Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 12/07/2013 Issue 14897 14897 الجمعة 03 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

قررت بريطانيا مؤخراً منع دخول كبد الأوز الفرنسي (FOIE GRAS) إلى أراضيها، لقلقها إزاء سوء معاملة الأوز والبط في فرنسا، وكان سوء المعاملة عبارة عن إطعام الأوز الذرة بالإكراه.

مسكت رأسي بعشري وأحسست صدقا بغصة تخنقني أمام تلك العبارة السالفة- كما يحس بها كثير من أبناء الأمة الشرفاء - على حالها هذه الأيام وعلى حال الإنسان العربي (فيما يسمى بلاد الربيع العربي تحت وطأة الجوع والعذاب) الذي يتمنى أن يكون (وزة) في أوروبا، لأنه يحتاج إلى أزمنة كي يعالج من الآثار النفسية بسبب مشاهد الترويع والتقتيل والتهجير وماأفرزته حالة الفوضى من طرق جديدة للموت تجاوزت وحشيتها الخازوق والمقصلة والفرم والسحل في التاريخ الإنساني، حال تشكى إلى الله وحده ابتداء من سوريا ريحانة التاريخ والتي تم تدمير حضارتها بالكامل ليشهد العالم كل مساء على شاشات التلفزة بكاء قاسيون المطل على حبيبته دمشق وهي تحترق كما احترقت روما ذات زمان غابر على يد طاغيتها نيرون ليستمتع بقطعة موسيقية سخيفة، ومرورا بسواد العراق الذي تم تجريفه ليتصحر أيضا ذلك السواد الذي تحول إلى هشيم تذروه الرياح، وكان قبلا يسمى سوادا من شدة خضرته وتشابك أغصانه، ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تعكر صفاء دجلته وفراته في هذا الواقع الموجع بدماء العروبة المستباحة على يد أبناء جلدته وليس بحبر مخطوطات دار الحكمة على يد الغازي هولاكو المغولي الذي أعلن آنذاك سطوة الغزاة، كما يعلن واقع العراق اليوم أن لاحكمة تشهدها الساحات ولادار يستظل بها الإنسان العراقي من هجير الطائفية المقززة، وانتهاء بمصر العبقرية والحضارة والتي يكاد يسقط كبرياؤها من أهراماتها الشاهقة وهو يردد عبارة سعد زغلول بعد محاولاته الحثيثة للملمة الخلافات التي استعصت على الحل واستعصى أطرافها على الالتقاء فقال لزوجته ذات مساء حزين حينما اختار لزوم سريره :”غطيني ياصفية... مافيش فايدة” إعلانا لحالة الإفلاس والهزيمة وعدم التفاهم مع من حوله على الأصعدة كلها، وهي حالة من الإحباط تشبهها حالة شيخ الأزهر أحمد الطيب حينما أعلن اعتكافه في بيته حتى انتهاء أعمال العنف بمصر قبل أيام.

لا أدري لماذا يختزل العرب ما يسمى بالديمقراطية في صندوق الاقتراع وطوابير التصويت فقط، بينما الديمقراطية في الغرب عبارة عن منظومة متكاملة وأسلوب حياة كاملة قد تصطدم في بعض من مبادئها وتطبيقاتها بحياة المسلمين، وأقل تطبيقاتها في الغرب أن تبدأ من مصافحة المنتصر للمنافس المهزوم وليس محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، والتربص به وعزله وتطويحه خلف السموات كما هو في ديمقراطية العرب وشرعيتها المزعومة، وسخفا بعقول الجماهير عدوا ذلك الصندوق الأشبه بصندوق الدنيا في عرضه لعجائب شخصياته الكرتونية هو الشرعية الوحيدة التي يرفضون بموجبها كل مطلب من مطالب المواطنين وحقوقهم التي كفلها لهم دستورهم ووطنهم الأم، ويعدون تلك المطالب الضرورية عدوانا على الشرعية واغتصابا لها، والأعجب من ذلك أن دلالة الشرعية في أذهان أولئك قد تغيرت من شرعية قول الله جل وعلا إلى شرعية ما قاله الشعب المختلف المشارب وصناديق الاقتراع، وطالما كانوا في مواجهاتهم مع ما يسمونهم أعداء الأمس طيلة عقود ينطلقون من المعنى الأول الذي استبدلوه فجأة حينما وجدوا خطرا على اعتلاء كرسي السلطة.

إن الشرعية في النظام الديمقراطي لا تعني خيارا مفتوحا لمن انتخبهم الشعب، ولا تعني ممارسة الإقصاء للشخصيات الوطنية التي لا تنتمي للمنظومة أو الحزب أو الجماعة، ولا تؤمن باختطاف القرار والتصرف به على أن الجماعة الفائزة يحق لها أن تشرق بالناس وتغرب بالمؤسسات الوطنية في دهاليز الظلام والحزبية، ولايحق لها أن تطمس الهوية وتصادر المصلحة العامة وتعطل مستقبل نصف الشعب بحجة أن النصف الآخر انتخبها.

إن الشرعية في النظام الديمقراطي لا تعني الاستبداد الفكري وفرض الوصاية على أطياف المجتمع الأخرى والتي من حقها أن تمارس عليهم الاحتساب والرقابة، عبر المؤسسات التشريعية، وعبر النقابات والمنظمات الشعبية والمهنية، وعبر الصحافة والإعلام، والتظاهر السلمي والعرائض التي يسمح بها النظام ويكفلها الدستور، ومن حقها أن تحجب الثقة بتنحّي رئيس الدولة المنتخب أو الحكومة المشكلة أو حل البرلمان والاستفتاء على مواد الدستور .

وفي مقابل ذلك فلا شرعية في النظام الديمقراطي للمنتخب حيث لايسأل عما يفعل وهم يسألون، ولايحتج بالتصويت والاقتراع إن عرض الرئيس البلاد للخطر بأي مقدار كان، وهناك مؤسسات رقابية تقف أمام تحويل الرئيس مؤسسة الرئاسة إلى مؤسسة خاصة له أو لحزبه أو جماعته، وسيجبر على تقديم الاستقالة ويفرض عليه التنحي قبل المساءلة القانونية ولا أدل على ذلك ماحصل في الولايات المتحدة الأمريكية (النموذج الديمقراطي ) حينما أجبر الرئيس المنتخب نيكسون على تقديم استقالته واضطر للتنحي في بداية فترة رئاسته الثانية بسبب فضيحة ووترغيت تحت وطأة تهديد الكونغرس بإدانته، ولم يحتج بصندوق الاقتراع وشرعية التصويت.. وكذلك كاد كلينتون أن يجبر على التنحي بسبب فضيحة جنسية، علما أن هذه التجاوزات من الرؤساء الأمريكان لاتعد تجاوزا قياسا بما فعلته مؤسسة الرئاسة في مصر حينما ألغت الدستور وأقصت النخب واقتصرت على جماعة واحدة وعطلت القضاء وعزلت القضاة، ولذلك كان حقا على الرئيس مرسي ألا يقبل وصاية من مرشد ولاتنظيم ولاجماعة، ويدير مصر ونخبها وطوائفها ومؤسساتها من منطلق لا يؤمن بالطائفية والحزبية والإقصاء، وكان حقا عليه أن يبحث عن التصالح مع الأعداء قبل الأصدقاء حبا في رسم الطريق الصحيح لمصر وشبابها الهائم على وجهه بحثا عن نور في هذا النفق المظلم، وبناء على الأخلاق الديمقراطية كان عليه أن يستجيب لإرادة نصف الشعب بنفس مطمئنة حينما نزلوا بالميادين تعبيرا عن رفض تلك الحالة الحزبية التي اكتسحت ذهن مؤسسة الرئاسة،كما فعل العظماء من قبله في لحظات تاريخية عرفوا استغلالها لصالحهم، ومنهم الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، عظيم فرنسا كما يلقبه المؤرخون حينما تنازل بشرف وكبرياء حفاظا على تاريخه وتاريخ فرنسا، وقد كان وطنيا ومحررا لفرنسا من الغزو والوصاية والفاشية، ولأنه عظيم فرنسا لم يصم آذانه عن الشارع الفرنسي الذي لم يستحضر رمزيته وتناسى مواقفه البطولية ونضاله الوطني من أجلهم، ولأنه يحب فرنسا ويحب المواطن الفرنسي احترم غضب الشعب الفرنسي في انتفاضته الكبيرة (انتفاضة مايو1968) . ولم يجادل الشعب في حقه ، ولم يلق خطابا تحريضيا لشعبه على بعضهم ،كما لم يصف شباب فرنسا ب”البلطجية” والخارجين على القانون وعليهم أن يعودوا لجحورهم . وحين لم يحصل من الاستفتاء على ما أراد بالنسبة الغالبة - علما أنه فاز ولكن ليس بأغلبية - انسحب هذا العظيم بشرف وإباءيَليق بالكبار .

كثيرون رسبوا في أول اختبار، حينما كسروا بوصلة التعايش، ونسوا أو تناسوا أوجاع البشر المحيطين بهم ، كثيرون مسخوا إلى خطايا لأنهم صموا آذانهم واعتقدوا أنهم معصومون ومحتكرون للحقيقة، فعاشوا وأجبروا من حولهم أن يعيشوا في حالة نزف وأقنعة وقنوط وعدمية وفقدان الرجاء بالخلاص من هذا القدر المؤلم. كثيرون سقطوا في عورات الأحزاب والقوى السياسية، وحلقوا في بروج عاجية معزولة عن حاجات البسطاء في الشارع، وسنوا قرارات لا يمكن أن تصنف إلا مابين السيئ والأسوأ...

وبعد كل هذه التجارب الفاشلة في الربيع العربي هل أدركت نخبنا السياسية في تلك البلاد الثائرة، ولو متأخراً، أننا نحن العرب لا زلنا في مرحلة عصور الانحطاط الأخلاقي والثقافي والسياسي ولانملك أجوبة عن أسئلة النهضة والتنوير والإصلاح والتعايش الموعودون بها منذ أزمنة التخلف البعيدة، وهل أدركت نخبنا الدينية فيها أيضا أننا تعبنا من واقع قسم مجتمعاتنا إلى خنادق متقابلة، وثقافات متعارضة، وتيارات متصارعة، وعداء للأمم الأخرى، وصور لم تشهد البشرية وحشيتها وهل يمكن لذاكرة العالم المتمدن أن تنسى صورة في مصر لمجموعة من الإخوان المعترضين وهم يلقون مواطنا من أعلى البنايات ليسقط ميتا على الأرض في الأسكندرية، وهل يمكن لها أيضا أن تنسى صورة في المشهد السوري لا تقل وحشية عما حصل في مصر، صورة تعفّ عنها الضواري والحيوانات والبشر البدائيون الذين يسترون عوراتهم بلحاء الشجر حينما ينتزع في تلك الصورة آدمي القلوب من الصدور ويلتهم الأكباد أمام شاشات التلفزة، وهل يمكن للعالم مرة ومرات أن ينسى صورة ذلك المسلم الزنجي يلوح بساطورته في أحد شوارع ضاحية (وولويتش) جنوب شرقي لندن وضحيته تنزف أمامه ويخاطب الناس في الشارع بلغة عدائية ويردد الله أكبر، فأي بشر أولئك، وأي مشروع يروجون له وهم بهذه الوحشية، التي لا تتفق مع مبادئ الإسلام العظيم الذي حرم التمثيل بالجثث وموت الضمير وخيانة العهود والأمان وأكل كبود الموتى ...

وأخيرا... مافيش فايدة ياسعد أمام هذه الثقافة، لأن هؤلاء المتوحشين بتصرفاتهم غيرالمسؤولة يقدمون ألف مسوغ لأي نظام أمام العالم ووسائل الاتصال أن يبطش وأن يستخدم في حربه عليهم وعلينا الممكن وغير الممكن.. والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
عميد الموهبة والإبداع والتميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

قَالَهَا سَعَد زَغْلُولْ:غَطّينِي يَاصَفِيّةُ... مَافِيشْ فَايدة!!
د. عبدالله بن ثاني

د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة