Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 27/04/2013 Issue 14821 14821 السبت 17 جمادى الآخرة 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

محليــات

أيهما أجمل وأزكى وأحلى وأبهى تلك الحياة القديمة التي كنا نحياها بيسر وسهولة وبساطة على فاقتها وشظفها، أم حياتنا اليوم بكل ما فيها من يسر وتعقيد، وراحة وعناء، وترف وشقاء، وسعة في الرزق وضيق في النفس، ووسائل اتصال مذهلة وقطيعة رحم مؤلمة؟!

ألقى أننا كنا أكثر هناء وطمأنينة وراحة بال ووصلا مع الأهل والمعارف والأصدقاء، كان اليوم أربعا وعشرين ساعة؛ ولكنه كان يبدو لنا من بركته ثمانا وأربعين ساعة فننجز فيه الكثير من الواجبات الخاصة والعامة، ونقوم فيه بزيارات للأقارب والمعارف؛ كان الوقت سخيا، والنفس رضية، والعين قاصرة على ما تملك، واليد غير طامحة إلى ما لا تملك، لم يكن بين الناس تطاول في البنيان، ولا تواسع في القصور، ولا تباه في المركوب والملبوس، ولا تفاخر بسياحات الصيف وتزلجات الشتاء، ولا ادعاءات ملهوفة تستدعي الشفقة بمعرفة الأكابر وعلية القوم والتزين بهم في الأفراح والأعراس والتقاط الصور الملونة المكبرة ونشرها في الصحف والمنتديات؛ حتى لو كانت الصلة بهم ومعرفتهم لا تتعدى ابتسامات عابرة وكلمات مجاملة ومصافحات سريعة!

كان للفقر جانب إيجابي رائع؛ على كثرة ماله من جوانب أخرى سيئة وقبيحة وشائنة ومؤذية للنفس الكريمة؛ فكانت الأسرة الواحدة يضمها بيت واحد، ومائدة واحدة، ومجلس واحد، وهموم واحدة متقاربة، وحتى إذا كبر الأولاد وتزوجوا يقيمون مع والدهم ووالدتهم وبين إخوانهم في المنزل إن كان يستوعب الضيفة الجديدة وإلا نزح الابن بعروسته إلى بيت صغير غير بعيد.

كان للفقر جانب إيجابي على ندرة ما يمكن أن يمنحه الفقر من إيجابيات؛ فكانت المدينة الصغيرة أو القرية تنبض بمحبة تتناثر كلمات رقيقة راقية بين بيوتها الطينية وأزقتها وسككها وحواريها؛ فلا يمكن أن يتغيب أحد عن مأدبة إلا بعذر قاهر، ولا يختفي دون أن يقلق أهل الحي كلهم عليه حين تطول غيبته يومين أو ثلاثة، ولا يتوعك أحد دون أن يمتلئ بيته بالعائدين المطمئنين المسلين والداعين!

لم يكن في القرية ولا في المدينة الصغيرة أيضا بنوك، ولا صرافات، كان كل من يملك شيئا من مال يدسه في صندوق حديدي مزين بألوان تحاكي الطبيعة بين الأخضر والأحمر، وإذا احتاج الأب إلى مصروف لأسرته أخرج من هذا الصندوق ما يكفي قوت يوم أو يومين، ومبلغ خمسين ريالا مثلا كانت كافية للإنفاق على البيت يومين أو ثلاثة وحتى أربعة وخمسة إن أمسك الأب عن الفضلة؛ كان كيلو اللحم بريالين، والخبز ثمان بريال، وكيس الأرز البشاوري بخمسة وثلاثين ريالا، وسحارة الشاي الخشب الكبيرة أبو جبل بخمسة عشر ريالا، وقارورة البيبسي بنصف ريال، وحزمة العلف للماشية بريال، ومشوار التاكسي بربع ريال داخل المدينة، ومن القرية إلى المدينة بعشرة ريالات، وثوب الشاب بخمسة عشر ريالا وليس له في السنة إلا ثوبان للعيدين وإن سخى الوالد اشترى ثوبا جديدا للمدرسة مطلع العام الدراسي، وتجهيزه بأدوات المدرسة كاملة في بداية العام الدراسي بعشرين إلى ثلاثين ريالا!

لم يكن في المنزل أدوات تسلية أبدا، ويعد من يقتني الراديو من العوائل المتفتحة المحظوظة، وأغلب ما يتسلى فيه الأولاد لعبة الكيرم أو كرة القدم في برحة متسعة بين البيوت أو في الوادي، أما التلفزيون فلم يدخله أهل القرى لبيوتهم إلا متأخرين، أو أن الإرسال الأرضي كان ضعيفا؛ فكان بعض الشبان المتنورين يذهب بصحبة ثلة من أصدقائه إلى مكان مرتفع جدا ويفرش بساطه مع زمزمية الشاي ويرفع أريل التلفزيون عاليا ليتابع مسلسل وضحى وابن عجلان!

كان البيت في الغالب بحمام واحد متواضع، ولم يكن فيه خادمة ولا من يساعد الأم؛ فكانت تطبخ وتنفخ على الحطب، وتوقد الولائم الكبيرة حين تحل مناسبة لا بد من القيام بها وتتولى تجهيزها من ألفها إلى يائها.

وتطعم الماشية التي لا يقل حبها عن حب أولادها وبخاصة البقرة بركة المنزل؛ فتحلب وتخض وتجهز الزبدة واللبن الرائب، وتصنع القهوة لرب الأسرة مع أذان الفجر، ثم تبدأ بعمل فطور الأولاد!

لم يكن في القرية إلا مستوصف صغير لا يمكن أن تتوافر فيه قابلة لتوليد النساء؛ فولد كثيرون من جيلي ومن هم أسن مني في بيوتهم؛ فتخيلوا كم هي معاناة أمهاتنا عند الطلق والولادة دون وجود مساعدة طبية مناسبة، فكانت الخبيرة القوية من نساء الحي تتولى مساعدة المرأة على الوضع بسلام، وتتم الولادة بسلام أحيانا، وتتم أيضا بغير سلام في أحيان كثيرة!

لم يكن في البيوت هاتف ثابت، ولم يكن في أيدي الناس جوال، ولم يكونوا يعرفون شيئا اسمه الانترنت أو الكمبيوتر أو الإيميل أو المنتديات أو التشاتنج أو البلوتوث أو الوسائط أو الواتس أب أو سكايب أو تويتر أو الفيس بوك!

كان البريد الورقي الوسيلة الوحيدة المتاحة التي يمكن أن توصل الأشواق بين الأصدقاء والمحبين، وتقضي الحاجات والشكايات والمطالب للمسؤولين في الإمارات والوزارات.

وكانت الشوارع تضاء بأتاريك الغاز حين تقدمت الحياة المدنية قليلا واستحدثت في البلدات والقرى وبعض المدن بلديات، فيفزع موظفو البلدية قبل أذان المغرب بسيارات الوانيت مملوءة بأتاريك ذات فتيلة مشعة من القماش ويدورون بين الشوارع والأزقة يعلقونها على مشاجب من حديد غرست في حيطان البيوت الطينية العالية.

وكان الأولاد يقبلون على الدراسة بنهم، ولا تسل كيف تكون حالة البيوت أيام الامتحانات؛ فالأب والأم في شغل شاغل بتهيئة الأجواء المناسبة لابنهم أو أبنائهم؛ فهم مدللون يراعون بعدم تكليفهم بما يمكن أن يشغلهم عن واجباتهم؛ فلا شغل لهم إلا حفظ دروسهم واستحضارها صما عن ظهر قلب، فينام الابن طالب الثانوية ويصبح ثم يمسي والكتاب لا يفارق عينيه؛ لا يلهيه تلفزيون، ولا انترنت، ولا استراحات، ولا مقاهي، ولا وسائط تواصل اجتماعي كما هو الحال الآن!

كانت حياتنا جادة كل الجد، مثابرة كل المثابرة، فاضلة كل الفضل؛ لا شحناء ولا قطيعة رحم أو بين العوائل، ولا لهاثا محموما خلف المال، ولا انصرافا عن واجبات الصلة بالأب أو الأم أو الأخ والأخت.

على أن رفاهية هذا العصر وتيسير أسباب التواصل صوتا وصورة وكتابة لم تشفع في تقوية الوصل؛ بل باعدت ولم تقرب، ونفرت ولم تحبب، وغيبت ولم تبين!

كانت الحياة قبل الطفرة الأولى 1393هـ في بلادنا مدنا وقرى على فقرها وشحها وقلة ذات اليد عند الناس أجمل وأنقى وأتقى وأبقى!

moh.alowain@gmail.com
mALowein@

كلمات
حياتنا القديمة!
د. محمد عبدالله العوين

د. محمد عبدالله العوين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة