ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 24/01/2013 Issue 14728 14728 الخميس 12 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الثقافية

في البحث عن القرية المفقودة: بين أغاني الحيرة والبراءة
دراسة في شخصية القرية عند عاطف عبيد ويوسف إدريس (1)
عصام حجازي

رجوع

تقدم هذه الدِّراسة تحليلاً لصورة القرية المصريَّة وزواياها المختلفة كما تناولها اثنان من كاتبي القصَّة القصيرة في مصر والعالم العربي وأول هذان الكاتبان هو المبدع يوسف إدريس الذي عرف بأنَّه أمير القصَّة القصيرة في مصر، أما الثاني فهو الكاتب الشاب عاطف عبيد الذي أصدر حتَّى الآن ثلاث مجموعات قصصية هما خوفو يشهر إسلامه 2001 ومجموعة سماوي 2010 والسيدة واو 2012.

وفي البداية أحبَّ أن أنوّه أن ما دعاني للتوَّقف عند هذين الكاتبين تحديدًا هو تأثرهما الشديد بحياة القرية الذي بدا طاغيًا أو dominant - حسبما يقول رومان جاكوبسون في نظريته النقديَّة - في أعمالهما القصصية. فالقرية في أدب يوسف إدريس وعاطف عبيد لا تمثِّل مكانًا فحسب بل رؤية للوطن فهي في أدبهما تعني كما قال جمال حمدان عنها في شخصيَّة مصر «أن القرية هي خلية مصر، خلية أولية تمثِّل امتدادًا تشكيليًّا وتكعيبيًا للأرض... فجسمها وأرضيتها من تربة مصر مباشرة، والكلُّ مرتبط تمامًا بالبيئة الأم ويستمد تجانسه من تجانسها» (الجزء الثاني صـ224). وسوف أخصص الجزء الأول من هذا التحليل لشخصيَّة القرية في أعمال القاص عاطف عبيد، أما الجزء الثاني فسيتناول ملامح القرية في أدب يوسف إدريس، ثمَّ يَتَعرَّض للمقارنة بين شخصيَّة القرية وسماتها كما تناولها كلا الكاتبين على الرغم من اختلاف العصور التي عايشها الأديبان فأخر مجموعات يوسف إدريس القصصية صدرت عام 1981 بينما صدرت أول مجموعات عاطف عبيد عام 2001 ومن هنا يتيسَّر على الباحث أن يرصد التطوُّرات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي انعكست على القرية المصريَّة في الربع قرن الأخير.

الجانب الاجتماعي

في قصته المعنونة «رجل وعشرة حمير» يَتَعرَّض عاطف عبيد إلى إحدى القضايا المفصلية في حياة القرية وهي «قضية الثرثرة المجتمعية» من جانب المجتمع و»انسداد الأفق» من جانب الفرد. فحسبما يوحي عنوان القصَّة أن البطل الرئيس «جابر» هو المعادل الموضوعي للعشرة حمير. فهو في القدرة على العمل، ذو طبيعة جبارة في التحليل وفي بذل الجهد كما يتمتع بعقلية متحجرة تنافس في قدرتها على الفهم قبيلة من الحمير. وفي عُجَالةٍ نعرض بعض الإضاءات التي قد تساعد على فهم مجتمع القرية كما صوره عاطف عبيد. تتحدَّث «رجل وعشرة حمير» عن جابر الذي ذهب لخطبة ابنة خاله بدرية وبينما هم جلوس مع والد بدرية، قطع جابر الحديث ليعرض مساعدته في نقل «سباخ الزريبة» كما طلب من خالة أن يجهز عشرة حمير لكي تحمل مخلفات الزريبة إلى الحقل، ثمَّ يأتي موعد زفاف جابر على بدرية التي تكتشف أن جابر غير قادر على التَّعامل معها في ليلة الدخلة مما يستدعي الأهل أن يستعينوا بالشيخ عثمان، أحد الشيوخ الذين يتباهون بمعرفة أسرار القرية، الذي يساعد جابر على أداء مهمَّته في الليلة الثانية لزواجه. ولكن لسبب ما لا يفصح عنه كاتب القصة، يسرع جابر بقتل الشيخ عثمان ويضع نهاية للقصة.

وتبدو القصة في مستواها العام بسيطة إلا أنَّها البساطة التي تخفي الكثير من التعقيد. فإذا قمنا بتجريد النموذج الكامن خلف الصُّور المجازية التي استخدمها الكاتب وهذا هو منهجنا في قراءة النص أو كما يسمى بالإنجليزية close reading أو explication، كان بوسعنا أن نفهم الصورة الكامنة للقرية في فكر عاطف عبيد.

وكما يوحي العنوان فالرَّجل بات معطوفًا على «عشرة حمير» وتلك هي صورة القروي أو إن شئنا المواطن باعتبار القرية تجسيدًا للوطن. فالقروي (المواطن) المصري يمثِّل طاقة جبارة يمكنها أن تدهش الآخرين إلا أنَّها تدور في إطار من التحجُّر وضيق الأفق يجعلها ترتد وبالاً على صاحبها فتلقيه في غياهب السجون أو تجعله طريدًا أو هاربًا للمجهول.

كما يمكن أن تقرأ دلالة قدرة جابر على العمل الشاق كإشارة غير مباشرة لتاريخ المصريين في العمل المضني غير المدفوع أو ما سمي «بالسخرة». فالمصريون عبر تاريخهم كثيرًا ما عرفوا بالمنتجات الحضارية المبدعة التي شيّدت في عصور السخرة والاستغلال وتظل الحقب الفرعونية (الأهرامات نموذجًا) والحديثة (قناة السويس نموذجًا) شاهدًا على الإمكانات الجبارة لهؤلاء القرويين المواطنين -المصريين- الحمير.

وعلى جانب المجتمع، نرى قضية الثرثرة المجتمعية هي أحد الدوافع المحركة للفعل الصادم في نهاية القصَّة وهو جريمة قتل الشيخ عثمان. فخوف جابر من الفضيحة - وحرصه على أن يخرس الألسنة التي قد تتندر عليه في مجتمع القرية الصَّغير الذي يعد بيئة خصبة لانتشار الأقاويل حيث تُعدُّ قيم النميمة والفضول والتشفي من أركان النظام العام في القرية- دفعه إلى قتل الشيخ عثمان الذي عاونه على الخروج من محنته مع عروسه.

وهنا نستطيع أن نقرأ إدانة الكاتب لتلك السِّلوكيّات المستهجنة والممجوجة في المجتمع القروي، أن جريمة القتل التي انتهت بها القصَّة هي جريمة ارتكبها كل أبناء القرية وليس جابر، فجابر هو الفاعل وهو القاتل لكن المجتمع هو المحرض وهو الذي لعب برأس جابر ليتخلص من الشيخ عثمان، وحتى الشيخ عثمان هو أحد المشاركين في المؤامرة على قتل نفسه، فلأنه ينتمي للمجتمع القروي ويتطبع بنفس طباعه، نجد الشيخ عثمان محبًا للثرثرة والنميمة فيأتي عند أحد المتاجر بالقرية (وتعد تلك الأماكن في القرية هي أماكن التسكع ومواطن من يحب أن يسترق أخبار القرية) « وقد أقسم مرة أمام دكان موسى في شارع الدكاكين الصَّغيرة ناحية السوق، أنّه لو كسر أحد رأسه لوجدها كلّّها أسرار تقوم لها القيامة ومرة أخرى نجد شخصيَّة القرية تجسيدًا للوطن، وأنّه لا اختلاف بين القرية والوطن فالعلاقة بينهما علاقة الجزء بالكلُّ وهي علاقة الجزء المجسد للكل، فتفشي ظاهرة النميمة والثرثرة الفارغة والنِّفاق في المجتمع المصري ليست بغريبة على أحد بل يمكن ملاحظتها بسهولة في مختلف أرجاء الوطن بدءاً من الصحافة المقروءة إلى برامج الفضائيات وعربات الأجرة (التاكسي) وقد أشارت إحدى الدِّراسات إلى «غياب الذات الجمعية» في المجتمع المصري الحديث والمقصود بالذات الجمعية هو وجود «روح عامة أو إرادة عامة أو إجماع عام يؤكِّد بأن الرابطة التي تجمَّع المجتمع المصري هي رابطة عضوية تجعل الأفراد يدركون بعضهم بعْضًا على نحو أفضل» ومن هنا يمكن أن نقرأ في دواخل النص مؤشرات تُؤكِّد أو تتنبأ بوجود أزمات في المجتمع مثل أسبقية المصلحة الفردية على المجتمع وانعدام الثِّقة وتفشي الغموض.

ونستطيع أن نقرأ في حادثة قتل الشيخ عثمان تحذيرًا للمجتمع من انتشار العنف وسفك الدِّماء ثمنًا لغباء المجتمع وانغلاقه. فالحِّمار الجاني هو الحِّمار الضحية وبقية الحمير تشاهد في صمت وبلاهة حتَّى يأتي دورها، ففي ظلِّ انتشار القيم السلبية للمجتمع وفي ظلِّ تحَجَّر المجتمع - الحمير أمام تلك المتغيِّرات، يدور الجميع في دائرة مفرغة حيث يصبح فيها الضحية جانيًا والجاني ضحية وتقتل الحمير بعضها البعْض لأنّها عاجزة عن أعمال العقل وإتاحة الفرصة للإبداع الذي يعد المخرج الوحيد من تلك الدائرة المستغلقة.

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة