Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 29/07/2013 Issue 14914 14914 الأثنين 20 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

عندما فتح الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود - يرحمه الله - الرياض في الخامس من شوال 1319هـ (1902م)، واستعاد الحكم وأُعلنت إمامته للناس، كان يستند إلى شرعية تاريخية منذ قيام الدولة السعودية الأولى في الدرعية عام 1157هـ (1744م)...

... بدلالة أنه استطاع توحيد الجزيرة العربية في زمن قياسي تحت راية إسلامية واحدة، رغم أنها أشبه بقارة مترامية الأطراف، بل إن كثيراً من القرى والحواضر والقبائل دخلت طواعية في طاعة الملك عبد العزيز دون قتال؛ لأنها تعي معنى البيعة المعقودة في أعناق الناس لهذا الملك الإمام، امتداداً لأجداده على مدار تاريخ الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، حتى قيامه بتأسيس الدول السعودية الثالثة باسم (المملكة العربية السعودية)، ومن ثم تعاقبت البيعة إلى أبنائه من بعده إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - فصار آل سعود رمزاً لوحدة الوطن، يلتف حوله الناس، وعرف أهل الجزيرة العربية عهداً جديداً؛ إذ سكن الناس وشاع الأمن، وذابت ثارات القبائل، ونزاعات الطمع والفرقة، وقام كيان سياسي عظيم وفق أعراف الدولة الحديثة، واستعادت الجزيرة العربية مركزها الحضاري للأمة الإسلامية منذ انتقال الخلافة بعد الراشدين إلى الشام ثم العراق ثم تركيا.

من هنا يمكن فهم القيمة العظيمة للبيعة في الإسلام ودورها في استقرار الدولة ووحدة الوطن والأمة، كونها تشكّل المحور الرئيس للبناء السياسي، الذي هو أساس كيان الدولة، فالبيعة تعني (المبايعة على الطاعة)، ومفهومها هو عهد على الطاعة من قبل رعية المسلمين لراعيهم من أجل سياسة شؤون الدين والدنيا بمقتضى شرع الله، وبهذا ترتبط البيعة بدين الشخص المبايع وأمانته أمام الله. وعليه تبدو البيعة ميثاقاً وعهداً متيناً، يمتد إلى ما بعد الموت، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”؛ وبالتالي فمن صحت له الإمامة، وانعقدت له البيعة، واجتمع عليه الناس، صارت له البيعة معقودة في أعناق المسلمين، سواء كانت بوفاق شوري بين المسلمين، أو حكم متغلب استطاع أن يقضي على الفتنة ويستقر معه الأمن فرضي به الناس.

والبيعة تكاد تكون الاستثناء الوحيد للحضارة الإسلامية بين الحضارات الأخرى في تطبيق آليات الحكم ضمن المجال السياسي؛ ما جعلها ركيزة أساسية لكل كيان سياسي وصمام أمان لاستقرار الدولة على امتداد تاريخ دول الخلافة والأنظمة الملكية والأميرية، التي قامت بعدها في المنطقة العربية؛ ما يكشف الجانب الإيجابي للفكر الإسلامي السياسي العريق المتمثل في شرعية (بيعة الإمام)، مقابل شرعية (الصوت الانتخابي) للنظم السياسية الأخرى من جمهورية أو ديمقراطية أو عسكرية أو ملكية دستورية. لكن صيغة البيعة تبدو في الواقع العربي أقوى من الصوت الانتخابي، الذي يسقط بالانقلابات والتكتلات الحزبية، أو يفقد قيمته بتزوير الانتخابات والاستفتاءات فتكون النتيجة أنظمة ديكتاتورية كما حصل في كثير من نظم الجمهوريات العربية، أو يتم التحايل على الصوت الانتخابي بديمقراطيات شكلية محكومة بمصالح القوى في البلد الواحد كما هو حاصل في كثير من الدول التي تتغنى بالديمقراطية، بينما إقرار البيعة من قِبل المسلم يجعل في عنقه عهداً لهذا الحاكم أمام الله، لا يحق له نزعها إلا بتوافر شروط، أبرزها عدم العمل بشرع الله، أو الكفر البواح المعروف بمعايير معينة حددها علماء الأمة وفق النصوص الشرعية؛ لهذا كانت (البيعة) في الفكر الإسلامي، وبخاصة الرأي السلفي، هي محور النظام السياسي؛ إذ تمنع الدعوة للفتن أو القيام بالثورات، أو الخروج على الحكام الشرعيين استناداً إلى موقف الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي رفض أن يخضع للثوار ويخلع بيعة المسلمين له؛ لأنه مهما كانت الدعاوى نحو الإصلاح والتنمية والقضاء على الفساد فإن ذلك لا يتطلب إسقاط نظام قائم أو خلع بيعة.

غير أن اندلاع ثورات ما يسمى الربيع العربي جعل الفكر السياسي العربي الحديث يشعر بحالة فرح وانتشاء، من خلال مواقف المفكرين العرب، سواء كانوا علمانيين أو ليبراليين أو يساريين أو حتى إسلاميين، الذين عبروا عنها بتأييد تلك الثورات، لدرجة أنهم زعموا بسقوط نظرية (حكم المتغلب)، وأنه جاء (حكم الصوت الانتخابي) بفعل الصندوق الديمقراطي، معتقدين أن الثورة وصفة سحرية لإقرار الديمقراطية وشيوع الحريات، وأن (الصوت الانتخابي) شرعية دستورية ماضية، بينما أثبتت الأحداث التي وقعت في مصر وتونس أن (الصوت الانتخابي) لا يملك شرعية قوية وراسخة كقوة (البيعة) حسب المفهوم الإسلامي؛ إذ يمنع وقوع انقلابات أو اندلاع ثورات أو يُوحد الجماهير بدلاً من أن يشطر الناس إلى فريقين، بل إن هذا الصوت صار ألعوبة سياسية، تارة بيد الإرادة الشعبية وتارة أخرى بيد الرغبة الثورية، وتارة ثالثة بيد الرئاسة الدستورية؛ ما جعل المواطن البسيط صاحب هذا الصوت أمام ثلاث شرعيات تتنازعه، فلا يدري أية شرعية يتبع، هل يتبع الشرعية الثورية التي أسقطت النظام الذي خرج ضده؟ أم يتبع الشرعية الدستورية التي جعلته يختار رئيسه من خلال صناديق الانتخابات؟ أم يتبع الشرعية الشعبية التي خرجت ضد الرئيس المنتخب فسقط تحت حكم العسكر؟ هنا المعضلة التي يصنعها (الصوت الانتخابي)؛ فهو على الأوراق، أوراق انتخابات وأوراق استفتاءات وأوراق توقيعات.. بينما (بيعة الإمام) تكون في الأعناق؛ ما جعل شرعيتها لا تعرف التنازع أو تتعرض للتشظي؛ لأنها ذات اتجاه واحد لطاعة إمام واحد، فهي عهد مشهود أمام كل الأمة، وميثاق أمام الله، يستشعره المسلم تجاه إمامه، سواء كان ملكاً أو أميراً أو رئيساً. تجعل المبايع يُدرك خطورة العبث بالأمن، أو الدعوة إلى الفتنة، أو تأليب الرأي العام للخروج أو التظاهر تحت حجة قضايا يمكن حلها عبر قنوات آمنة.

alkanaan555@gmail.com
تويتر @moh_alkanaan

البيعة في الأعناق والصوت في الأوراق!
محمد بن عيسى الكنعان

محمد بن عيسى الكنعان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة