Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 13/08/2013 Issue 14929 14929 الثلاثاء 06 شوال 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

يستخدم فقهاء القانون عادة عبارة “روح القانون” كعبارة مقابلة “لنص القانون”. وأول من استحدث هذه العبارة هو الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في عام 1748م في مقالة تتعلق بالنظرية السياسية، إذ ربط بين السياسة والقوانين ربطاً منطقياً، إذ كان يرى أن المعنى الحقيقي للقوانين،

والذي يؤثر في كيفية تطبيقها هو الأهداف، والمبادئ، والقيم، والأعراف السياسية الكامنة خلفها. فالدافع الكامن وراء القوانين في الديمقراطيات بحسب مونتسكيو هو قيمة الفضيلة في هذا المجتمع، ووضع مصالح المجتمع قبل مصالح الأفراد. أما في النظم الإمبراطورية الفردية فالمبادئ الكامنة وراء القوانين هي قيمة “الرفعة والتميز”، ولذلك قد تتخطى المصالح الفردية لبعض الأفراد مصالح مجتمعهم ولو بشكل غير عادل، أما المجتمعات التي تحكمها قلة غاشمة فمبادئ الحكم تستند على نشر الخوف والرعب.

مونتسكيو هو أول من كتب عن ضرورة كتابة الدساتير بشكل عادل وواضح، وهو أول من كتب بالتفصيل في مبدأ فصل السلطات، والسماح لمؤسسات المجتمع المدني. فهو أول من كتب عن ضرورة الفصل بين السلطة التشريعية المسؤولة عن سن القوانين؛ والسلطة القضائية المسؤولة عن تطبيق القوانين؛ والسلطة التنفيذية التي مهمتها إنفاذ أحكام السلطة القضائية. ولكن الأهم في كتاباته هو توضيح أن القوانين تستند دائماً للواقع المجتمعي وليس العكس. فالقوانين لا تشكل المجتمعات بل أنها تنشأ من حاجة هذه المجتمعات لها. ويرى مونتسكيو أن أفضل القوانين هي تلك التي تتواءم مع حاجات المحكومين بها ولا تتناقض مع طبيعتهم وقيمهم. ولكن القانونيون خاصة، والكتاب عامة توسعوا في استخدام مصطلح “روح القوانين” واستعملوه كمصطلح يناقص “نص القوانين”، أي الالتزام الحرفي بها دون الالتفات للظروف التي تطبق فيها. وأخذ مصطلح روح القوانين يتوسع بشكل كبير.

ولا يستثنى من ذلك القوانين الشرعية، إذ إن الفقهاء مجمعون على أن للشريعة مقاصد، هي بمثابة روح التشريع، وعلى ضوئها تطبق الشريعة، ومن أهمها مبدأ التيسير أخذًا بقول المولى جل وعلا: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. كما أن هناك أمور كثيرة مستمدة من سنة نبيه، منها على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). وكذلك سيرة الخلفاء الراشدين مثل موقف عمر من قضية اتهام المغيرة بن شعبة بالزنى، أو قضية علي رضي الله عنه مع اليهودي الذي سرق درعه.

وهناك شبه إجماع بين فقهاء القانون ومنهم فقهاء السنة على أن المغزى الرئيس للشرائع والقوانين هو تنظيم حياة العامة وضمان الحقوق العامة والخاصة، وليس الهدف الإيذاء أو فرض العقوبة التي تفضي إلى إثارة حقد الفرد على المجتمع، أو تفضي لتدميره بدنيًا أو نفسيًا بحيث يكون عالة على المجتمع فيما بعد. والهدف من العقوبة في غالب العقوبات هو التأديب وليس الإيذاء، ولذلك فالرفق في التأديب هي سنته المحمودة. وجميع مواقف الرسول والخلفاء أكدت على أمور في منتهى الأهمية، هي التأكيد على القيم، والمبادئ، واحترام القانون. فعلي رضي الله عنه كان متأكداً من أن الدرع درعه، ويستطيع كخليفة للمسلمين أخذه بقوة من القاضي، بل وربما إيذاء اليهودي. إلا أنه فضّل المثول معه أمام القاضي، ليؤكد استقلال القضاء، وليؤكد تساوي الناس مسلمين وغير مسلمين أمام القضاء. فالعدل لا يفرق بين مسلم وغير مسلم، والقضاء يجب ألا يفرق بين كبير وصغير لا في الحكم ولا في الإجراء، فعلي مثل بنفسه أمام القاضي ولم يرسل من يمثله أو يدافع عنه.

وعندما لم يستطع علي رضي الله عنه تقديم البينة بملكيته للدرع الذي نقش عليه اسمه، وكان في حيازة اليهودي، منح القاضي الدرع لليهودي، وحكم لغير مسلم ضد خليفة المسلمين. فما كان من اليهودي من شدة إعجابه بعدالة المسلمين، إلا أن أعلن إسلامه وأعاد الدرع لعلي كرم الله وجهه. فالدرع ربما لم يكن مهماً حتى لليهودي ولكنه اتخذه ربما كقضية لاختبار العدالة القضائية للمسلمين، فكان ما أدهشه من التواضع، والتسامح، والعدل. بهذه العدالة لا بغيرها، ساد المسلمون العالم، فالعالم لجأ للعدالة الإسلامية للهروب من ظلم أنظمته وحكامه.

فأهم أمر في التشريع والقانون هو احترام الناس للأنظمة، وقناعتهم ويقينهم أنها عادلة تنتصف لهم ومنهم، وتطبق على الجميع دون استثناء. كما أنها تكون واضحة لا لبس فيها ولا غموض، يفهمونها ويفهمون حقوقهم منها لا تخضع لأية أهواء، سواء كانت أهواء المفسرين، أو القضاة أو أهواء المشرعين. ولذلك فاحترام الأنظمة يعد أمراً مهماً لجميع الشرائع والقوانين، وهم أهم من انصياعهم لها بالقوة. فقد تفرض القوانين فرضاً، ويمكن تطبيقها كيفما اتفق بالقوة التنفيذية الغاشمة، إلا أن ذلك يفقد القوانين القوة الأدبية، والأخلاقية، ويحسس الناس باستغلالها لهم، وعدم عدالتها في أمورهم، فلا يحترمونها ولا تدخل ضمن قيمهم ومبادئهم.

ولا تقل الإجراءات العدلية أهمية عن العدالة ذاتها، فالإنسان في جميع الشرائع بريء ما لم يدن ببينة لا تقبل أدنى شك، ولذا يُعامل معاملة المواطن البريء النزيه حتى يصدر حكم قاطع في حقه. وحتى بعد صدور حكم يدينه بما لا يدع مجالاً للشك تجب معاملته كفرد مذنب بجرمه الذي ارتكبه فقط، أي بحادثة بعينها ولا يعمم ذلك عليه سواء في الماضي أو المستقبل، فقد يخطئ المرء مرة ويعود للرشد أكثر من غيره لأنه تعلم من خطئه.

ومن أجل احترام القوانين أيضاً تجب أن تكون ذات مصداقية في التنفيذ، فلا يكون هناك استثناء أو أهواء. وعندما يحكم على المرء بعقوبة كبيرة فإنها تعفيه من العقوبات الأصغر، وعندما يصدر بحقه حكم وينطق به ويبدأ تنفيذه فلا يجوز التراجع عنه أو زيادته بل يستحسن تخفيفه والعفو عن جزء منه. وعندما يقضي محكوم بسجن وتنتهي مدة سجنه، فلا بد من الإفراج عنه مباشرة، وإلم يقع مثل ذلك وجبت مساءلة من لم يفرجوا عنه بحق عام للعدالة وحق خاص له هو.

فالإسلام سبق مونتسكيو بقرون في الأخذ بروح القوانين لا نصوصها الجامدة. وهذا لا يعني الإنقاص من حق مونتسكيو كمؤرخ للعدالة، وفيلسوف، وحقوقي متميز. فجميع ما تحققه البشرية في هذا المجال يصب في حقل العدالة البشرية عموماً التي لا تعرف لا دين، ولا عرق، ولا مذهب. ولو فتشنا في الثقافات العالمية الأخرى لوجدنا أمثلة رائعة للعدالة الإنسانية تشابه عدالة الإسلام وما ذهب له مونتسكيو.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

«روح القانون»
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة