ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 24/01/2013 Issue 14728 14728 الخميس 12 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

وجهات نظر

عبارة يستخدمها الإعلاميون كثيراً تقول بأن القذافي مصابٌ بجنون العظمة، وللمعلومية فإن عبارة - جنون العظمة - ليست مصطلحاً نفسياً معتبراً بقدر ما تكون وصفاً مخترعاً من قِبل الإعلاميين، فليس هنالك اضطراب مدرج في قائمة الاضطرابات النفسية يُسمى جنون العظمة.

وشخصية القذافي النفسية تتلخص في معادلة بسيطة لك أن تسميها متلازمة معمر: وهي نرجسية عالية وغرور وتعالٍ يساعده في تحقيقها سكوباثية (عدوانية) عالية وطغيان شرس.

وشخصية القذافي وصلت للحد الأعلى من النرجسية والسيكوباثية لحد ربما تدفع بذهنه أحياناً لبعث أوهام زائفة عن علو ذاته بين البشر، ولقد نمت شخصية القذافي على هذا النحو عبر طفولته وتطورت عبر مراحل، فمع كل مرحلة يُحقق فيها إشباعاً للنرجسية يتضاعف لديه منسوبها حتى تمخضت لهذا الحد.

وإذا أتينا على خاصية نرجسية القذافي، فهنالك من الشواهد الشيء الكثير: يقول معمر عن نفسه: «أنا عميد العرب.. أنا ملك إفريقيا.. أنا صاحب النظرية العالمية الثالثة، أنا المناضل... لكن.. من أنتم، من أنتم»؟.. تجده أيضاً لا يُسمي ليبيا إلا بالدولة العظمى على اعتبار أنها تُضاهي مصاف الدول العظمى لأنه هو حاكمها، كذلك يرى أن ثورة الفاتح من سبتمبر «المجيدة» تُمثّل أهم نقلة في تاريخ البشرية.

ومشكلة النرجسي تعود لأنه لا يمتلك الحس الإنساني السوي الذي يجعله يشعر بعاطفة حب الآخر والشفقة عليه، فكل طاقته للحب والعطف منصبَّة على ذاته، وليس هنالك أدنى ذرة من حب وعطف يبعثها للآخر بما في ذلك عاطفة الأمومة - الأبوة.

ظهر في حديث عبد السلام جلود الرجل الثاني بعد القذافي يقول: «لاحظت ابن القذافي سيف الإسلام عندما يريد طلباً من أبيه، أنه يُمهد لطلبه بضربة تحية عسكرية لوالده، ولما قلت لسيف القذافي: لماذا تعمل ذلك وأنت في مجلس عائلي مع أبيك، أجاب: إنك تعرف جبروت أبي واستمتاعه بخضوع الآخرين له، فهو لا يُلبي طلباً إلا بهذا الأسلوب».

وأكثر من هذا أن عاطفة النرجسي وعاطفة القذافي على وجه التحديد نحو الأطفال الصغار منعدمة أيضاً، فلا يشعر نحوهم بأي حب فطري سوى جانب من المجاملات الخاوية، وفي هذا يظهر القذافي بهذه الصفة في فيديو مصور مع أطفال أبنائه، فحينما سألَ القذافي حفيده الصغير: هل تحبني، قال ببراءة الأطفال: لا، إني لا أحبك.

وتظهر معالم النرجسي في شعوره بالفخر والاعتداد بنفسه، كما هو حال القذافي لحد الاهتمام بمظهره بشكل مفرط، ولهذا يُعتبر القذافي أكثر حاكم اعتنى بهندامه حتى أطلق عليه بعض الساخرين لقب الفائز بجائزة عارض الأزياء، فلا تخلو مناسبة إلا وتجد القذافي يتمظهر بتقليعة جديدة تشفي مشاعر غروره، إضافة لذلك تجد حرصه الشديد على بث صورته في كل مناسبة وغير مناسبة، فلا تجد حاكماً يستعرض بصوره كما حال القذافي.

ولقد كان القذافي دائماً ما يتمظهر بخلاف ما هو عليه من مشاعر الكبر، كأن يسكن الخيمة ويُسمي نفسه بالأخ القائد، أو العقيد كل ذلك في التحليل النفسي يُمثِّل حيلاً دفاعية يحاول أن يُشعر نفسه قبل أن يُشعر الآخرين بأنه إنسان متواضع وليس بمتغطرس.

وما يجدر ذكره أن التكبر لا يعني النرجسية، فليس كل متكبر هو نرجسي رغم اشتراكهم في صفة التباهي بالمظهر والمخبر، إن الفرق بين من يتظاهر بالكبر ومن هو متكبر كبراً نرجسياً، يرجع إلى أن المتكبر كبراً نرجسياً لا يشعر على الإطلاق بأدنى علامات المهادنة والإذلال، حينما يُهان أو يفضح سره، كما أن نرجسيته مدفوعة بغطاء اللهو وإمتاع الذات، هذا بخلاف من هو متكبر كبراً مظهرياً، حيث يكون دافع نرجسيته هو تضخم الأنا والاعتداد بالنفس.

والشخصية النرجسية شخصية صعبة المراس، وما يجعل التعامل معها أكثر تعقيداً هو عندما تكون درجة العدوانية مفرطة، أو أن السادية بلغت ذروتها كما هو حال القذافي، فالقذافي يُحافظ على مشاعر جبروته الطاغية عبر سادية مفرطة.

إن مشكلة النرجسي لا تقوم على أن مشاعر العطف ميتة فقط بداخله، لأن الميت يلزم أنه كان حياً من قبل ثم مات، وإنما مشكلة النرجسي هي أن مشاعر العطف معدومة في أساسها، فأبسط درجات الرحمة الإنسانية أو حتى الحيوانية الفطرية وهي عاطفة الأم نحو صغارها هي في واقع الأمر غائبة عند النرجسي.

وعليه فإن النرجسي حينما يُوجه له إرشادات وتوجيهات نحو ضرورة الرحمة والشفقة، فهو لا يستشعر بما يُقال، والذي يُحادث النرجسي بأخلاقيات الرحمة والتعاطف والتعاون، فإنه يُحادث شخصاً أصم، لأن البوابة الانفعالية التي تشعره بروح الشفقة منعدمة في أساسها، ولذا لن تصل رسالة الحثّ على الرحمة، فإذا كان مثلاً فاقداً حاسة البصر أو الأعمى يستحيل عليه أن يتخيّل شكل اللون الأحمر مهما أسرفت له في الوصف، كذلك النرجسي لا يُمكنه استشعار مشاعر الرحمة والعطف تجاه الآخرين مهما أحسنت في وعظه، لأن حاسة الرحمة الفطرية تجاه الآخرين مفقودة.

وفي هذا الصدد حاول علماء علم النفس الجنائي إحياء مشاعر شفقة بعض الجناة الساديين الذين بلغ إجرامهم لحد كبير، ففي عرض لفيلم سينمائي يحكي قصة مجرم سادي استخدام صنوف العدوان تجاه الآخرين دون أدنى لوم أو ندم، سواء كانوا نساءً أو أطفالاً أو كباراً، يدخل مثلاً لبيت فيه عجوز مسنّة ثم يضربها ويركلها ويذيقها أصناف العذاب ثم يسرق منها ما شاء أن يسرقه، فهو يستلذ بتعذيبها أكثر مما يستلذ بسرقتها.

ولقد حاول علماء النفس معالجة عدوانيته نفسياً وإدخاله لبرنامج تأديبي عنيف، هدفه بث روح العطف وإيقاظ الضمير، فعرضوا عليه صوراً وأفلاماً إجرامية تُبين مدى ضرر الآخرين، حينما يتعذبون بعذابه دون حق، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أذلوه نفسياً وعاقبوه جسدياً بنفس القدر الذي كان يُؤذي الآخرين به، وكان الهدف ليس المعاقبة بقدر ما هو إيصال رسالة لوجدانه فحواها: أيها المجرم إن الألم الذي تشعر به الآن، يشعر به الآخرون غيرك الذين كنت تُؤذيهم بغير حق، وحاولوا تكثيف كل ما من شأنه إيقاظ شعوره بالذنب، وبعد أن استمروا على هذا البرنامج الإذلالي الإرشادي المُركَّز فترة طويلة، بدأ يترجاهم ويتجاوب معهم ويشعرهم بندمه وتوبته، وتيقنوا أن الرسالة وصلت إليه، وأن مشاعر الذنب قد صحت عنده، وبعدما عُولج من جراحاته أطلقوا سراحه، الغريب أنه بعد مضي شهر أو شهرين على خروجه وجدوه يُمارس نفس السلوك العدواني الذي كان يمارسه من قبل، يعني (ما فيه فايدة).

وما يتعب التعامل مع السادي خصوصاً إذا كان نرجسياً أن إصلاحه أمر مُكلف وصعب أو متعذر، فالنرجسي إذا جاريته في مدحه لنفسه تعالى وتغطرسَ، وإذا حاولت النيْل منه وتأديبه وإذلاله والحدّ من غروره، فسوف تفشل أيضاً فلن يستجيب لك، ولن يتأثر بإرشادك وعقابك، وأكثر من هذا أنك مهما أسرفت في أسلوب التحقير فإنه في قرارة نفسه يتمخطر في برجه العاجي.

فلا أسلوب التهديد والانتقام يردعه، ولا أسلوب الشفقة والرحمة يعدله، إن شفقت عليه تمادى، وإن انتقمت منه تعادى.

والنرجسي لا يُعاني نفسياً بقدر ما يُعاني من يتعامل معه، ولأجل تبسيط كيفية التعامل مع صعوبة هذا الشخص فيُمكن إيجازها في ثلاث كلمات: لا.. للتشفي، لا.. للشفقة، نعم.. للتجاهل.

كما قيل:

لقد أسمعت لو ناديت حياً

ولكن لا حياة لمن تنادي

وقيل أيضاً: «الضرب في الميت حرام».

وبالمناسبة، فلقد أرشدَ النفسانيون أن أفضل وسيلة للتعامل مع النرجسي أياً كان هو تجنبه قدر الإمكان، وأكثر المعاناة هو حينما تُبتلى الزوجة بزوج نرجسي، أو يُبتلى الزوج بزوجة نرجسية، فإنه لا حل في مثل هذه الحالات سوى حل الطلاق، والطلاق فقط، لأن النرجسي أو النرجسية يتنصلان من أداء واجباتهما، وإن أدوها فتكون بشكل نفعي أو رغبة في مدحهم، وصعوبة الزوج النرجسي تأتي من كونه يأخذ الحب ولا يهبه، ويأخذ الحنان ولا يهبه بما في ذلك الاستمتاع الجنسي.

فينابيع الحب تصدر منه ثم ترد إليه كلها دون أن يشاركه فيها أحد، وإذا كان أول شروط نجاح الزواج، المودة والرحمة فهما معدومان مع الشخص النرجسي، فإن المشاركة الزوجية مع طرف نرجسي عذاب في عذاب، ولهذا يُقال إن أتعس زيجة هي الزيجة من زوج نرجسي.

باختصار مشكلة القذافي تعود لنرجسية مُسلَّحة بسلاح السادية، هذا الرجل لو لم يُقتل فلن تتوقع منه حينما يُحاكم في محكمة كبرى أن يبدي ذرة أسف أو ندم حتى ولو كانت إداناته مدعومة بأدلة دامغة، لأنه يعيش في برج نفسي عاجي، فوجوده مثلاً في محكمة كبرى حيث القضاة من جهة، والإعلام من جهة أخرى وحيث إنه محط لأنظار العالم كله، فإن هذا كله يعطيه شعوراً نرجسياً بعظمته وأهميته وكبريائه، وسيعتبر أن كل هؤلاء الذين أمامه أقزام، وأنه هو العملاق الوحيد في صرح المحكمة، وفي صرح العالم بأسره.

من المؤكد أن قتله قد أراحَ منه الشعب الليبي، وأراح من كان سيعجب به في دور المحاكمات، ومن كان سيغتر به.

القذافي لم يكن دكتاتوراً فقط، فهنالك الكثير من الحكام الطغاة الدكتاتوريين الذين حكموا على مر التاريخ، لكن ما يجعل القذافي يختلف عنهم هو أن نرجسيته الذاتية وغروره هما من يحكم البلاد، لكن الطغاة الآخرين يُمارسون الدكتاتورية ضد الشعوب الأخرى، لأجل مصلحة بلدانهم أو على الأقل بقاؤهم في سدة الحكم، أما القذافي فإن من يحدد أعداءه البلاد وأصدقاء البلاد هو باعث نرجسيته، أعداء ليبيا هم أعداء نرجسيته، وأصدقاء ليبيا هم أصدقاء نرجسيته، بترول ليبيا هو لخدمة نرجسيته أولاً، يُسقط طائرة لوكربي لأجل نرجسيته وليس لسبب سياسي، يُسمم أطفالاً ليبيين بفيروس الأيدز لأجل نرجسيته، وليس لسبب سياسي، يقتل مثلاً موسى الصدر ورمضان وغيره كثير، ويبيد مسجونين لأجل نرجسيته ولا علاقة لتلك الجرائم بسياسة أو مستقبل البلد.

ولهذا فإن المحللين السياسيين يُخطئون حينما يعزون بواعث جرائم القذافي لأسباب سياسية، ويحيّدون الرؤية التحليلية النفسية لشخص القذافي.

وللتاريخ يجب أن تُعاد قراءة وكتابة الأحداث السياسية الليبية في عهد القذافي من قِبل المحللين النفسانيين، وليس من قِبل المحللين السياسيين، لتخرج قراءة الأحداث التاريخية بمنظار أكثر موضوعية.

ولقد أخطأ من توقَّع أن تكون نهاية القذافي هي الانتحار، ففي البُعد النفسي للشخصية النرجسية أو شخصية القذافي تحديداً، فإنه أبعد شخصية تعمد للانتحار، وربما لو انتحر الناس جميعاً، لكان آخرهم القذافي، لأن مشاعر الإحباط والدونية في وادٍ ومشاعر النرجس تُغرد به في وادٍ آخر.

Samary5050@hotmail.com
جامعة الملك سعود

القذافي.. قراءة للمختصين في علم النفس
د. خالد عبدالله الخميس

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة