Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 27/06/2013 Issue 14882 14882 الخميس 18 شعبان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

الإستراتيجية كما قلنا في مقالاتنا السابقة هي متعلقة ولصيقة بعدم اليقين والمستقبل؛ والإستراتيجي يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة؛

فالإستراتيجية تختلف عن تنفيذ برنامج أو ما هو محدد سلفا.

وفي مؤلفه “الطبيعة والطبع” ميز كريكوري باتيسون بين نوعين من التصرف في مجال عدم اليقين وضرورة التاثير القويم فيه وذلك بالرجوع إلى مثالي الرمي بالبندقية والرمي بالسهم. ففرق بين الرامي الذي يعتد بجهاز التسديد من أجل الرمي، والرامي الذي يقوم بعملية الرمي بالاعتماد على التفاعل مع الهدف وتعديل عملية الرمي بناء على خط مسار الهدف. النوع الأول يعد من قبيل “المعايرة”، بمعنى تنفيذ برنامج معين.. أما الثاني فهو “تفاعلي”، وهو عبارة عن إستراتيجية مبنية على مقاربات حسابية تتوخى الدقة حتى إصابة الهدف. وكمرجعية تنظيمية، نجد أنفسنا أمام المرجعية السياسية وتعد الإستراتيجيات الممكنة من حرب أو سلم بناء على الإمكانيات التي توفرها المرجعية السياسية.

أما المرجعية الإستراتيجية فهي التي تعتمد على اختيار وتوجيه وتحديد المعارك العسكرية أو الدبلوماسية من منطق حالة الحرب أو المفاوضات من أجل السلام التي تضعها المرجعية السياسية. والمستوى العملياتي هو ما يرجع من اختصاص للقائد الحربي في الميدان.

أما المستوى التكتيكي فهو الذي يتم فيه اختيار وتوجيه وتحديد مجريات العمليات القتالية الممكنة في إطار معركة حربية. وكمثال توضيحي كان المارشال إورين رومل يراكم الانتصارات التكتيكية ليصل إلى الانتكاسة الإستراتيجية للنازية في معارك شمال إفريقيا والتي مكنت الحلفاء من الإنزال الميداني وغزو سيسيليا وإيطاليا، وبالتالي فتح الجبهة الثانية في أوروبا، حيث تم إنزال نورماندي في 6 يونيو 1944 في نفس يوم دخول الحلفاء إلى روما. انطلاقاً من هذه اللحظة، وبينما هي بصدد معالجة تفاصيل عسكرية ميدانية، خسرت ألمانيا الحرب.

وبدون الأخذ بعين الاعتبار هذه المستويات التراتبية المتعلقة بإكراهات وارتباط مستويات “سياسية -إستراتيجية- تكتيك” ببعضها البعض، كانت بداية النهاية لألمانيا النازية، كما أعلن ذلك ولسون تشرشل بوضوح، والذي كان في نظره انتصار الحلفاء في شمال إفريقيا يشكل “نهاية البداية”، مع عمليات الإنزال في القارة الأوروبية. وانطلاقاً من هذا المنظور أمكن لجورج كليمونصو القول أن: “الحرب مسألة من الجدية بمكانة تدعو لأن لا تترك للجنرالات”.

وانطلاقاً من طريقة الأداء، ميز كريكوري باتيسون بين “المعايرة” و”التفاعل” اللذين يرجعان بانتظام إلى تنفيذ برنامج معين أو إلى تنفيذ إستراتيجية. الطريقة الأولى عبارة عن تصرف يتمحور حول قواعد أداء معدة سلفاً بمعنى مجموعة إعدادات جاهزة. أما الثاني فيتعلق بعمليات تصحيح بعدية متواترة.

ثم إن عمل الإستراتيجي يكون مختلفاً عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يرتئيه الإستراتيجيون، أي أن مجال تدخله يبقى مرتبطاً بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ هذا هو دوره؛ أما عمل الإستراتيجي فهو أهم من ذلك. فالحل العسكري عند الإستراتيجي مثلاً ليس هو الغاية الوحيدة لتحقيق الأهداف العليا للوطن بل هناك وسائل أخرى اقتصادية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية ينهجها الإستراتيجيون للوصول إلى الأهداف المبتغاة.. فالتدخل الفرنسي الأخير في مالي كان نتيجة قرار إستراتيجي تبناه الإستراتيجيون الفرنسيون لتفاقم الأوضاع الأمنية في مالي، وتوالد وتكاثر الحركات الجهادية العابرة للأمصار والأوطان، وبداية تفكك الدولة المالية نتيجة لذلك وتعريض المصالح الإستراتيجية في المنطقة للخطر، وإمكانية انتقال العدوى إلى مناطق جغرافية موازية، وإمكانية نقلها إلى جنوب أوروبا مع عولمة التنقل وصعوبة تطويق الإرهاب العابر للقارات.. فمن بين العشرات من الحلول الممكنة والتي كان بإمكان فرنسا أن تقدمها للحكومة المالية دون أن تتدخل -أي القوات الفرنسية- كإعطاء المعلومات الكافية عن تلك المجموعات تلتقطها الأقمار الصناعية وتكلف الجيش المالي بالتدخل، أو تزويد الجيش المالي بالدعم المالي وبالدعم اللوجستيكي من دبابات وصواريخ وطائرات.. ارتأى الإستراتيجيون الفرنسيون التدخل عسكرياً بإرسال قواتهم العسكرية إلى الميدان مصحوبة بكل أنواع العتاد لأنها أفضل وسيلة للوصول إلى الغاية المرجوة، وهو القضاء على تلك المجموعات الإرهابية، لهشاشة الدولة المالية وضعف جيشها وأمنها وحكومتها على السواء.. وعند أخذ هذا القرار الإستراتيجي تدخل المخطط الفرنسي لتحديد أنواع الأسلحة التي يمكن استعمالها في مختلف المناطق وعدد الجيوش التي يجب أن ترسل إلى غير ذلك.

فالإستراتيجي يعمل في بيئة دولية معقدة يصعب قراءة معالمها ولكنه يحاول التأثير فيها وفهم أهم مقوماتها بأدوات علمية. ومنذ نهاية الحرب الباردة حذرنا كبير المنظرين الأمريكي جيمس روزنو في كتابه (اضطراب في العالم السياسي) من أية محاولة فكرية لاستقراء كلي للعالم باعتباره نظاماً قابلاً للتحديد والتعريف. فالبيئة الدولية مطبوعة بتعقد لا متناه، إذ تحضرك عوامل التكتلات هنا (كتوحد الألمانيتين مثلاً) والتمزق الكلي هناك (كحال الاتحاد السوفياتي أو يوغوسلافيا) ورجوع المعيار الديني (كما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية) أو تراجعه هناك (كما هو شأن الدول الأوروبية)؛ وظهور نوع من السلطوية الجديدة للدولة (كشأن روسيا) أو تراجعها (كما هو شأن الدول الأوروبية) كما يظهر بجلاء الدور المتزايد للفرد كفاعل دولي متميز في قراراته واختياراته ليضع القوانين ويثمنها وليبني السوق أو يساهم في تقويضها، كما أنه يختار لنفسه الدول التي يزورها، ويقوم بإصدار أحكام على الفاعلين الدوليين، وقد يساند قضية ما أو يحاربها.. كما ظهرت نزاعات متتالية وعمليات إرهابية لا متناهية وأزمات سياسية داخلية وجهوية تطعم بنقاشات وقمم عقيمة (كما هو شأن سوريا) أو صعبة (كمحاربة الإرهاب)، وتبقى أسئلة معلقة دون أي مدلول أو فائدة يرجى منها. وهي الآلاف من الأسئلة التي تعبئ الإستراتيجيين والخبراء والسفارات وأجهزة الدولة والقيادات العسكرية المعنية بالتنبؤ الإستراتيجي أو الرد أو الاحتواء الإستراتيجي لكل ما تراه ضروريا. وفي دراسة جماعية موسعة كنا قد قمنا بها منذ سنوات لفهم العوامل المحددة في فهم البيئة الدولية، أجاد المفكر والمنظر الفرنسي فريدريك شاريون في وضعه لبعض الإشكاليات الجادة: فهل يمكننا، رغم إنذار جيمس روزنو وعلى أرضية جد متحركة، تعبئة العلوم السياسية أو العلوم الاجتماعية من أجل استباق التوجهات المستقبلية؟ وهل ستمتد بعض من التوجهات الحالية لتسوغ العلاقات الدولية التي ستشهدها السنوات القادمة؟، فلن تشبه مواجهات اليوم مواجهات الغد، ولن يبقى سلام اليوم مضموناً غداً. بل يبدو أن هناك خصائص عديدة ترسم ملامحها تحت أعيننا بطريقة مستدامة.

ويبدو أن تراجع الدول في خوض الحرب بمعية مقاوميها الاجتماعيين وفاعليها الخواص، وفشل التدخل العسكري الخارجي ذي الصبغة “الاستباقية”، قد انطلق انطلاقة جيدة ليتصدر معالم يجب أخذها بعين الاعتبار، فاسحاً المجال أمام مقاولي الهوية والدين وغيرها. وبتحويل مبادرة أحد محركات العلاقات الدولية الأساسية (لغة الحرب/ السلم أو النزاع/ تعاون) إلى فاعلين مجزئين وخواص متحركين يصعب تحديد هويتهم، ستصبح الساحة الدولية الجديدة بعيدة التوقع ولكن قواعدها تظهر شيئاً فشيئاً. وضعيفة هي الحظوظ لكي ينقلب هذا المنحى، ولكن يفترض إخبار أصحاب القرار، إذ لن ترسم الدول وحدها خارطة العالم حسب معطياتها الدبلوماسية والعسكرية.

عن الساحة الدولية الراهنة
د. عبد الحق عزوزي

د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة