ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 11/01/2013 Issue 14715 14715 الجمعة 29 صفر 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

إنّ من دواعي التفكر والتذكر، والاستجابة لأمر الله سبحانه، تبصر الإنسان في النفس البشرية، كيف كانت وما الأطوار التي مرت بها، والتي يعتبرها الدارسون لخصائصها وانفعالاتها من عجائب قدرة الله سبحانه الخالق على وجه الأرض، وتبرز من عظمة الخالق وقدرة المبدع سبحانه في

إحكام أطوار النشأة، والمراحل التي تمر من لا شيء ثم بدء النشأة إلى أن تكتمل بشراً سوياً، وهي قدرة الله وحكمته البالغة في جميع الكائنات الحية على وجه الأرض. هذه النشأة تختلف عن نظرية دارون الملحد “النشوء والتطور” الذي حول فيه الإنسان إلى فصيلة القرود وأعرض عن الوصف من قدرته وخَلقِه، حيث كرَّم الله بني آدم منذ خلقهم في صُلب أبيهم آدم الذي خلقه الله بيده، وأمر ملائكته بالسجود له {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، فقد خلق فسوى، وقدر فهدى.

إذ أدق أسرار خلق الإنسان تبرز في حِكمة الصنع، وكمال التناسق، وجمال الصورة، فجعله سبحانه في أحسن تقويم، وهذا يدعو لشكر الله والتمعن في الأصل، والمادة التي خلق منها، ثم يربط ذلك الإنسان بشكر الله على نعمه وقدرته وحكمته، وكمال إحاطته بكل شيء، يصلح أحواله في حياته الدنيا، ليتفرغ لعبادة ربه وشكره وذكره على ما أولاه من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، فهو سبحانه يعطي الكثير ولا يطلب من عباده إلا القليل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.

جاء في الحديث القدسي: “إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”، وهو حديث تبرز فيه - مع طوله - نعمة الله على عباده، وفي مقدمتها أن خلق الإنسان من ضعفٍ، وتطورت نشأته حتى صار بشراً سوياً، فهو سبحانه قادر على إيجاد الإنسان من العدم، ومن غير أي أصل معروف لدينا؛ فلا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ولا في البحار، وهو السميع البصير.

لكن إرادة الله اقتضت أن يخلق آدم (أبو البشر) الذين أسكنهم الأرض بعدما أفسد فيها الجن، فخلقه من صلصال، وهو الطين اليابس كما قال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{26} وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ{27} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ{29} فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ{30} إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{31} قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{32} قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (سورة الحجر 26 - 33 .

فكان أول عداء بين بني آدم وإبليس وأعوانه - أعاذنا الله من شرورهم وأحابيلهم - فهذه الآيات وغيرها مما جاء في كتاب الله، وأبان فيها تطور خلق الإنسان، متعددة في القرآن، ليدرك الإنسان أصله ومنشأه، والمهمة التي خلقه الله لها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} (الذاريات 56 -57).

هذه الآيات وغيرها مما ورد نصه في كتاب الله، وما أخبر عنه رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - تنبئ عن سر التكوين في آدم أبي البشر، وسر إيجاد النفس البشرية، لإعمار الأرض، وأن البشر خُلقوا من الأرض، التي على ظهرها يعيش، وفي أرجائها يجول، ومن كل ما هيأ الله على ظهرها لطلب الرزق، ليشرب مما هيأه الله له في مائها، ويقتات من نمائها، وإذا أذن الله لعمره أن ينتهي دُفن في جوفها، فعاد تراباً كما بدأ، حتى يبعث منها مرة أخرى للجزاء والحساب كما قال سبحانه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه 55).

وقد اختلف العلماء في معنى صلصال فمنهم من قال إنه الطين المنتن مأخوذ من قولهم: صلّ اللحم وأصلّ إذا أنتن، قال ابن جرير في تفسيره، والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع: الطين اليابس، الذي لم تصبه النار، فإذا نقرته صلّ، فسمعت له صوتاً، أي صلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر، فقال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرحمن 14) فشبهه تعالى بأنه كالفخار في يبسه، ولو كان في ذلك المنتن لم يشبهه بالفخار؛ لأن الفخار ليس بمنتن فيشبه به في النتن غيره.

والمستقرئ لكتاب الله - جل وعلا - يرى اهتماماً كبيراً بأصل الإنسان ونشأته وتكوينه، لكي يُعمِل فكره في أصله الضعيف، ويزداد خضوعاً لله سبحانه، فلا يتكبر ويتعاظم في نفسه، ليزداد خضوعاً لله سبحانه؛ لأن من تواضع لله رفعه، والتواصل بين الناس والتواضع من العبادة.

ولا تعارض بين الآيات التي أبانت أن الإنسان خُلق من تراب، وأنه خلق من طين، وأنه خلق من حمأ مسنون، وبين ما جاء هنا بأنه خلق من صلصال، فإن هذه أطوار الخلقة الطينية كما قال بذلك المفسرون، ثم بعدها التسوية ونفخ الروح.

يقول الشيخ محمد السيد الطنطاوي في تفسيره الوسيط عندما مرّ بهذه الآيات الكريمات: والذي يتدبر القرآن الكريم يرى أن الله سبحانه وتعالى قد وضح في الآيات المتعددة أطوار خلق آدم عليه الصلاة والسلام، فقد بين في بعض الآيات أنه خلقه من تراب كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (آل عمران 59)، ويرى في آيات أخرى أنه سبحانه خلقه من طين كما في قوله سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} (السجدة 7).

ويرى هنا أنه سبحانه خلقه من صلصال من حمأ مسنون، قال الجمل: وهذا الطور آخر الأطوار الطينية لآدم، وأول ابتدائه: أنه كان تراباً متفرق الأجزاء، ثم بُلّ أيْ التراب فصار طيناً، ثم تُرِك حتى أنتن واسود فصار حمأ مسنوناً، أيْ متغيراً، ثم يبس فصار صلصالاً.

وعلى هذه الأحوال والأطوار تتخرج الآيات الواردة في أطواره الطينية كآية خلقه من تراب، وآية خلقه من طين، وهذه الآيات التي نحن فيها.

والمقصود من هذه الآيات الكريمة التنبيه على عظيم صنع الله تعالى وعظيم قدرته؛ حيث أخرج سبحانه من هذه المواد بشراً سوياً في أحسن تقويم (تفسيره الوسيط 8: 43-44).

هذه في النشأة الأولى للبشر بداية بأبيهم آدم عليه السلام، لكن الله سبحانه مثلما بين هذه النشأة وتطورها فقد بيّن - جل وعلا - أطوار خلق الإنسان بعدما تكاثر نسل آدم، وتفرقوا في أرض الله شعوباً وقبائل، فيقول سبحانه في سورة المؤمنون جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ{12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ{13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ{14} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ{15} ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون الآيات 12-16 .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} يقول: خرج من بطن أمه بعدما خُلق فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دله على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن عُلِّم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه إلى أن مشى إلى أن فُطم وتعلم كيف يشرب ويأكل الطعام إلى آخر نشأته.

وجاء في حديث ابن مسعود الذي رواه الشيخان مرفوعاً: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم يُرسل إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات، يكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح”. واستدل العلماء بهذا على أنه لا يتحرك في البطن إلا ببداية الشهر الخامس.

ولقد كان خلق آدم من تراب متفرقاً من الأرض، وكل إنسان من ذريته يميته الله في الأرض التي خُلق منها أصله، يقول سبحانه: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . وفي هذا تُروى حكاية عن النبي سليمان أن ملك الموت جاءه يوماً والملك يستأذن على الأنبياء، ويسلم عليهم، فقال له نبي الله سليمان:

هل أُمِرت بقبض روحي؟ قال: لا وإنما بقبض رجلٍ عندك في أرض العرب هذه الساعة، ولكن في أرض الصين، فتعجب سليمان عليه السلام، وفي لمح البصر جاء ذلك الرجل مستعجلاً ليطلب من سليمان أن يسخِّر له الريح لنقله لبلاد الصين، فكان أجله فيها منذ وصل. فسبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى، وهو سبحانه القائل: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان 34).

mshuwaier@hotmail.com

أطوار خِلْقة الإنسان
د.محمد بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة