Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 10/08/2013 Issue 14926 14926 السبت 03 شوال 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

إن المقوم الديني هو الذي حقق للمغاربة منذ ما يزيد على اثني عشر قرنا وجودهم وكيانهم، وحدد ملامح ذاتهم وشخصيتهم. وهم لهذا لم يكتفوا باتخاذه عقيدة وتشريعاً يلتزمون به في عباداتهم ومعاملاتهم، ولكنهم توسلوا به في تحديد مفاهيمهم وضبط تصوراتهم، باعتباره قاعدة سلوكية ومقياساً به يميزون.

أنظار المغاربة اتجهت مبكرا نحو آل البيت، في حب لهم جلاه الترحيب الذي لقيه المولى إدريس، حين وفد فاراً من وقعة فخ سنة تسع وستين ومائة في عهد الهادي العباسي، أو مبعوثا قبل ذلك بنحو عشر سنوات من لدن أخيه محمد بن عبد الله الذي كانت له مواجهات مع المنصور العباسي، ثم كان أن تنازل إسحاق بن عبد الحميد عن إمارته في وليلي للمولى إدريس بعد أن بايعه ودعا القبائل أن تبايعه؛ مع الإشارة إلى ما يذكر من أن ابن عبد الحميد كان على رأي المعتزلة الذين استمر لهم بعض الوجود في أقطار الشمال الإفريقي، على نحو ماكانت عليه دولة الأغالبة، وكذا دولة الموحدين التي كان زعيمها المهدي بن تومرت يميل إلى الدفاع عن العقيدة بالحجج العقلية.

واللافت للنظر أن المغاربة - على عكس ما كان متوقعاً إثر الترحيب بالمولى إدريس والتمكين له - لم يتشيعوا وظلوا على سنيتهم التي لم تكن عندهم تتعارض مع حبهم لآل البيت والتعاطف معهم، في سياق هذه السنية كان الظهور أول الأمر للمذهب الحنفي باعتباره سابقاً على غيره، قبل أن يتم التحول إلى المذهب المالكي الذي أخذ ينتشر في العهد الإدريسي، وهو انتشار يعزى في هذا العهد إلى أسباب، لعل في طليعتها اكتفاء المولى إدريس بوجود كيان له في المغرب، وكذا اقتناعه بعدم استعداد المغاربة لتقبل بعض المبادئ الشيعية، مع العلم بأنه متأثر في الأصل بالزيدية المعروفة بين سائر الفرق الشيعية بما يطبعها من توسط واعتدال ؛ دون أن ننسى ما كان بين الأدارسة والإمام مالك من روابط حميمية، أبرزها أن مالكاً يروي في موطَّئه عن عبد الله الكامل والد إدريس، وأنه اتخذ موقفاً من العباسيين لصالح أخيه محمد المعروف بالنفس الزكية، حين أفتى عند قيام هذا الأخير بأن بيعة أبي جعفر المنصور لا تلزم، لأنها كانت على الإكراه وضرب في ذلك، وكان قد أفتى ببطلان الطلاق المكره وسقوط يمين الإكراه على العموم، يضاف إلى ذلك تقدير المغاربة للإمام مالك باعتباره فقيه المدينة، وما كان معروفاً عنه وعن تلاميذه من أمانة علمية وتثبت في الفتوى. وهو مما لا شك أدركوه، ولاسيما منهم الفقهاء بحكم رحلتهم إلى الحجاز لأداء فريضة الحج.

فالمرحلة الإدريسية شهدت تدفقاً واسعاً للفقهاء المالكيين الأندلسيين والقيروانيين الذين وفدوا على مدينة فاس، وفي هذه الفترة بالذات أي عهد المولى ادريس الثاني تم إدخال كتاب الموطأ إلى المغرب، كما كان لتأسيس جامع القرويين عام 245 كمركز إشعاع علمي وثقافي الفضل في تطوير وترسيخ دعائم وأركان المذهب وإعداد نخبة من العلماء خدموا المذهب تأصيلاً وتقريعاً وتنظيراً، فكان لذلك أثر عظيم في تعميم المذهب المالكي وذيوعه في أوساط المغاربة، وما كاد القرن الرابع الهجري يشرف على النهاية حتى كانت أصول المذهب وفروعه تعرف انسياباً في حياة الناس الدينية والاجتماعية، بل إن السلوك المذهبي المالكي قد أضحى لدى أبناء منطقة الغرب الإسلامي الكبير طريقة حياة ومنهج تفكير وطبيعة عمرانية واجتماعية وذلك بما تشكل عبر التاريخ من تفاعلات مرجعها أحكام المذهب التي رسمت نوعا معينا من التفكير ومنهجية محددة للحياة، وامتد كل ذلك عبر الأجيال إلى أن شكل ثقافة اجتماعية ونفسية عامة.

ويبدو أن موقف الأدارسة المرن تجاه دخول المذهب المالكي جاء نتيجة الانفتاح والتسامح اللذين طبعا عهدهم وما نتج عن ذلك من تقارب وانفتاح على المذاهب الأخرى، كما جاء بمثابة موقف سياسي ضد المذاهب الخارجة عن المذهب السني الذي أخذ به الأمويون في الأندلس والأدارسة في المغرب.

ولا ننسى أيضاً أن هجرة علماء تونس المالكيين إلى المغرب في بداية القرن الخامس الهجري قد ساهم بدوره في البروز الواضح للمذهب المالكي في دول الغرب الإسلامي الكبير. وفضلا عن ذلك فإن فشل الإيديولوجيات والتيارات المذهبية الأخرى في نيل القبول وتأسيس مراكز نفوذ كبرى قد أفرز ظهور المذهب المالكي وبروزه بقوة.

ولا شك أن جمع الناس على أمر واحد درء للفتنة وجمع للكلمة والشمل له سوابق في الثقافة الفقهية والسياسية الإسلامية منذ فجر الإسلام، حيث إن جمع الناس في مجتمع من المجتمعات تحت لواء واحد وتوجيه واحد وقيادة عامة تسوس أمور الناس وأمور ذلك المجتمع وفق نسق ورؤية تراعي المصلحة العامة ودرء المفاسد هو مما يساعد على تثبيت الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي، كما يساعد توحد أفراد المجتمع حول المرجعيات الأساسية والكبرى وضمنها الدين الذي يعتبر في بلد كالمغرب من الأسس الفاعلة والموجهة للسياسة العامة للبلاد على مر التاريخ والعصور،كما أن وحدة المذهب تجعل من الدين أداة مساعدة على توجيه المجتمع وصيانته من النزاعات.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن إمارة المؤمنين ووحدة المذهب مما يتميز به هذا البلد، كما أن التقيد بالمذهب الواحد هو أداة لتحقيق الأمن الروحي للبلاد، ولقد صار المذهب المالكي بالمغرب ثقافة اجتماعية تشكلت أولا عبر التفاعل الفقهي في مجال التدين مما أعطى خصوصية حضارية للأمة المغربية بحيث أسهم إلى حد بعيد في تشكيل النفسية الاجتماعية في المجال الديني والاجتماعي العام للمواطن المغربي.

ويكفي الرجوع إلى قراءة ما كتب عن دور المذهب المالكي في تجربة الوحدة المرابطية مثلاً لدول الغرب الإسلامي الكبير لتمثل ذلك، إذ يرجع الفضل في تثبيته إلى جهود أعلام المذهب المالكي الأوائل في المغرب، فهم الذين مهدوا لهذا الطريق إبان القرنين الرابع والخامس الهجريين، وتزخر كتب التراجم بذكر رواد فقهاء المالكية من أمثال دراس بن اسماعيل الذي كان أول من أدخل مدونة سحنون إلى فاس وأبي محمد الأصيلي وأبي عمران الفاسي، وقد تخرج على يد هذا الأخير الفقيه وجاج بن زلو اللمطي الذي أشرف على مشروع تاريخي هام كان له أبرز الأثر في ذيوع المذهب المالكي بالمغرب ويتجلى الأمر في بنائه للمدرسة التي عرفت بدار المرابطين وخصصت لتلقين مبادئ المالكية ومقاومة المذاهب الأخرى، وقد شكلت هذه المدرسة نواة الدولة المرابطية ومنها تخرج فقيه الدولة ومنظرها عبد الله بن ياسين الذي قام بدور رئيسي في نشر المذهب وترسيخه.

ومنذ دخول المرابطين للمغرب تحالف معهم هؤلاء الأعلام والفقهاء المالكيون مما أسهم في تعزيز الوحدة المرابطية لدول الغرب الإسلامي الكبير.

وتنبغي الإشارة إلى أن من عوامل بروز صحوة مالكية بالمغرب إبان العهد المرابطي كون المذهب المالكي أكثر المذاهب ملاءمة للمرابطين الذين عرفوا بطابعهم الصحراوي وميلهم الفطري إلى البساطة.

لقد سعى المرابطون إلى جعل المذهب المالكي محور حركتهم وبذلك أصبح المذهب المالكي مرتبطا أشد ما يكون الارتباط بالدولة التي استطاعت من خلال هذه التجربة المرابطية أن تجمع شتات دول الغرب الإسلامي الكبير وتوحيد كلمتهم مما كان له أكبر الأثر في نشر الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي والتنمية الشاملة.

عن المقوم الديني في المغرب
د. عبد الحق عزوزي

د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة