان تناول ذلك الشيخ عن غير نضج علمي شرعي، ولا عن جبروت فكري، ولا بإيقاع لذيذ -؛ فإذا به يتحدَّى مشاعر دولته وأمته بتهنئة شاب تكفيري ذي تأسلم سياسي تضليلي بشدِّ الرحال إليه وتهنئته، وإعلانه إباحة (المظاهرة السلمية)؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو يعلم أن التَّجمْهُرَ من غير مناصحة سِرِّيَّة - هو الباب الواسع لما حرمه الله من التَّفرُّق وأوجبه من الاعتصام، وليس له على فتواه الخاسئة برهان لا من الشرع ولا من السيرة العملية ولا من ضرورات الفكر -.. وآخرُ أسمعُ دروسه من المذياع وهو يلقيها من كتب مُفَتَّحةً أوراقها نظراً؛ فإذا به يُقبِّل رأس الشاب النشاز الداعي إلى الفرقة.. وثالثٌ باركتُ دفاعه عن عائشة رضي الله عنها؛ فإذا الظاهرُ خلافُ الباطن، وإذا هو يُعلن الولاء لأردغان الملك الصالح بمقابل التحريض على دولته الصالحة المسلمة.. وهذا ورأس فتنة قديم تُـمَنِّيه نفسُه الخاسرة أمانيَّ الغرور قد كرهه الناس ومَـجُّوه مخبراً ومنظراً، وتهالك على جمع الدعم بالمال الحرام، وفي يوم من الأيام كانت (الجماهيرية الشعبية) لمعمر القذافي هي الدولة المسلمة الصالحة عنده، وعبَّ ونهل من الأوساخ المادية من (سيف الإسلام)، وكل ذلك صَغار وهوان مُسَجَّل عليه في الإنترنت والفضائيات.. إن ذُبَّان الإنترنت نالهم خزي الدنيا عاجلاً بمقت الناس لهم، وهم توسَّلوا إلى قلوب الناس بحجة أنهم (دعاة إلى الله)؛ فأظهر الله نفاقهم، وحريٌّ بهم أن يحيط بهم دعاء المسلمين عليهم في جوف الليل.. والواحد منهم اليوم عودٌ أخضر، وغداً عرجون يابس؛ فيا بؤسهم إن لم يُسْرِعوا بالتوبة، ويشفقوا من يوم تشخص فيه الأبصار من مُقَدِّمات تبدأ بفتنة الحياة، وفتنة الممات عند الغرغرة، وفتنة القبر، وفتنة ما قبل الشفاعة لصاحب المقام المحمود عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وفتنة الحساب وموافاة الرب الكريم شديد العقاب بسجل الأعمال.. والهول الهول الهول بعد ذلك لمن خَفَّت موازِينه.. فإن شكُّوا في ذلك فهم يعلمون أكثر من علمهم أن 2+2= 4 أن الحياة الدنيا متاع الغرور لو عُمِّر أحدهم ألف سنة لكان عند الاحتضار في حسبان يوم واحد؛ وإذن فالعمر الأبدي هو ما بعد اللحد من خير أو شر.. وبعض قليلي اوعي وقاصري النظر يقول: (يستمع لهؤلاء خمسة ملايين صوت).

قال أبو عبدالرحمن: ثم ماذا، وما قَدْر خمسة ملايين صوت (إن صح ذلك) بين ثلاثة أرباع العالم التي هي حرب على هويتنا؟!.. ولكن جمهور أمتنا في رقعتنا من سواد الأمة، وأعيان البلدان، وشيوخ البادية الأخيار: يبصقون على هذه الأصوات المبحوحة، ويُغرقون الضب في جحره إذا أصبح (الوازع العِقابي) من الدولة والأمة هو الخيار الوحيد.. ولست أزعم أن القيادة وذوي المسؤولية مستغنون عن النصيحة لقصورٍ أو تقصير، ولكنْ لذلك ضوابط من المحبة، والمشاركة في الآلام والآمال، والتفريق بين النصيحة والفضيحة، ونشدان الكمال في واقعنا بغير افتراء عليه.. إن مثقفي جيلنا وعلماءهم - الذين هم القدوة - يعلمون أن من أبجديات (مركز راند) الإشاعةَ بالباطل، والتأويلَ الكاذب لما هو واقع كريم مثلَ إشاعتهم بالحق وبالباطل عن فساد الأصوليين والمحافظين، وتضخيم عيوبهم؛ حتى لا يكونوا قدوة!!.. ومن نماذج ذلك تضخيم حادثة حريق إسكان البنات بمكة المكرمة؛ ليكون برهاناً على وحشيتهم.. وضربوا مثالاً آخر وهو الزعم بأن المؤسسة الدينية في السعودية تمنع العُمَّال الأجانب من تلقِّي صورٍ لأطفالهم؛ لأن الإسلام يمنع من ذلك بينما يُزيِّنون مكاتبهم بصور ضخمة.. وهكذا التدليس بدعم الحداثيين والعَلمانيين بنصوص شرعية مُؤَوَّلة أو مبتورة من سياقها.

قال أبو عبدالرحمن: لا يشك أحد من صفوة المثقفين الأخيار - وهم يُعايشون كل حدث في مملكتهم، ويحيطون بتعاسة من اختُرِقَت وحدتهم وهويتهم من الدول الشقيقة -: أن هذا امتداد كائد يستهدف اختراق وحدتنا وأمننا وهويتنا؛ فحق عليهم أن يكون يداً واحدة مع علمائهم بصدقٍ مع النفس، وبشجاعة في الفكر لا تخرق الصف؛ فيدنا بغير الله ثم بهم قصيرة.

قال أبو عبدالرحمن: والمسلمون يرجون خيراً من (أردغان) لما يستشعرونه عنده من طموح مقهور لم تقم به بعد حكومة إسلامية؛ لهذا أتساءل عن باعث ذلك التجنِّي عند ذي المقارنة الجائرة بين دولته وأردغان؟.. لماذا لم يكن الملك الصالح (مَن حصلت له البيعة الشرعية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من آل سعود؟؟).. ولماذا لا يكون الملك الصالح والأمة الصالحة مَن لم يكن دينها جزءاً من الدستور، وإنما دستورُها دينُها، وكل تنظيمٍ من المصالح المرسلة فهو موادّ من الدين بشهادةٍ من براهينه.. بل أنكى من ذلك ما أسمعه من بعض أحبابي من طلبة العلم الشرعي (الذين أثق بهم) عن سوءِ ظنهم بالدستور وبمحمد مرسي، وأنه في دور الـحَراك الإخواني الذي جَرَّبوا فتنته بمكايد التأسلم السياسي، وهو تأسلم يستبيح كل غاية غير شريفة من أجل الهيمنة باسم إنشاء (خلافة إسلامية)، وذلك شعار بَرَّاق يُخفي وراءه مُغَيَّباتٍ أيديولوجيةً، ومطامعَ نفعية تحليلية؛ وبما أن العدل حبيب الله فقد اقتنيتُ الدستور كاملاً وقرأته مادةً مادةً؛ فوجدت ما يثلج الصدر ولا سيما في المادة الثانية، والمادة التاسعة عشرة ومئتين بالتنصيص على أهل السنة والجماعة؛ فمحمد مرسي بذلك يكسر عدوان التأسلم السياسي، ويطرح الدستور للشعب المصري كافة الذي أظهر طرحُه حنينَ كافة الشعب المصري (المنتسب إلى القبلة) إلى هُوِيَّته التاريخية التي ظل يكافح دونها طيلة العقود التي يتأرجح فيها شعب مُتَدَيِّن بأزهره ومنائره ومنابره - في صعود وهبوط - بين ألاعيب السياسة ومكايد الشعارات، وسأتناول هذا بتفصيل أكثر إن شاء الله، وحسبي ههنا أن خبايا أدلجة (الخلافة الإسلامية) لا تُخيفنا، ولا تُفْضي إلى تنازلنا عن المكاسب التي ستحقِّقها مصر بجبهتها القوية سنداً للجبهة التاريخية الصامدة في المملكة.. ألا ترون أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله تعالى هو العين المبصرة عند انفصام الحلف العربي الذي اصطنعته دول الحلفاء، وحصلت التجزئة والاستعمار المباشر؛ ولأصالة عروبته وعروبة شعبه، ولما حَقَّقه من وِحدة، ولِـما لوطنه وشعبه ودولته من خصِّيصة الهوية التاريخية الصافية: طُرح عليه أكثر من مرة أن يكون (خليفة المسلمين) فأبى بحجة قاهرة؛ لأن وضع الأمة الإسلامية والعربية بعد ضياع القرون، وضعف الكوادر البشرية، وفداحة الموروث الخرافي بعد ضعف الدولة العثمانية، وقبل ذلك مما فرضته الدويلاالحاكمة كالدولة الفاطمية القرمطية.. ولكنه رحمه الله رحَّب بقيادات خيِّرة تقود شعوبها على هويتها التاريخية، ولم يغب عن باله التلاحم بين الدول الشقيقة؛ فصرف جهده إلى استحياء جامعة إسلامية؛ فغلبته الظروف المؤلمة، ونفوذُ الأغيار؛ فصرف جهده إلى جهتين: أولاهما استحياء عناصر الجامعة الإسلامية بالتدريج ابتداءً بموسم الحج الذي جعله نواةً للجامعة الإسلامية.. وأخراهما مباركته الجامعة العربية بشرطها الإسلامي، وأن تكون الجلسات المقفلة شاملةً كل فتى عربي له حق المواطنة المضمونة شرعاً ونظاماً دولياً للأقليات.. وبشرط أن تكون الجلسات الأخرى المقفلة جزئية تقتصر على مَن نأتمنه على عروبتنا ووطننا بالشرط الإسلامي؛ ولهذا كانت الجلسات المقفلة الثنائية والثلاثية والرباعية.. إلخ مع الأشقاء: هي الضرورة الحتمية، وقد أحكم هذا المنهج الملك فيصل رحمه الله تعالى الذي أراد لأمته في فلسطين الحِوار من منطق القوة في أحداث عام 1973م، ولكنَّ الـمُؤتَمَن خان، والمناصِرَ في شتات، والأغيارَ المتكالبين في منتهى خُبثِ الذكاء، وبلوغِ التأثير بقوة مادية وتضليل إعلامي.. والله غالب على أمر عباده بعدله وعلمه وحكمته، وإحسانه.. ورحمتُه تسبق غضبه؛ فهو ملاذنا وبه نعتصم مهما احلولكت المصائب.. وأعود إلى الدستور المصري وألتمس واقعه بين مضمون الشعارات ومضمون المعايير؛ فأكتفي بشعار الحرية؛ فأجد حرية الأكثرية أهل الهُوِيَّة وطناً ولغة وديانة، والحرية ههنا في المادة الثانية بهذا النص الصريح (الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع)، ولم يجعل الدستورُ المادةَ عائمة، بل جاء التفصيل في المادة تسع عشرة ومئتين بهذا النص الصريح (مبادئ الشريعة الإسلامية أدلتها الكُلِّية [تعني مقاصد الشريعة، وما لا يؤخذ إلا من نصوص مجتمعة، وما هو قطعي الثبوت والدلالة؛ فهو كلي لا محيد عنه]، وقواعدها الأصولية [قواعد الفقه، وتأصيل المعرفة الشرعية ثبوتاً ودلالة]، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة).

قال أبو عبدالرحمن: المصدرية ههنا مصدريةُ اجتهاد فيما يسع فيه الاختلاف، لأن المادة الثانية نصَّت على أن (الإسلام دين الدولة)، فالإسلام هو المصدر لا أهواء البشر؛ فبمنطوق الشعار فالحرية للجمهور أهل الهوية، وبمنطق البرهان الذي هو العدل المشتَقُّ من القيم الثلاث فلا معنى لنقيض ذلك إلا الظلم، والنظام الدولي نصّْـاً لا سلوكاً خائناً ينادي به في كل وسائل الإعلام وفي كل تجمُّعات الحوار السياسي.. وكفل الدستور الحريات الأخرى المعيارية؛ فإلى لقاء عاجل، والله المستعان.

هذه هُوِيَّتنا: (1 - 3)
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة