ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 11/01/2013 Issue 14715 14715 الجمعة 29 صفر 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

يا إلهي.. اعتقالات مريبة، وسجون من جهنم، وبراميل من المتفجرات تلقى على طابور أطفال أمام مخبز، ياربي رحماك.. طائرات عاتية تقصف البيوت وتهدم على رؤوس ساكنيها من الأطفال والنساء والعجزة في صورة لم يفعلها نيرون ولا هتلر ولا ستالين ولا موسليني ولا طغاة العرب الذين مروا بثقافتنا التي نفاخر بها الأمم ولم ترتكبها الجيوش الغازية

.. التي اكتسحت هذا الشرق ولم تقترفها مرتزقة هولاكو ولا جواسيس نابليون... شيء مذهل لا يصدقه التاريخ لولا أننا كنا شهداءه في هذه الحقبة التاريخية المظلمة إنسانيا...

يقولون إن مقياس حضارة أي دولة هو طريقة معاملتها لمساجينها المذنبين، فكيف بمعاملتها لشعبها البريء والمغلوب على أمره، ولست أدري في هذا الجو المفعم بالموت والاعتقال والمخيمات وطوابير الهجرة في هذا الزمهرير، وبراميل البارود لماذا تأبطت كتب محمود السعدني أياما وكان قدري المؤلم أن يحتفل العالم بعامه الميلادي الجديد وأنا أعيش أصعب اللحظات الإنسانية مع الولد الشقي (محمود السعدني) الكاتب العملاق وهو يصرخ من خلال عبارة ربما كانت هي النقطة الحرجة لأقسى صرخة من مسجون ومثقف ومواطن على مر التاريخ الإنساني والتي وصلها الوجع بروح الولد الشقي بعدما حكى قصة اعتقال ولعة المكوجي في مصر وقصة اعتقال ثلاثة من الجيش الإيرلندي في بريطانيا فقال: «ملعون أبو المدينة، ملعون أبو السياسة، وملعون أي نظام يأخذ الناس بالشبهات ويسجنهم بدون حكم من القاضي.. حظنا المهبب أننا ولدنا في العالم الثالث بعد المائة. لا يوجد في أوروبا مثلا مواطن مسجون لأنه ضد سياسة تاتشر أو لأن وجهة نظره تختلف عن وجهة نظر ميتران، لأن هناك كل مواطن له رأي، وكل صاحب رأي محترم حتى لو كان رأيه يخالف رأي الحكومة. ولكن ما العمل والميلاد نفسه قسمة ونصيب؟.. وإذا كانت فرنسا ليست مسقط الرأس فالحمد لله على كل حال لأننا ولدنا في القاهرة ولا أحد يدري ماذا كان يمكن أن يحدث لو كانت زائير هي مسقط الرأس أو شيلي أو بيرو أو كمبوديا..». ولم يقتصر في صرخته على سجانيه وسجنه بل أطلق أقسى صرخة أيضا من فم الحرية من حنجرة أب موجوع على ابنته المريضة هالة المقعدة التي مرضت أثناء اعتقاله في سجن الواحات، يقول السعدني بعد خروجه المضحك من السجن في كتابه الطريق إلى زمش: «وعندما عدت إلى القاهرة اكتشفت أن الحصول على هذا المبلغ دونه قطع الرقاب، وكتبت مقالا في روز اليوسف بعنوان (عبقري للبيع) وأبديت استعدادي لبيع نفسي لأي راغب في الشراء مقابل ألف جنيه أعالج بها هالة، وقلت في المقال إن البضاعة حاضرة والتسليم على الفور واستعرضت مواهبي وقلت أنا أستطيع أن أرقص وأغني وأطبخ أيضا وأكتب أحيانا واتشقلب وأعمل عجين الفلاحة مقابل الألف جنيه».

يامحمود يابن غطوطة، والمسافر بلا متاع، يا أيها الولد الشقي الذي مات مهاجراً ومشرداً ومطارداً ومنفياً ووطنياً حد النخاع وعروبياً بشكل متعصب لا يمكن للجزائريين الشرفاء أن ينسوا دخولك إلى جانبهم محارباً وصحفياً تنقل أجواء النضال والتحرير إلى الشعوب العربية والعالم آنذاك ولا يمكن لهم أن ينسوا تضحياتك في سبيل قضية العرب آنذاك (تحرير الجزائر) وبعد التحرير أيضاً لا يمكن للشرفاء في كل أنحاء العالم أن ينسوا الحالة التي تعقبوك بها في المطار قبل المغادرة وغصة الألم التي تجرعتها حينما تم دعوة الجميع إلا أنت، وتم الاحتفال برموز لم تشارك في الثورة الجزائرية وتم إقصاء من تحقق على يديهم النصر والجلاء، والكارثة يا محمود أن العذاب والتعذيب والجوع والتجويع في زمانكم كان للنخب ممن لم يتفقوا سياسياً مع خصومهم المتنفذين، أما اليوم فالقتل وقطع الرؤوس عم الشعوب بأسرها في سوريا ومصر وليبيا وتونس واليمن من بلاد الثورات وأصبحت الأطراف اليوم تتخندق وتتسلح وتهرس اللحم وتجرش العظام وتستخدم كل مفردات قاموس الهجاء ضد بعضها بشكل لا يتفق مع السجال السياسي الشريف.

يا محمود ماذا لوعشت إلى زمننا هذا ورأيت بأم عينيك كارثة الإنسان العربي الحقيقية في الطفل العربي والشيخ الحزين والشاعر مقطوع اللسان وألف هالة مقعدة وألف هالة يتيمة وألف هالة جائعة وربما مصابة في مؤخرة رأسها ف، ياترى بأي لغة ساخرة ستدون هذه الحالة العصيبة التي ستبدأها في الرقص حنجلة ثم تكتب بلغة ساخرة حتى تبكي من شدة الإعياء والقدر المؤلم، وربما عممت أهداف الحزب الذي أسسته في السجن حزب (زمش) احتجاجا على الأوضاع المقرفة وكان اسم (زمش) اختصارا لعبارة (زي مانت شايف) التي فسرتها للضابط آنذاك فمات من الضحك، ماذا تقول والعالم يتقدم في المدنية ومؤسساتها الإنسانية وتلك الحكومات العربية تقتل شعوبها بهذا الشكل المدمر في طريقة وحشية ما مرت على بشر من قبل، وماذا كنت تسميها، وأي اسم يليق بها أشد تصويراً للواقع من لقب عكومة الذي أطلقته ذات يوم بعدما رأيت إنسانية الحكومة البريطانية ورأيت عدل القضاء البريطاني فقلت عندهم حكومة وعندنا في مصر عكومة، لأن ما تقترفه الحكومات الحالية في تلك البلاد لم يكن إنسانيا ولا منطقيا ولا مسوغا بل إنه مقزز وأشد نكاية وقرفا وأقسى قشعريرة مما كتبه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو عن تعذيب المسيو دميان حينما ربطت أطراف دميان بعدة خيول كانت تمزق جسده تحت رعاية طبية، للحرص على إبقائه حياً لأن الموت يحرره من الألم. في صورة متناقضة مع بكاء الرئيس أوباما وهو ينعى للشعب الأمريكي الضحايا أطفال تلك المذبحة التي قام بها أحد الشواذ والمرضى النفسيين.

يامحمود، سقى الله قبرك شآبيب الرحمة، فلا الثوار يحملون شرف التغيير للأصلح ولا الثورة التي تأكل أبناءها ستحول الواقع إلى بيلارس الأسطورية حيث لا جوع ولا حرمان ولا ظلم، فلا الفقير المعدم رأى الرغيف، ولا المسجون تحرّر من سجانيه، ولا المظلوم أنصفته العدالة الموعودة، وتحولت رواية ثالوث الرغيف والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات، إلى مسرحيات من البطالة والانتحار واليأس، أحزاب أشغلتنا بشعاراتها العروبية التي لم يكن لهم نصيب من مبادئها وقيمها، وقضايا خاسرة وحروب مهزومة وحال تشكى لله وحده، رؤساء مروا على هذه الأمة يحملون في بداياتهم الهم المشترك والمستقبل المشرق وبمجرد التمكن يتحولون إلى وحوش أشرس، ولا أدل على ذلك من صاحبك القذافي حينما رفض في بدايات ثورته ألقاب رئاسة الجمهورية في مؤتمر المغرب ثم أصبح يفكر بالجماهيرية وحكم إفريقيا بدل الجمهورية وليبيا وبلقب ملك ملوك إفريقيا في آخر حياته..

يا محمود، من المُحزن أن يستمر مثل هذا التثقيف السياسي الفاشل والتجهيل الثقافي الممنهج السخيف لأننا في النهاية على يديه موعودون جميعاً نحن وهو بأمِّيات عدة وليس أمِيَّةً واحدة يصعب بلعها ويستحيل حلها؛ فالبعث لم يعد بعثا والإخوان لم يعودوا إخواناً وتلخيص واقعنا المريض لا يكمن في ظاهرة بشار والقذافي وحدهما بل إنه يتسرطن بثقافة البعد الواحد والحزب الواحد والرجل الواحد ووجهة النظر الواحدة وهذا الذي حولنا إلى أشبه بالمجانين كما قال واحد من أبرز الفلاسفة والمناطقة والرياضيات في عصرنا وهو (برتراند رسل) عندما توقف ذات يوم أمام حلقة من تلامذته وقال لهم: (إذا اقْتَصرْنا على الأرقام وحدها فَنَحن أشْبه بالمجانين، لأننا عندما نقول عشرة أو مئة أو مليون بشكل مُجرّد لا نعرف عمَّ نتحدث، عن بشر أم شجر أم حجر أم نُجوم؟) وبعدها خرج ليقود مظاهرة في لندن ضد الظلم والاستعباد والتسلح النّووي الذي يُنْذِر بتدمير هذا الكون... والله من وراء القصد

abnthani@hotmail.com

(زي مانت شايف... يا محمود!!)
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة