Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 10/05/2013 Issue 14834 14834 الجمعة 30 جمادى الآخرة 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

لا يستطيع أي إنسان أن يحصي ما أنعم الله به عليه، بل لا يستطيع أن يحصي ما في نفسه من عجائب وغرائب، ولا الإحاطة بالأسرار، ولا يعد ما يتبدّى للإنسان وراء الجسم البشري من أسرار، سواء منها ما كان ظاهراً علمياً، يبرز أمام المهتمين، بهذا الجسم دراسة وتحليلاً، ...

... في كليات الطب العديدة، ومراكز الأبحاث والمختبرات أم بما يتكون من دراسات للعوامل النفسية، والمؤثرات الاجتماعية، وما ذلك إلا أن هذا الجسم البشري، قد أودع الله فيه أسرار الحياة الدنيا، من ظاهر وخفي، لأن من كرامة الله للإنسان أن جعله محوراً تدور عليه عجلة المسيرة على وجه الأرض، فقد خلقه الله مع عبادته جل وعلا، ليكون خليفة فيها، ووهبه خالقه سبحانه فطنة العلم والمعرفة بم أودع في جسمه من حواس، ليدرك بها ما أودع الله في الأرض التي قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (55 سورة طه) لما فيها من معارف وأسرار لا تحصى ولا تعد، حتى يكتمل عماد هذا الكون للحكمة التي أرادها الله جلّت قدرته، كما جاء في الحديث القدسي: “ابن آدم خلقتك لأجلي فلا تلعب، وخلقت كل شيء لأجلك، فلا تتعب”.

والمهمة الأساسية للإنسان في الحياة هي عبادة الله وحده، وتسخير العقل والجسم لهذه الوظيفة، والعقول البشرية تتفاوت في الفهم والإدراك، كما تتفاوت الحواس في أداء الوظيفة، والعقول البشرية تتفاوت في الذكاء أو الغباء كما تتفاوت الأحاسيس وقدرات الجسم، قوة وتحملاً وذاكرة وقدرة على الاستيعاب والحفظ، ونشاطاً وكسلاً، وغير ذلك من أمور ندركها في نظرة عامة لشرائح في طبقات المجتمعات، وتبرز أكثر في المقارنات المتفاوتة، ولما في أجسام البشر من قوة وضعف.

ولكن من حكمة الله جل وعلا ورحمته بعباده أنه خلقهم ويعلم ما يعتريهم من نقص وقوة وعجز، وما تتباين به الأجسام، وهذه القدرات سواء كانت جسمانية، وعقلية، وما قد يعتري الأجسام من مرض محسوس وظاهر، أو خفي يبث الهواجس، ويسيطر على المشاعر، أو وسوسة يدخل معها الشيطان وإخوانه لإفساد عبادتهم وعلاقتهم بخالقهم، فإن الله سبحانه قد خفف عن عباده ما لا يطيقون، فهو جل وعلا لا يكلف النفس فوق وسعها وطاقتها كما في آخر البقرة، هذا في العبادات المرتبطة بين العبد وخالقه الرؤوف الرحيم، أما فيما يتعلق بأسرار الحياة والتفاوت العلمي فإن الله جلت قدرته، قد أوجد تبايناً بين عقول البشر وقدرات أجسامهم، لتتفاوت به منازلهم حكمة منه سبحانه وعدلاً، فالأنبياء مفضلون على غيرهم، والأنبياء أيضاً مفضل بعضهم على بعض، والعلماء أكبر منزلة من العامة، وأثقل حملاً، يقول جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ} (253 سورة البقرة)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (55 سورة الإسراء)، ويقول تباركت أسماؤه وتعالت صفاته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (28 سورة فاطر).

وفضل الله بني آدم على كثير مما خلق سبحانه؛ إذ يظهر هذا التفضيل في أمور يحسها كثير من الناس: في الشكل وحسن القوام، وفي الخلية التي يتكون منها المخلوق البشري، إذ خلية الإنسان أرقى الخلايا، كما بان للمهتمين بذلك، وفي العقل والقدرات، التي لم تمنح لكثير من المخلوقات، حيث توصف بعضها بالغباء، وفي الحواس وما توظف له من عمل نافع، وفي التطور الجنيني في بداية الخلق في بطون الأمهات.

وهذا من أمور كثيرة، هي من الله جلّت قدرته فضل وإحسان، وتشريف لبني آدم، وتفضيل لهم على العالمين، وأسجد الله سبحانه ملائكته لأبيهم آدم عليه السلام كما جاء ذلك في سورة البقرة، حيث حسده إبليس، وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، مما يستوجب الشكر والعرفان لله الحكيم العليم، بالمنن الكثيرة، ومجاهدة النفس في الإعانة على الشكر لذلك قولياً وعملياً، والله قد تأذن بالزيادة لمن شكر، كما في سورة إبراهيم.

والتفاوت العقلي، منزلة تكبر مع النفس، ويعظم سرها كلما برزت آثار هذا العقل في الجهد والعمل سواء كان هذا الجهد دنيوياً كما نلمس في علوم الحياة، ودور المخترعين، بما منحهم الله من ذكاء وفطنة، في التجديد والتطور حسبما يبرز في المبتكرات العديدة، والصناعات المختلفة، التي هي ثمرة من ثمار العقل البشري، أو فيما يتعلق بالدفاع العلمي والعملي، عن حوزة الإسلام، بما يطرح من شُبَهٍ، أو ما يقحم في الدين من أمور، يراد بها إفساد جوهره وهو حسن الاعتقاد بالله جل وعلا، وحسن الاتباع لشرعه الذي شرع لعباده أو فيما يتعلق بالأمور الفكرية الدنيوية كالفراسة وتفسير الأحلام، وقد جاء في سجل الإسلام، ومصدري التشريع فيه نماذج كثيرة تنبئ عن خفايا النفس البشرية، وما أودع الله فيها، من عجائب وقدرات، ولما كانت العقول متفاوتة في الفهم، والنفوس متباينة في الاحتمال، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى توجيهاً عما يعتري النائم من أحلام، بأن ينقلب على جنبه، ويتعوذ بالله من الشيطان، فإن هذه الرؤيا لا تضره ولا يخبر بها أحداً، وما ذلك إلا أن بعض الرؤى فيها ما يدفع النفس إلى مخاوف.

وابن سيرين الذي قيل عنه إنه ممن وهبه الله تعبير الرؤيا، يرى أن للرؤيا التي يحرص الناس على تأويلها شروطاً منها معرفة الفصل من السنة، حيث إن كل فصل له دلالته، ومنها: أن تكون وقت جني الثمار، أن يكون الحالم غير معتل بمرض أو نحوه، وأن يكون عند المنام وسطاً بين الشبع والجوع، وسليم المزاج، كما يقارن الرؤيا بحرفة الشخص.

وعندما يستعرض الإنسان نماذج من تفسير علماء الإسلام للأحلام، فإنه يلمس منهم فراسة لا تكون إلا لمن وهبه الله علماً وعقلاً، فوق الناس العاديين، وما النباهة التي تأتي في السير الذاتية، لكثير من علماء الإسلام، وغيرهم إلا جزء من أسرار النفس البشرية، وإن من المناسب في هذا الموقف إيراد ما وقع لأحد علماء المسلمين، يتضح منها صحة الفراسة التي هي جزء من أسرار هذه النفس، التي خصّها الله وهو خالقها بعجائب لا تحصى وقدراتٍ يجب التمعن فيها، وإدراك فضل الله على عباده.

قال الخطيب البغدادي في تاريخه، بسند متصل إلى أبي الحسن: علي بن إسحاق بن راهويّهْ، قال وُلدَ من بطن أمه مثقُوب الأذنين، قال فمضى جدّي راهُوْيَهْ إلى الفضل بن موسى البناني، فسأل عن ذلك. فقال: وُلِدَ لي ولد، خرج من بطن أمه، مثقوب الأذنين، فأجابه الفضل قائلاً، يكون ابنك رأساً، إما في الخير وإما في الشر.

فكأن الفضل -والله أعلم- تفرّس فيه أنه لما تفرّد عن المواليد كلهم بهذه الخاصية أن يتفرد عنهم بالرئاسة في الدين أو الدنيا.

وقد كان -رحمه الله- رأس أهل زمانه في العلم والحديث، والتفسير والسنة والجلالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكسر الجهمية وأهل البدع، ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان.

وعنه انتشرتْ هناك، وقد كان له مقامات محمودة عند السلطان يُظفرُهُ الله فيها بأعدائه، ويخزيهم على يديه، وقد تعجّب منه السلطان والحاضرون في مناظراته.

كما قال ابن قيم الجوزيْة رحمه الله، حتى قال محمد بن أسلم الطوسيّ، لو كان الثوري حياً لاحتاج إلى إسحاق ابن راهويّة، فأُخبِر بذلك أحمد بن سعيد الرِّباطيّ، فقال: والله لو كان الثوري وابن عينية والحمادان في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق، فأخبر بذلك محمد بن يحيى الصفان فقال: والله لو كان الحسن البصري حياً لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة، وكان الإمام أحمد بن حنبل يسمّيه أمير المؤمنين (الخطيب البغدادي في تاريخه ص 148).

والفراسة هي فطنة ينظر الإنسان بعلامات تفتح له مجالاً واسعاً، وليست ميسّرة لكل شخص، بل هي هبة من الله جلّت قدرته، يجب أن يقرنها صاحبها بالعمل الإيماني، والمنزلة التعبّدية، لأنها سر من أسرار النفس يتفاوت فيها البشر، كما يتفاوتون في خصائص عديدة: كالذكاء والحفظ وحدّة النظر، وإرهاف الحس والصبر والتحمل، وغير ذلك من القدرات التي ينميها حسن التوكّل على الله، وترك المعاصي، كما قال الشافعي رحمه الله، عندما اشتكى إلى شيخه رغبة في العلم، وخوفاً من الفوات:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فارشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم نور

ونور الله لا يؤتاه عاصي

فسبحانك يا رب ما أعظم فضلك، وما أكثر ما تمنّ به على هذه النفوس البشرية من هبات وعطايا لا تُحصى، وما أبلغ ما أودعت فينا من أسرار وعجائب هي منك، فأعنا على شكرها وذكرها وتجاوز عن قصورنا وأخطائنا فإنك جواد كريم.

mshuwaier@hotmail.com

تفاضل البشر
د.محمد بن سعد الشويعر

د.محمد  بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة