Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 28/05/2013 Issue 14852  14852 الثلاثاء 18 رجب 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

ومن المُتَعذَّر في ظل هذه الفَوْضى غير الخلاقة تَوحيد المصطلحات النَّقْدية. ولكي نُوقِف هذا التشرذم، لابد من تنسيق عَرَبيٍّ مُوَحِّد، يَضع للمصطلح صِياغةً واحدةً، وتعريفاً واحداً، ومفهوماً واحداً، سواء تُرْجم إلى اللغة بما يناسب النص الأصلي، أو نقل دون تعريب، أو عُرِّب على صيغة صرفية. وعلى الأَشْكال الثلاثة قد لايُضْمن الاتفاق.

فلقد وجدنا في النقل اللفظي اختلافاً كثيراً، فضلاً عن التعريب، أوالترجمة. ولكيلا نكون متشائمين احبْاطيين، فإننا نشير إلى مُحاولات جادَّة من بعض المَعْجَمِيين، لتفادي هذا الاضطراب، ولكنها جهود مُبَعْثرة، وغير متواصلة. وفي مقدمة هؤلاء العلماء [عبدالواحد لؤلؤة]و[الشاهد البوشيخي] و[أحمد مطلوب] و[عبدالسلام المسدِّي] وآخرون، تناولوا جوانب من الاشكالية، مستشعرين خطورتها، وضرورة تفاديها، ولكنها جهود لم تُفَعَّل بالقدر الكافي، ولم يطع لها أمر، وإن كانت في مُتَنَاول أيدي المُهْتَمِّين من الأدباء والنُّقادَّ.

قد يتوهم البعض أن ثمة فوارق بين المُصْطلح بَوصْفِه نصاً، والمنهج والآلةِ بوصفهما إجراءاً. والحقيقْة أن المنهج والآلة يُخلقان في رحم النص، ويُتَرْجمان مفهومه، ويحققان مقاصده. والمصطلح يقوم في المنهج والآلة كقيام الروح في الجسد، إذ لاقيمة للجسد بدون روح، ولا تصور للروح بدون جسد! وتلك العلاقة تُحتَّم على المتلقي أن يَسْتَكْنه المُصْطلح نصاً ومفهوما، ومقصداً، ومنهجاً، وآلة. وحين تتجسد تلك الرغبة، ثم لايكون المتلقي أمام مصطلح واحد بلفظه فضلاً عن مفهومه ومقاصده، يَضطرب عنده المنهج، وتَكِلُّ الآلة. وقد يأخذ ناقدٌ بمصطلح ومنهج، وفْق نصه الذي ظفر به، فيما يأخذ غيره بذات المصطلح، ومايصحبه من منهج وآلية مغايرة، لأنَّه تَلَقَّى الترجمة، أو التعريب، أو النقل، أو التعريف من مصدر مغاير.

والذين يتلقون من المترجمين الذين قد لايسيطرون على اللغتين المنقول مِنْها والمنقول إليها، ولايلمون بالأدب وتياراته، يَحْمِلون الدَّاء ويشيعون الخطأ.

ومن ثم أصبح من الضروري التأصيل والتحرير، قبل البدء في النقد من خلال تلك المذاهب الوافدة. ومكمن الخطورة في قراءة النص التشريعي بالمناهج والآليات الحديثة، ذلك أن النَّصَّ رسالة تَعّبَّدية وأحكامية وأخلاقية، ومناهج النقد الحديث حين تتحكم بالنص الإبداعي تكون الخطورة أقل، لأنها محصورة بين المنتج والمتلقي، والنص الأدبي لايحمل مادة دستورية ولاقانونية، ولاينْطوي على أمرٍ، أو نهيٍ، أو إقرار. وتلك بعض مصادر التشريع الإسلامي.

والأصوليون، حين يقولون:- [لا اجْتِهاد مع النص] فإن مفهوم النص لديهم يختلف عن مفهومه عند الأدباء والمبدعين والنقاد: المطبقين والمنظرين.

ومتى اختلفت الحقول المعرفية، اختلفت بالضرورة المسميات والمناهج والآليات. ومن ثم لزم أن يكون لكل حقل معرفي مصطلحه، ومفهومه، ومنهجه، وآليته. وذلك بعض التطلع إلى التحرير والتأصيل الغائبين عمن يتعاطون مع النص بمختلف حقوله المعرفية والإبداعية.

فالنص عند الأصوليين: هو الدليل البرهاني القطعي الدلالة والثبوت، ومن ثم لايكون القول الاحتمالي الدلالة والثبوت نصاً، فيما يكون النص عند الأدباء والنقاد مجرد القول الأدبي، سواء أكان قطعيَّ الدلالة، أو احتماليَّها. ولربما يقع بعض المتعالمين في الخطأ، حين يتصور أن تلك القاعدة الأصولية [لا اجتهاد مع النص] تمنع الاجتهاد. وآفة هذا التصور الفهُم السَّقيم. والنص الإبداعي أو التشريعي حين يتلقفه المتلقي، لايكون المتلقي بالضرورة بريئاً، ولايكون النص قَطْعي الدلالة، وذلك مكمن الخطورة.

فالمتلقي محكوم بأنساقه الثقافية، وانتماءاته الدينية، والفكرية. وقد يبلغ تَحكُّم الأنساق مَبْلَغ عُقْدَة الأبوية، ومن ثم يُعطل المتلقي قدراته الذاتية، وحَقه في الفهم، ليقرأ بعيون الآخرين، هذا فضلاً عما يقترفه النص من مراوغة، لاتمكِّن المتلقي من السيطرة عليه. ولهذا قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:-

[لاتجادلوهم في القرآن فإنه حَمَّال أوجه]. فالنص يعتريه الغموض، والتعقيد، والغرابة، ولاتخلو جمله النحوية من تنوع مصادر الدلالة، فهنالك دلالة وضعية، ومجازية، وسياقية. وقد تكون الدلالةُ الوضعية مرتبطةً بأكثر من أصل. فأصول الدلالة تكون واحدة، كـ[جَنَّ] وتكون متعددة الأصول كـ[ثَبَر] إذ أصوله ثلاثة تعني:-

-السُّهُولة.

-والهلاكُ.

-والمواظَبةُ.

وماليس بأصل، كـ[بَيْص]، لأن بَيْص إِتْباع لِحَيْص. وقد تكون الكلمة من الأضداد، كـ[الظن] فإنها تعني: الشك واليقين.

وكم من كلمة لو لَمْ يكن وَراءَها سِياقٌ يحدد مفهومها، لانقلبت إلى ضدها. وذلك بعض تحرير قراءة النص، التي لم يُعرها البَعْض أيَّ اهتمام، وهي من الأهمية بمكان، يقول الله تعالى :- [فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم] فرأسُ المال: يعني مابدأ به التائب في المضاربات الرَّبَويَّة. ويعني مافي ذمم المرابين قبل التوبة، بصرف النظر عما يملكه من المضاربات السابقة. وقوله تعالى:[ وإن كان ذُو عُسْرةٍ فَنظِرَةٌ إلى ميسرة] يعني أن رأس المال هو ما في ذمم المرابين. فكأن قوله تعالى:[فلكم رؤوس أموالكم] تُصَاغ هكذا:-[فلكم رؤوس أموالكم التي في ذمم المرابين، وتحصيلُها يكون مع اليسار]، فوضع الزيادة الربوية، لايقتضي فورية التحصيل، مالم يكن المدين قادراً على السداد. علماً أن طائفة من الفقهاء لايأخذون بالتفسير السياقي، ويحكمون بالتخلي عن كل ماحصل عليه المرابي منذ أن اقترف خطيئة المراباة.

وتلك من المسائل الخلافية التي يراها بعض الفقهاء من الاخْتلاف غير المعتبر. ولسنا بصدد الحكم بصحة أحد القولين. ولكننا نشير إلى تأثير الدلالة السياقية، وهي من أهم قضايا تحرير قراءة النص وتأصيلها، ولك أن تجري الدلالة السياقية في آية الأنعام [والأنعام خلقها لكم...]، فلما فرغ من المباح أكله، شرع بذكر المحرَّم فقال:-[والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالاتعلمون] إذ لم يقل هنا [ومنها تأكلون]. وهذه الدلالة السياقية لم يأخذ بها كل الفقهاء. وهي من الأهمية بمكان، وبخاصة في نطاق التشريع، واستنباط الأحكام. تلك أمثلة، وليست فُتْياء، أردت منها إبراز أهمية السياق. ولم أرد فض الخلاف بين الفقهاء، وحتى لولم يأخذ البعض في هذه الدلالة، فإن المقتضى البنائي يحتم النظر اللغوي. والمفسرون يشترطون في المفسر توفره على اللغة وعلومها. ولن نمضي مع نظريات نسخ القرآن بالسنة، ولا مع العموم والخصوص.

ولما كان النص مُتَشكَّلاً وفق نظام بنائي، وذا أبعاد دلالية وجمالية، فإن للدلالة عِلْمَها، وللجمال فلسفته، كان لابد من التوفر على امكانيات مناسبة لمستوى النص وعالمه، ليكون النص في إطار الممكن، ومالم يكن النص مُنْتَج ظروفٍ يَعِيْشُها المنتجُ والمتلقي، فإن الفجوة بين الطرفين ستكون عميقة وعصية على السيطرة. وقد تصنَّف عملية التواصل مثلما صُنِّفَتْ ترجمة الشعر، ووصفت بأنَّها خيانة، ولقد لمسنا تباين الظروف بين إنتاج النص، وتلقيه في تفسير القرآن الكريم. فالصحابه تلقوه بفهم يكاد يكون جماعياً، وحين دخل الناس في دين الله أفواجاً، وتَلقَّى القرآن من لم يعيشوا أجواءه اختلفت القراءات، ونشأت الفرق والطوائف.

فقراءة النص محكومة بمؤثرات خارج البناء اللغوي، ولعلنا نستذكر أجواء النص، وتحكم هذه الأجواء وانطواءها على معطيات دلالية ليست مرتبطة بالدلالة المُنْبَعِثَةِ من ذات النص، وليس هناك فرقٌ بين الابتسار من النَّصِّ، وابتسار النص.

فالمُبتَسِر من النص يخل في أدبيات التلقي وأمانته، وابتسار النص هو الآخر يحول دون استكناه طبيعته وأجوائه وجغرافيته.

فالابتسار من النص تحريف للكلم من بعد مواضعه، وابتسار النص عزل له من أجوائه. ومالم يكن القارئ مستشعراً أهمية الأشواط الدلالية وهيمنة الأجواء، فإن القراءة ستكون غيرَ أمينة، وغيرَ مؤتمنة، وكم من قارئ متسطح يُقَوِّل المنتج مالم يقل، وكم من قارئ لما تحت السطور يكتشف دلالات لم تكن من أولويات المنتج، وقد تكون من مُضْمراته.

وهذا [المتنبي] حين يُسْأل عن مُشْكِل شعره، يوجه السائل إلى الشيخ الأعور [ابن جني] ويقول:- اسألوا الشيخ الأعور فإنه أعلم مني بشعري، وإنه ليقولني مالم أقل. فما هي إذَاً آليات [ابن جني] ومناهجه؟

إنها لاتختلف عن آليات غيره ومناهجه. وقدراته الزائدة مردُّها إلى معرفة [ابن جني] بنفسية المتنبي ومضمراته. و[العقاد] حين كتب عن [ابن الرومي] فاق غيره من الدارسين، ومرد ذلك فهمه الاستثنائي لنفسية الشاعر، وتوظيفه لآليات علم النفس، لتثوير النص الشعري.

إن العملية القرائية، مرتبطة بـ[علم الدلالة]، وبأجواء النص. ونفسيةُ المنتج. وتفاوتُ القراءات، تعطي مؤشرات تنفصل عن دقة المنهج وحِدَّة الدلالة.

وعلوم اللغة قد يلم بها من لايحسن استخدامها. وهنا لابد من استدعاء اشكاليات النحو المعياري، والنحو التطبيقي. وكم حافظٍ لمتون النحو لايحسن القول، ولا يتوفر على سلامة الكتابة. ولنا أن نقول: كم حافظ للقرآن، لايحسن كتابة نص أدبي.

ومعتصر المختصر أن قراءة النص لاتقل خطورة عن إنتاجه، وإذا كنا نشترط في الشاعر الموهبة، والثقافة، والموقف، والأجواء المساعدة لإنتاج النص، واللغة الشعرية. فإننا نشترط في المتلقي المتذوق والناقد، الهيمنة على النص، وذلك بالتوفر على الثقافة ذاتها، وتصور الموقف ذاته، واستكناه جغرافية النص، والالمام بأدوات اللغة من نحو، وصرف، وبلاغة وفقه للغة، ومعرفة بجمالياتها.

وجغرافية النص تدخل فيها الحالة النفسية، والاجتماعية، وحضور السلطات الثلاث: السياسية والدينية والمجتمعية.

أحسب أنني بهذا حددت المراد بالتَّأصيل والتحرير. ويقيني أن فوق كل ذي علم عليم.

معضلات قراءة النص (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل

د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

طباعة حفظ

للاتصال بنا الأرشيف الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة