Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 25/02/2013 Issue 14760 14760 الأثنين 15 ربيع الثاني 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

“أنا لست متعصباً، ولكن عندما أريد الصعود للطائرة، لا بد أن أصارحك فحين أرى أناس في زي مسلمين، وأعتقد أنهم يُعَرِّفون أنفسهم أولاً وقبل كل شيء كمسلمين، فإنه ينتابني القلق والخوف.” هذا ما قاله جوان وليام الناقد المغمور بإذاعة عمومية أمريكية خلال محاورة تحليلية..

بعد يومين تم طرد جوان من الإذاعة، لأن نظامها - مثل كافة المؤسسات الإعلامية المحترمة- يمنع صحفييها من التعبير عن وجهة نظرهم بشأن القضايا المثيرة للجدل؛ إذ إن المطلوب منه هو التحليل وليس الرأي. أيضاً ندد ليبراليون هناك ومعهم أحد المجموعات المسلمة بهذا التصريح. وكان جوان يعلم يقيناً أنه سيطرد، بل اُعتبر تصريحه بمثابة استقالة، فبعدها وقع جوان عقداً بمليونين دولار لمدة ثلاث سنوات مع محطة فوكس، وتحول من محلل مغمور براتب متواضع في إذاعة عمومية محترمة إلى نجم لامع في قناة فوكس اليمينية المحافظة التي تتميز بالصخب الإعلامي والتحيز الإيديولوجي، وأصبح مشهوراً في غضون أسبوعين!

القاعدة معروفة في تقاليد الإعلام الموضوعي كما في الإذاعة المذكورة: تقول “يجب على الصحفي والمعلق والمحلل السياسي ألا يتخذ موقفاً حزبياً أو يعبر عن رأي شخصي أو متحيز..”. لكن الوقت تغير وصار من يخترق هذه القاعدة ترتفع أسهمه، وصارت القنوات المنحازة تتقدم في المنافسة! يقول الكاتب الأمريكي نيل ماكدونالد :” هنا في الولايات المتحدة، ورغم هذه القاعدة، ألقت فوكس نيوز ببساطة بمادة الكتاب القديم (في تعليمات الحيادية)، وهي الآن تهيمن على تصنيف المواقع الإعلامية؛ ومثلها محطة MSNBC، التي تعيد اختراع نفسها كمقابل يساري هي أيضا آخذة في الارتفاع. أما محطة سي إن إن الرزينة على الطريقة القديمة فهي في الوقت نفسه، في هبوط..

سُقت هذا المثال في أمريكا لأبين أن الظاهرة عالمية، عندما نرى مثل ذلك في إعلامنا العربي، إلا أن ما يزيدها لدينا هو أننا نمر بمرحلة احتقان واستقطاب حادة. ففي زمن الإنترنت حيث عجلة الإعلام مندفعة وكمية المعلومات متفجرة، يصعب التحليل الموضوعي والنقد المحايد، ويسهل رفع الصوت وسط الضجيج الإعلامي وكتابة بضع عبارات سريعة فاقعة منحازة، تلفت الأنظار في الزحام..

اللعبة صارت معروفة: يطلق كاتب أو داعية مغمور فقاعة إعلامية، وقد يكون مشهوراً لكنه لا يستطيع الاستمرار إلا عبر هذه الفقاعات.. ثم من غد ينهمر سيل من مقالات الرأي وحلقات الفضائيات تتناول ما قاله.. كثير منها تهاجمه وقليل تدافع عنه، لكن التي تهاجمه هي من ترفع أسهمه وتضعه في دائرة الضوء!

الغريب أننا نكرر بأن تلك الحيلة لن تنطلي علينا ولكننا نندفع معها، وإذا لم ننساق معها سينسانا الجمهور ويتركنا في برجنا العاجي! وليس الغريب وجود هذه الظاهرة، بل طغيانها وتطرفها.. فمن الطبيعي أن يتخذ الكاتب موقفاً ويتم تصنيفه مع أو ضد، فتلك من نتائج مقالة الرأي، لكنها صارت هي الطاغية بينما المقال التحليلي والنقدي أصبح متوارياً، أو مشوهاً بالرأي الفاقع حين يقوم المحلل (مثل جوان) بانتقاء ما يناسبه من وقائع ليستخلص رأياً شديد الانحياز هو أصلاً موقف مسبق من داخل الحالة وليس تحليل مراقب من خارجها.

ورغم أنه من الصعوبة (أو من المستحيل) أن يتمكن المحلل من تفادي الرأي الضمني في تحليله، فإنه في سعيه المنهجي الجاد إلى تفكيك الوضع وتقدير مآلاته يمكنه أن يصل إلى حيادية المعلق الرياضي الذي ربما يشجع أحد الفريقين لكن استعراضه للأحداث الخارجية (الكمية والوصفية) وموازنتها ببعضها تمكنه من استخلاص نتيجته متفادياً الانفعال العاطفي؛ إنما المشكلة أن الجمهور يطالبه بالانحياز على نقيض الجمهور الرياضي الذي يرغم المعلق على الحيادية!

وبدلاً من أن يفسر المحلل الأحداث يصبح من الأيسر له أن يتبنى إيديولوجية خلافية، حتى لو لم يكن هو نفسه مؤدلجاً. وبالطبع فهذا لا يساعد على فهم ما يحدث بل في الوقوع فيه، ليتفاقم الصراع بين النخب السياسية إلى صراع آخر بين النخب الثقافية، ولتغدو هذه الأخيرة جزءاً من الأزمة وليس جزءاً من الحل.. وبدلاً من أن نواجه الأزمة من خلال التحليل أصبحنا نواجه بعضنا البعض!

إذن الكتابة التحليلية أو النقدية الهادئة الجادة توقع صاحبها بين ورطتين: الأولى هي عجلة الإنترنت المندفعة.. فالناس مستعجلة ولا وقت للتهدئة! الثانية هي حالة الاستقطاب الحادة في المنطقة التي تكاد تغطي كل شيء: السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. فيعلو صخب الرأي المتهور على جدية التحليل المنهجي.

والمشكلة لا تنحصر في تشويه التحليل بل امتدت إلى نشرة الأخبار، لتتحول في كثير من الفضائيات العربية إلى سماع ما يرغب به جمهورها. لكن خلال السنتين الأخيرتين بدأ الناس يتحولون تدريجياً إلى قنوات أخرى أكثر مصداقية. فإذا كان المتصدر أربع قنوات: “العربية”، “الجزيرة”، “الفرنسية”، “بي بي سي” فإن الأخيرتين تتقدمان تدريجياً، وليس من المستبعد أن تنافسان على المقدمة. ثمة مؤشرات على تقدم كبير لقناتي “بي بي سي” و”الفرنسية”، بل تبين بعض المؤشرات الإحصائية أنهما بلغا الصدارة في بعض الدول العربية وفقا لاستطلاع شركة TNS لأبحاث نسبة المشاهدة، وإحصائيات IPSOS (سيتم استعراضها في مقال لاحق)، فيما قناة “روسيا اليوم” تنال نسبة قليلة وتقبع قناة “الحرة” الأمريكية قرب ذيل القائمة.

تقول القاعدة الأولى للأخبار إن المطلوب في نشرة الأخبار هو الحدث: كيف وقع وأين ومتى وما المحتوى، ليس المطلوب تلبية رغبة المتلقي، فنشرة الأخبار ليست ما يطلبه المشاهدون، ولا ما ترغب به الرسالة الإيديولوجية للقناة. هذه القاعدة الإخبارية ومعها قاعدة المحايدة التحليلية تتعرضان للاهتزاز، فهل تنقرضان أم تنتصران في معركة الإعلام الجديد؟

لا تزال أغلب الصحف والقنوات الرزينة تتبنى قاعدة عدم الانحياز وعدم الخلط بين الخبر والتحليل والرأي، بل تسعى جاهدة لتبيين ذلك الفرق للمتلقي كأن تعتمد أساليب توضح للقراء أن ذلك الجزء أخبار أو تحليل أو رأي، ليس فقط بوضع عنوان أعلى الصفحة أو أعلى المقال بل، أيضاً، بتغيير أسلوب الطباعة وتفاوت الهوامش (مثل نيويورك تايمز، التايمز).. من الواضح أن المؤسسات الرزينة تراهن على المدى الطويل وليس القصير.. إنما الزمن سيجيب على هذا الرهان!

alhebib@yahoo.com

تقمص دور المتطرف من أجل الشهرة!
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة