Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 07/04/2013 Issue 14801 14801 الأحد 26 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

محاضرة

رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك يحاضر في معهد الشرق بروما عن دول الربيع العربي في قراءة تحليلية لما قبل وبعد التغيير فيها

رجوع

رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك يحاضر في معهد الشرق بروما عن دول الربيع العربي في قراءة تحليلية لما قبل وبعد التغيير فيها

Previous

Next

إيطاليا - روما - إيهاب هاشم:

بدعوة من معهد الشرق كارلو الفونسو نالينو (أحد أهم معاهد الدراسات الشرقية في العاصمة الإيطالية) ألقى رئيس تحرير صحيفة الجزيرة الأستاذ خالد المالك محاضرة تحت عنوان: (دول الربيع العربي: قراءة تحليلية لما قبل وبعد التغيير) وذلك أمام حضور متميز من طلاب الجامعات والدارسين والمهتمين بالدراسات الشرقية، كان من بينهم رئيس المعهد الأستاذ البروفيسور كلاوديو لو ياكونو أستاذ الدراسات الشرقية في كلية الدراسات الشرقية في جامعة نابلي، والبروفيسور ميشيل برنارديني رئيس إدارة المعهد وأستاذ الدراسات الشرقية من جامعة نابلي، والأستاذة روضة مديوني أستاذة الدراسات الشرقية بجامعة روما، كما حضرها الدكتور عبدالله رضوان رئيس المركز الإسلامي في روما والسيد إبراهيم الغريب الملحق الإعلامي بسفارة خادم الحرمين الشريفين في روما.

الحضور من أساتذة وطلاب ومهتمين شاركوا بفعالية عالية في هذه المحاضرة عن طريق طرح كثير من الأسئلة وبشكل خاص عن الدور النشط الذي تقوم به المملكة العربية السعودية بقيادة الملك عبدالله للحد من التوتر الإقليمي. وقد أجاب الأستاذ المالك بكثير من المرونة والمصداقية عن هذه الأسئلة.

ويعتبر معهد الشرق كارلو الفونسو نالينو الذي تأسس في مارس 1921 لتوفير أداة ومرجعية بحث وتحليل موحَّدة للمستشرقين والمهتمين بالدراسات الشرقية في إيطاليا خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

المعهد، منظمة غير ربحية يواصل القيام بنشاطات متعددة البحث والنشر دون انقطاع لأكثر من تسعين عاماً، مما يجعل المعهد مركزاً ومرجعيةً ذا اختصاص وبجدارة عالية في مجالات الدراسات الشرقية للجامعات ومراكز الأبحاث في إيطاليا والخارج وذلك بفضل المساهمات التي يقدِّمها منتسبو المعهد والمشاركون من الجامعات ومراكز البحوث الإيطاليون والأجانب.

تحفل مكتبة المعهد بأكثر من 35 مؤلفاً وكتاباً متخصصاً في التاريخ والآداب والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمشرق العربي والإسلامي باللغة الإيطالية، وتُقام بالمعهد عدد من المؤتمرات والمحاضرات يدعى إليها كبار الدارسين المتخصصين في الدراسات الشرقية. كما تُقام فيها دورات في اللغة العربية، التركية والفارسية والثقافة العربية الإسلامية. وفيما يلي نص المحاضرة:

لا تزال شعوب دول ما يُسمى بالربيع العربي تغلي بعد عامين من نجاح الثوار في إسقاط الأنظمة فيها، فهناك مظاهرات غير سلمية تطالب بالتغيير، وهناك أنظمة جديدة تفتقر إلى الخبرة والتأهيل لتولي مسؤوليات زمام الحكم في دولها، ورجال أمن وجيش وشرطة لا يدرون كيف يتعاملون مع الملايين من المواطنين الذين تتكدس بهم الشوارع والميادين ويتحدون بمظاهراتهم واعتصاماتهم قرارات وتعليمات الأنظمة الجديدة.

***

قتلى وإصابات في صفوف المدنيين وأجهزة الأمن، دون أن تلوح بارقة أمل في استتباب قريب للأمن، أو أن يتم التوصل إلى اتفاق بين أجهزة الحكم والمعارضة على آلية للخروج من هذا النفق المظلم، يقابله انهيار في اقتصاديات هذه الدول، وارتباك في تعامل وسائل الإعلام مع ما يجري من حراك، وتدخلات خارجية لإيقاظ الفتنة وعلى أن تستمر بأكثر مما هي عليه الآن، بما يشجع المواطنين في هذه الدول إلى مزيد من الاقتتال، وكأن ما يجري في هذه الدولة أو تلك مؤامرة لخلط الأوراق والقضاء على قوتها وعلى قدرة مواطنيها في العيش بأمان.

***

وهناك خلافات كبيرة حول آلية الانتخابات المناسبة، وعلى توفير كل ما يؤدي إلى نزاهتها من ضمانات، وجدل لا ينتهي حول استفراد فئة دون غيرها بالسلطة ومفاصل الحكم، واتهامات لهذا الطرف أو ذاك سواء في الحكم أو في المعارضة بعدم الالتزام بتطبيق واحترام أهداف الثورة، في حين أن كل فريق يحرص على أن يملي توجهاته ويفرض أجندته على مستقبل إدارة هذه الدول في ظل الأنظمة الجديدة، مما ساهم في غياب التصحيح المنشود للفساد الذي ساد هذه الدول واستشرى بين النافذين فيها على مدى عقود في ظل أنظمة الحكم البائدة.

***

وإلى اليوم لا أحد يستطيع أن يتنبأ أو يجزم بما سيكون عليه الوضع في المستقبل المنظور، فالحوار بين الفرقاء يكاد يكون معدوماً، والتفاهم على ما يجنب الدول المزيد من الدماء ويحفظ لها أمنها واستقرارها أصبح من دون حل سريع، أمام تصلّب الأنظمة وعدم استعدادها لفهم مطالب المواطنين وتقديرها لآثار مظاهر العنف في الشوارع وما ستؤول إليه، ما يعني أن دول الربيع العربي أمام مستقبل غامض وكارثي إن لم تسارع الأنظمة الجديدة في استيعاب هذا الزخم من المظاهرات التي أخذت تتسع يوماً بعد يوم، وتتحوّل من سلمية إلى عنفوية، ومن مطالبات بالإصلاحات إلى إسقاط للأنظمة، مع ما قد يؤدي إليه ذلك من تسارع في وتيرة العنف والعنف المضاد بين جميع الأطراف.

***

لقد تاق المواطنون في كل من تونس وليبيا ومصر واليمن - وهي التي نجحت الثورات فيها، وسوريا التي يوشك نظامها على السقوط- إلى الحرية وإلى التغيير الذي يقود إلى ذلك، ودفعت من دماء أبنائها الكثير في سبيل تحقيق هذا الهدف، بعد سنوات من حكم القبضة الحديدية، وما اتسم به أسلوب وطبيعة نظام الحكم في دول ما قبل الربيع العربي من ظلم وقهر للمواطنين، وفساد امتد لكل أجهزة هذه الدول وبين المسؤولين القياديين فيها، فإذا بالمواطنين في هذه الدول يجدون أنفسهم أمام مناخ مختلف بعد نجاح ثوراتهم، لكنه مناخ ليس بهذا النقاء والصفاء الذي انتظروه طويلاً، حيث تعطَّلت الأعمال وانتشرت الفوضى واستعصت الحلول أمام من يُفترض أن يكون بأيديهم الحل.

***

إن هذه الفوضى التي تعج بها دول الربيع العربي الآن، لا يمكن فهمها إلا أنها تداعيات لما كان سائداً قبل الثورات، حيث طبيعة الأنظمة السابقة التي كانت تحكم دولها بالحديد والنار، وكأنها كانت على درجة عالية من الاطمئنان والثقة بأنه بغير هذا الأسلوب في إدارة الحكم فإن أنظمتها إلى زوال، حيث كان هذا الأسلوب خيارها الوحيد آنذاك للاحتفاظ بسلطاتها، والحيلولة دون بزوغ ما يمكن أن يؤثِّر في احتفاظها بهذه السلطات، حتى ولو تطلب الأمر اللجوء إلى فتح المزيد من أبواب السجون والزج بالمواطنين في غياهبها، فيما لو تزايد أعداد المعارضين منذراً بما يهدّد مستقبل وبقاء هذه الأنظمة.

***

وأمام هذه التجاذبات السياسية بين الفرقاء بعد سقوط هذه الأنظمة، وما صاحبها من مظاهر عنف، نتج عنها وفيات وإصابات ودمار، كانت لغة الحوار غائبة، والتفاهم على حل يجنب المواطنين آثارها السلبية غير ممكن، وليس لدى أي طرف - النظام الجديد والمعارضة- القدرة على حسم الأمر لصالحه، مما أغرق هذه الدول بكثير من المشكلات المعقدة التي مع تصاعدها ربما صعبت القدرة على إيجاد حل لها أو برنامج لتهدئة الأوضاع المتوترة، وفتحت المجال أمام التدخلات الأجنبية بحسب ما تمليه مصالحها في مثل هذا التدخل، لتتحول دول الربيع العربي أو بعضها إثر ذلك إلى مناطق نفوذ للصراع بين الدول، إلى جانب صراع القوى الوطنية المعارضة مع أنظمة الحكم في دولها.

***

نعم إن أحداً - النظام والمعارضة - في دول ما يُسمى بالربيع العربي لن يكون قادراً على حسم المعركة لصالحه، وفقاً للمعطيات التي نراها على الأرض، وبينها التباين الكبير في وجهات النظر، والأجندة التي يحملها كل طرف، يقابل ذلك استخدام ما يسمح به المناخ المتاح للجميع من الحرية لممارسة التظاهرات والاعتصامات واستخدام وسائل الإعلام، ويمكن أن يفسر سبب هذا التعاطي السلبي مع الحالة المستجدة في كل دولة من دول الربيع العربي على أنه ناتج عن سياسة تهميش لأهلية صوت المواطن، وربما محاسبته أحياناً إذا ما رفع صوته على ما تعتبره الأنظمة الجديدة خروجاً على طاعتها، وهذه ثقافة تولَّدت من الحرمان الطويل للمواطنين من حقهم في الحرية، حتى إذا ما سُمح بها بسبب نجاح الثورات رأينا بعض المواطنين يتصرفون على هذا النحو في عدم الانضباط، دون أن تتعامل الأنظمة الحاكمة معهم بشيء من الحكمة وحسن التصرف ومعالجة الموقف بما يزيل الاحتقان بين المواطنين.

***

ويمكن أن ينظر إلى هذه التطورات في دول الربيع العربي على أنه مخاض يحتاج إلى مزيد من الوقت ليلد عنه - كما نتمنى - أنظمة تؤمن بحرية المواطن في التعبير ولا تصادر حقه في ذلك، ضمن مسؤولياتها في إنجاح نظام تعددي وديمقراطي، نظام يتجنب المنزلقات والأخطاء والتصرفات التي قد يفهم منها أن النظام الجديد يحاكي بها في سياسته وإدارته للحكم النظام السابق، وهو أمر وإن نفته الأنظمة الجديدة في مقابل التركيز والتأكيد عليه من قوى المعارضة ضمن التجاذبات بين جميع الأطراف والتنظيمات والقوى الفاعلة على الأرض، فإن التصعيد في إظهار القوة من هذا الطرف أو ذاك لن يفضي إلى الاستقرار وبناء مؤسسات هذه الدول بالمواصفات التي عبّرت عنها انتفاضات المواطنين.

***

على أن نجاح الثورات في دول الربيع العربي - وإن احتاج إلى بعض الوقت - ينبغي أن تصاحبه الاستفادة من أخطاء وتجاوزات الماضي، ما يعني أن على الأنظمة الجديدة أن تستفيد من أخطاء وتجاوزات الأنظمة التي تم التخلص منها، استفادة تنهي وإلى غير رجعة الاعتداء على حقوق الإنسان، وتقضي على الفساد، وترسخ مبدأ العدالة والنزاهة، ولا يكون همها الأول والأخير أن تبقى بالحكم أكثر سنوات ممكنة، يحرسها ويحميها طوق أمني للحيلولة دون أي حق للمواطنين في التغيير، اعتقاداً منها بأنها ما لم تفعل ذلك فإنها إلى زوال، في حين أنها إذا لم تفكر بهموم المواطنين وتعمل على معالجتها بالطريقة الصحيحة فإن بقاءها بالحكم لن يطول، كما أن بإمكانها أن تستقطب المواطنين مؤيّدين لخطواتها إن هي تجاوبت مع متطلباتهم، وستجد أن اصطفاف المواطنين المؤيّدين لسياساتها في تزايد متى كانت القرارات متناغمة ومنسجمة مع آمالهم.

***

أفهم أن هناك مرحلة انتقالية تحتاج إلى مزيد من الوقت في مثل حالة الربيع العربي، يصاحبها عادة مثل هذا الارتباك في إدارة الحكم، لكني لا أفهم محاولة استقواء الأنظمة الجديدة على شعوبها، وتجاهلها لدور المواطنين في إزالة تلك الأنظمة الفاسدة من الحياة السياسية في دولهم، وكأن هذه الثورات بدون المواطنين كان يمكن أن يكتب لها النجاح، بينما الواقع والحقائق تقول غير ذلك، ما يجعلني أتمنى على هذه الأنظمة أن تشرك بالرأي والمشورة والمسؤولية مواطنيها وبخاصة الشباب منهم، ولا تهمش أو تقصي أحداً منهم بسبب عدم توافقهم تماماً مع سياساتها، لأن الأوطان للجميع والثورات قادها الجميع.

***

ومن المهم والضروري أن تلتزم الأنظمة الجديدة في العالم العربي بأهداف الثورات، وأن يكون شغلها الشاغل الاهتمام بالإصلاحات والقضاء على الفساد، وتجنب ما يفرغ هذه الثورات من أهدافها، فهي ليست أمام فرصة للانتقام وتصفية للخلافات، فمبدأ العدالة حين تكون مطلوبة - وهي مطلوبة دائماً- فإن تمكين أي مواطن للدفاع عن نفسه يأتي داخل دائرة العدالة، كما أن المحافظة على حقوق الإنسان باعتباره ضمن أولوياتها ينبغي أن يأتي الالتزام به ضمن المسلمات، ولا بأس من محاكمة الظلمة وفق القانون، وأن تأخذ العدالة مجراها في الاقتصاص من المجرمين، غير أن هذا يجب أن يتزامن ويتوافق مع العمليات الإصلاحية وبينها أن يمكّن المواطنون من المشاركة فيها، وسن الأنظمة التي تحول دون تسلط الحكام الجدد على مواطنيهم، أو استشراء الفساد أو تهميش أي دور للمواطنين، وهي متطلبات لا يزال الغموض يشوب تطبيقها بسبب عدم استتباب الأمن، والخلافات العاصفة بين رموز الحكم والمعارضة.

***

لقد كان ما يُسمى بالربيع العربي، ولا يزال، موضع اهتمام النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية في العالم العربي، كل يدلي برأيه، ويتحدث عنه من الزاوية التي تستقطب اهتمامه، مركزين جميعاً على ما يعتقدون أنها حلولٌ تجنّب هذه الدول المزيد من المشكلات الآنية والمستقبلية، كما أن المنتديات المتخصصة على امتداد العالم العربي لم تغب هي الأخرى عن هذا المشهد، وكان لها حضورها وإسهاماتها في تحليل وقراءة التطورات التي استجدت والتحديات التي واجهتها هذه الثورات؛ أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.

***

فهذا منتدى فاس الثامن الذي أقيم تحت مظلة المركز المغربي للدراسات الإستراتيجية والدولية يوصي بضرورة فتح المجال لكل أطياف الشباب في بناء الديمقراطية في مجتمعاتهم، وقد استحضر المشاركون - وهم من النخب الفكرية- السياق السياسي والحراك الاجتماعي الجديد في دول الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مجمعين على أن بناء الديمقراطية هو مسلسل ممتد في الزمن، ويتطلب تنمية ثقافة التنافس السلمي على السلطة في إطار دولة الحق والقانون، وفي ظل المناخ الديمقراطي المنشود الذي يحقق للشعوب الحرية في التعبير والرأي والتعددية السياسية.

***

ومع كل إرهاصات هذه الثورات، فإنه من الخطأ الجسيم - بنظري- أن يلجأ المواطنون بعد نجاح ثوراتهم إلى العنف والعنف المضاد في التعبير عن مواقفهم من النظام الجديد في دولهم مثلما يجري الآن، لأن ممارسة العنف أو التحريض عليه سوف يؤثر سلباً على الاستقرار واستتباب الأمن المنشودين، وبالتالي سوف يلحق هذا السلوك أبلغ الضرر بمصلحة دولهم، طالما استمر التصعيد والتوتر، واستمرأ المواطنون الاشتباكات فيما بينهم أو مع رجال الأمن، مع غياب الحكمة والعقل في تقدير خطورة ما يجري من مظاهر غير سلمية على مستقبل دولهم.

***

وإن أساليب أنظمة الحكم السلطوي البائد الذي ساد دول ما يسمى بالربيع العربي على مدى عقود من الزمن وإصراره على رفض رغبة المواطنين بتحقيق ما ينشدونه من إصلاحات هو الذي هيأ هذا المناخ وحرك المواطنين لهذا الانفجار المدوي الذي أنهى هذه الأنظمة وإلى الأبد، وأعاد للشعوب حقها في الحرية لاختيار أنظمة بديلة يفترض فيها أن تقوم بمسؤولياتها على النحو الذي يرضي طموحات المواطنين، ويستجيب لتطلعات أولئك الذين قدموا تضحيات غير مسبوقة من أجل التغيير والإصلاح والقضاء على الفساد.

***

وغني عن القول، إن شعوب تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ما كان لها أن تقوم بما قامت به، لولا استشراء الفساد، وغياب العدل والمساواة، وتوظيف المال العام بما لا يخدم المواطنين، والتعامل بعنف مع كل صوت حر يعارض النظام، وإلغاء مبدأ النزاهة في كل انتخابات تجرى في هذه الدول، واعتبار الإعلام صوت النظام وبوقه دون أن يسمح له بأن يقول ما يخالف توجهات وسياسات تلك الأنظمة، بينما كان المواطن في هذه الدول يغلي قهراً مما يراه، ويعرف أن لا وسيلة للتغيير والخلاص من هذه الأنظمة دون دماء تراق، وسجون يغيّب فيها المعارض إلى الأبد، وإصابات تقعده عن الحركة، ومع هذا، فقد امتلك هذا المواطن الحر الشجاعة والاستعداد للتضحيات، وخرج إلى الشارع بصوته المدوي ويديه اللتين لا تحملان إلا الحجارة في مواجهة قوات وآليات ومعدات وأسلحة عسكرية، مطالباً هذه الأنظمة بالرحيل، فإذا بهذه الأنظمة تتساقط واحدة بعد الأخرى، ليقول التاريخ والعدالة كلمتهما عن أسوأ فترات أنظمة حكم متسلطة لشعوب تستحق أن تكرَّم، وأن يُشاد ببسالة المواطن، وأن تُقال كلمة حق في صموده وصبره إلى أن تحقق النصر.

***

ومن المؤسف أن مجلس الأمن بدوله الكبرى صاحبة الحق في نقض أي قرار، ولو بصوت واحد، تعاملت مع ثورات الشعوب العربية وفق مصالحها الخاصة، وليس بناءً على المعطيات التي عبَّرت عنها حناجر المواطنين وهي تهتف في الميادين والساحات والشوارع، وعبر وسائل الإعلام قائلة بصوت واحد (ارحل) للأنظمة والحكام، فبينما تستخدم روسيا والصين حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار يسرِّع في إنهاء نظام الحكم في سوريا، يأتي موقف الدول الغربية وأمريكا مسانداً عسكرياً وسياسياً للثورة على نظام القذافي في ليبيا، وتعاملاً حيادياً إلى حد ما مع أنظمة مبارك في مصر، وبن علي في تونس، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وإن كان هذا الموقف قد اتسم لاحقاً، مع ضعف قدرة هذه الأنظمة على التماسك والسيطرة على زمام الأمور في بلدانها وقرب سقوطها، بأن ظهرت أمريكا والمجموعة الأوروبية في مواقف داعمة ومساندة لهذه الثورات في مصر وتونس واليمن.

***

ومثلها، فقد تعاملت بعض وسائل الإعلام خارج نطاق الدول العربية بما لا يمكن فهمه إلا أنه يصب الزيت على النار دون دعم لتطلعات شعوب هذه الدول، بينما كان عليها أن تقف مع الحق، وتعرف المجتمعات غير العربية بما كانت عليه هذه الأنظمة من فساد، ومن أنها تمارس حرمان شعوبها من حقها في الحرية، وتمنع عنها كل ما يؤدي إلى تمتعها بحقوقها الإنسانية، في ظل أنظمة بوليسية لا تسمح بأي معارضة ولو كانت هامشية، لضمان استمرارها في كراسي الحكم مع مواصلة عدم احترام إرادة شعوبها وحرمانهم من أبسط حقوقهم.

***

ويمكن القول: إن الشرارة الأولى التي انطلقت باتجاه التغيير لبعض أنظمة الدول العربية إنما جاءت بصناعة شبابية بامتياز، إذ إن الآلية التي استخدمت لتحقيق هذا الهدف لم تقتصر على العصيان والمظاهرات، وإنما استخدم فيها كل وسائل الاتصال والإعلام الجديدة، ما ساعد على حشد الجماهير وتعبئة الرأي العام للقبول بهذا الزلزال المدوي الذي فوجئت به الأنظمة العربية بأكثر مما كان في حسبانها وتقديراتها، مما جعلها غير قادرة على احتواء أو التعامل معه بما يهيئ للحدِّ من امتداده وتأثيره، فإذا بها تستسلم وتسلم أمرها لما آل إليه الوضع في نهاية المطاف.

***

ومع كل هذا الذي جرى ويجري في دول الربيع العربي ما قبل وبعد هذا التغيير في أنظمة حكمها، علينا عدم الإفراط بالتفاؤل كثيراً، أو التوقع بأن التطورات التي ستصاحب هذا التغيير ستكون بمجملها إيجابية وأنها ستحقق في فترة زمنية قصيرة آمال الشعوب، فالعقلاء يرون أن الاحتمالات كلها واردة ومفتوحة، فهناك أعداء لهذه الثورات وخصوم ينشطون ضمن التزامهم بالوفاء للأنظمة البائدة دون الشعور بوخز الضمير أمام مساندتهم لأنظمة كانت قمعية وفاسدة ودكتاتورية ولا تعطي أي احترام أو حقوق أو اعتبار لمواطنيها.

***

إن التحولات المتسارعة في دول ما يُسمى بالربيع العربي لا يتوقع منها أن تقود برنامجاً إصلاحياً متكاملاً، أو أن تزيل من الخارطة كل التحدِّيات الاقتصادية التي أورثتها الأنظمة السابقة، فالأوضاع معقدة وشديدة التأثير على الحياة اليومية للمواطنين، وتحتاج إلى عمل كبير لمعالجتها، خاصة مع محدودية الخبرة لدى الأنظمة الجديدة، واستمرار الاضطرابات وعدم التوافق بالرأي بين الأنظمة الجديدة والمعارضة، بما في ذلك عدم الرجوع إلى مبدأ المشورة بين القوى الفاعلة من المواطنين والأحزاب والمؤسسات ومن هم في موقع صنع القرار, فيما أن التراكمات والتجارب والممارسات القمعية التي كانت سمة الأنظمة السابقة لا يمكن التخلص من آثارها وسطوتها دون أن يكون هناك توافق بين الجميع ينطلق من مبدأ الشعور بالمسؤولية الوطنية وما تلقيه من ظلال على ما ينبغي أن يقوم به المواطن لخدمة وطنه، عوضاً عن تركيزه على مصالحه الذاتية وحرصه على توظيف كل إمكاناته بما يصب في نهاية المطاف بمصلحته الشخصية لا مصلحة الوطن.

***

كما يجب ألا نغفل عن أن هناك حالة من الهلع والخوف والشعور بعدم الأمان لا تزال قائمة إلى اليوم في دول الربيع العربي بعد سقوط أنظمة مبارك وابن علي والقذافي وعلي عبد الله صالح، في ظل التحريض على العنف وتصعيد الاحتجاجات، وتفشي التطرف والإرهاب من هذا الطرف أو ذاك، بينما لا تزال الأنظمة الجديدة غضَّة وغير قادرة على بسط سيطرتها، خاصة مع انهيار بعض مؤسسات الدولة، وتخوّف الجيش وقوى الأمن من ردود الفعل فيما لو استخدموا القوة، أي أن هذه الدول لا يزال يخيم على مستقبلها ظلال من الغموض، بل إن هناك من يرى أن الأنظمة الجديدة هي الأخرى قد تكون مرشحة للتغيير ما لم تجد حلولاً ترضي بها المعارضة وتلبي طموحات المواطنين.

***

أريد أن أشير إلى أن هناك دراسات وأبحاثاً وتحليلاتٍ وقراءات لهذا التحول المفاجئ والكبير في أنظمة ما يُسمى بدول الربيع العربي، تناول فيها الباحثون أصل المشكلة وأسبابها وما انتهت إليه، وجاء تقييمهم لما حدث ضمن السياق العام الذي يكاد يتفق الجميع على الأسباب والمحفزات التي دفعت بالمواطنين للقيام بما قاموا به من ثورات، وقد حدَّد الدكتور مجدي الداغر رؤيته حول القوى المحركة للانتفاضات الشعبية بأربع قوى هي: الحركات الاحتجاجية الشبابية، والأحزاب والقوى السياسية المعارضة، وقوى عمالية ومهنية، وقوى ذات أرضية طائفية وقبلية، مشيراً في بحثه إلى تفاصيل كثيرة عن دور كل منها ومساهمته في إنجاح هذه الثورات.

***

على أن من أشعل الثورة وأوقد فتيلها وحرَّك كوامن الشجاعة والتصميم لدى شعوب هذه الدول بالإضافة إلى القوى التي أشار إليها الدكتور الداغر هو ذلك الشاب التونسي الذي أشعل النار في نفسه واسمه محمد بوعزيزي(1)، كما أن إلهام الثورات الذي امتد إلى عدد من الدول كان مصدره تونس أيضاً، وكان في قائمة الأسباب لنجاح هذه الشعوب في التخلص من أنظمتها ما ساد فتراتها من فساد وبطالة وفقر وعدم تبادل للسلطة بانتخابات نزيهة، فضلاً عن عدم استجابتها لمطالب شعوبها باحترام حقوق الإنسان ومعالجة ما كان يسود سنوات حكمها من تهميش لحقوق مواطنيها والنأي بنفسها عن سماع صوت المواطن وتجاهل تحقيق مطالبه والإصرار على الاهتمام بالعناصر المحسوبة على النظام دون بقية المواطنين.

***

وفي ضوء ذلك، فإن التحوّل الديمقراطي في دول الربيع العربي - كما يطلق عليها ويسمونها - يمكن أن يتحقق إذا لم تصادر الأنظمة الجديدة حقوق المواطنين في الحرية والمساواة والعدل كما فعلت الأنظمة السابقة، وأمكن لها معالجة الأوضاع الاقتصادية بما في ذلك تحسين المعيشة لكل المواطنين، على أن يصاحب ذلك تهدئة الشارع ببرامج وقرارات تصب في مصلحة الجميع، وبحيث أن يتم التنسيق والتفاهم بين الحكم والمعارضة وفق ما ينسجم مع دساتير هذه الدول وقوانينها، وصولاً إلى تلبية مطالب الثوار في حياة حرة كريمة أساسها توفير الحماية لهم من أي تقلّبات أو نزوات تعكِّر المزاج العام للمواطنين.

***

وربما تساءل البعض عن سبب تصاعد عامل الوقت لإسقاط هذه الأنظمة من أيام، كما في تونس ومصر، فشهور كما في ليبيا واليمن، فأكثر من عامين كما في سوريا، وما زالت المعارك ضارية ومستعرة بين نظام بشار والشعب السوري، وللإجابة عن ذلك فإن نظامي ابن علي ومبارك في كل من تونس ومصر آثرا السلامة مبكراً، فهرب الأول إلى الخارج(2)، وسلَّم الثاني حكمه إلى الجيش(3) الذي تولى زمام الأمور، أما نظام القذافي في ليبيا(4) فقد كان يمتلك ترسانة من الأسلحة وخزينة كبيرة من المال، ساعدته على الاستعانة بالمرتزقة من الخارج لمقاومة الثوار والتصدي لقوات التحالف الغربي، في حين أن نظام علي عبدالله صالح في اليمن(5) كان يستمد قوته وصموده أمام زحف المواطنين لإسقاطه من حزبه وقبيلته، بينما يظل نظام بشار الأسد في سوريا(6) يمسك بسلطاته ويدافع عن نظامه على مدى أكثر من عامين بسبب الدعم الروسي والإيراني والعراقي وحزب الله في لبنان.

***

أختم قراءتي التحليلية هذه بالتأكيد على أن الصورة عن الوضع في دول ما يُسمى بالربيع العربي لا تزال أمامي مشوّشة وضبابية وغير واضحة المعالم حول ما يمكن أن يحدث من تطورات أخرى مصاحبة لهذا المشهد الذي نراه الآن، فالاحتمالات كما تتراءى لي مرشحة لتغيرات أخرى قد تفسد أي توجه إيجابي محتمل ما لم تكن هناك معالجات حاسمة وسريعة للمظاهر السلبية التي تصدر من هذا الجانب أو ذاك؛ لأن أي انتظار دون حسم للمواقف المتأزمة لصالح الثورات سوف يكون أداة ضغط تعجز الجميع من القدرة على أخذ القرارات المناسبة لحلها في الزمن المناسب.

****

الهوامش:

(1) قام محمد بوعزيزي يوم الجمعة 17 ديسمبر عام 2010م بإضرام النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد التونسية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه.

(2) قرر الرئيس التونسي السابق ابن علي الهروب إلى السعودية، وكان ذلك يوم الجمعة 14 يناير 2011م، وقد استقر به المقام في المملكة العربية السعودية.

(3) يوم 11 فبراير 2011م قرر الرئيس المصري السابق حسني مبارك التخلي عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، وهو الآن يقبع في السجن بعد محاكمته وصدور أحكام بحقه.

(4) قتل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في 20 أكتوبر 2011م على أيدي الثوار وتم دفن جثمانه في مكان مجهول في صحراء ليبيا سراً.

(5) انتهى حكم الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح يوم 23 نوفمبر 2011م من خلال اتفاق تبناه مجلس التعاون لدول الخليج العربي وتم التوقيع عليه بالرياض بحضور الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية، وينص الاتفاق على تخليه عن سلطاته ونقلها إلى نائبه عبدربه منصور هادي في غضون ثلاثين يوماً، وتقام الانتخابات رسمياً في 21 فبراير عام 2012م مقابل منح الرئيس علي عبدالله صالح الحصانة من الملاحقة القضائية له ولأسرته. (6) بدأت الثورة على نظام الرئيس السوري بشار الأسد بتاريخ 26 فبراير 2011م منطلقة شرارتها الأولى من مدينة درعا السورية، وقد امتدت إلى كل المدن والمحافظات السورية، ولا تزال مستمرة.

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة