Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 29/08/2013 Issue 14945 14945 الخميس 22 شوال 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الثقافية

جوبر - موقف حمامة
سيمون نصار

رجوع

(1)

لسنوات خلت، كانت صورة الغوطة، بالنسبة إلي، تمثل السيران وأشجار المشمش والدراق والخوخ والتوت الشامي إلى أشجار الحور الجميلة القد اللامعة كقلائد الفضة في نحور النساء، إلى حقول الفُصّة الخضراء التي كما كان يروي الفلاحون تزيد الحليب في أضرعة أبقارهم وتسمن المواشي الذاهبة للذبح.

سنتان قضيتهما في دمشق، بين جوبر حيث تسكن خالة أمي التي تركت فلسطين 1948 في صحبة زوجها ميممين شطر وجهيهما نحو دمشق. ومخيم اليرموك حيث أقمنا سنتنا الثانية قبل العودة إلى لبنان الذي تسكنه الحروب ولا تزال تسكنه. ربما، وقتها، هرب أهلي من الحرب. حملتنا أمي أنا وأختي وأخي ونقلتنا من بيت إلى بيت ومن قرية إلى قرية صعدنا سيارات كثيرة وبتنا ليالي في بيوت لا نعرف أصحابها لكنهم آوونا لكيلا ننام في العراء. عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 لم أكن أنا وإخوتي نعرف الحرب وكيف تميت كل شيء وكيف تحولُ الناس إلى أشلاء تلك الصواريخ التي تصيب كل شيء دون سابق معرفة وتحيله موتاً أسود.

أمي فقط كانت تعرف وكانت تنقلنا بحكمة الأم وخوفها وهلعها ورعبها من فقد الأبناء وفقد الحياة. لا أحد يعرف معنى الأبناء كما الأم ولا أحد يمكنه أن يحمي الأبناء كما حضن الأم وخوفها وهلعها وارتعابها. في طريقنا إلى دمشق بقينا أسبوعاً أو أكثر قليلاً، لم أعد أذكر الأيام التي كانت تمر كلمعان السيوف في العرضة النجدية، لم أعد أذكر البيوت التي بتنا فيها ليالينا. جلّ ما أذكره من رحلة الهروب من الموت تلك، أن أصحابها كان يكرموننا كما لو كنا من عائلاتهم. نمت على أسرة كثيرة لا أعرف لمن، الأهل الذين كانوا يخلون لنا واحدة من غرفهم كانوا ينقلون سكانها إلى غرف ثانية. كل تلك الغرف وكل تلك البيوت كانت أرحب من صدر العالم اليوم. كانت أجمل ما في لبنان الذي سيعرفه بعضكم وسيتعرف عليه البعض الآخر. لبنان الذي يتنقل من مقتلة إلى مهلكة ومن حرب إلى أخرى دون تردد، كأن تلك الأرض التي مرت عليها جيوش وجحافل وأمم لا ترتوي إلا من دماء أبنائها ولا تبذرُ سوى حملة الرايات والقتلى.

دمشق التي كانت هدفنا ووصلناها لم تكن تلك المدينة التي عرفتها لاحقاً، كانت دمشق الثمانينيات كدمشق التسعينيات كئيبة وحزينة، لم تترك فيَّ مدينة زرتها تلك المسحة من الكآبة التي تركتها دمشق. وكنت أسأل نفسي كلما ذهبت إليها، هل هو البعث من أمر بطلاء الأبنية بهذه الألوان القبيحة؟ سوداء ورمادية كانت غالبية الأبنية، وباستثناء المنازل القديمة والقصور الأموية الملونة، لم أشاهد في دمشق مبنى واحداً يدل على الفرح أو القبول أو حتى الاطمئنان. حتى باصات النقل العام كان لونها زيتياً عسكرياً كما لو أن البلاد ديار حرب وأن الناس الذين يركبونها ذاهبون إلى جبهات القتال. وكنت وما زلت غير مستوعب أبداً كيف أن اللبن هو ما يضاف إلى ساندويتشات الفلافل وليس الطحينة (الطراطور) كما يقال عنه في لبنان وفلسطين. كما أن الذهول لا يزال يسكن مخيلتي كلما تذكرت ساحة المرجة التي كانت تعلق في جانب منها أجسام المحكومون بالإعدام وكنت أشاهد هذه الصورة كلما عنَّ على بال أمي أن تصحبنا إلى تذوق الكنافة النابلسية من أحد المحلات الشهيرة هناك.

(2)

جوبر ليست بعيدة عن قلب دمشق، يفصلها عن ستاد العباسيين والدوار الشهير بجانبه أقل من ثلاثة كيلومترات. مع ذلك جوبر بعيدة، القرية القديمة قدم المدينة نفسها، القرية التي خارج الأبواب، لم تكن سوى امتداد طبيعي لحارات الشام وعاداتها وطباعها، طوال عام هناك، بين بيت خالة أمي والمدرسة لم أشاهد وجه امرأة سوى معلمة الرياضيات التي لم تكن شاميةً ووجوه النساء في البيت. أما في جوبر فالنساء متحصنات، دوماً، بالجلباب والملاية (غطاء الوجه الشفاف) التي يمكن الرؤية من خلالها دون رؤية ما خلفها. وكانت خالة أمي تقول دوماً إن أهل جوبر يفضلون الملاية السميكة في إشارة لتزمتهم اجتماعياً أما سكان الحارات القديمة في الشام فيفضلوها أرق من ورق البهرجان. وهي كلمة عرفت لاحقاً أنها تركية دون أن أعرف معناها. بالحقيقة لم أبحث عن المعنى، طالما أن الموضوع لم يكن يسعدني كثيراً.

لم تكن جوبر مجرد نساء مغطيات بالسواد، كانت أيضاً رائحة الخشب التي تخرج من المناشر الكثيرة في المنطقة، وكانت شجر الجوز الذي يحيط بها من كل الجوانب وكانت السيناغوغ اليهودي الذي كنت أمر به كل يوم ذهاباً إلى المدرسة وإياباً منها. وكانت محلات النجارة التي تصنع فيها قطع الأثاث الدمشقي العريقة من خشب الجوز اللين الذي لا تهزمه السنين. وفوق هذا كله، كانت دجاج البروستد المقلي في ذلك المطعم الشهير على موقف حمامة. الموقف نفسه الذي كنت حين أتوه في شوارع دمشق لا أعرف عنواناً غيره لسائقي التاكسي الأصفر.

(3)

كنت أحب دمشق وما زلت، رغم حزنها وكآبتها، رغم القمع الذي يعشش في زواياها والموت الذي يسكن تحت أقدام المشاة على طرقاتها (كان سجن وزارة الداخلية حيث يعيش ويموت ويعذب آلاف السجناء السياسيين وغير السياسيين تحت الرصيف تماماً حيث في وقت الذروة يمر عشرات الآلاف كل يوم) وحين عرفت بذلك من أحد أصدقائي فكرت أن يكفي من يسكن تحت الرصيف لكي يجنُ ويعذب أن يستمع إلى خبط الأقدام التي تمر فوقه. بينما كان باب وزارة الداخلية العالي يحمل صورة كبيرة لحافظ الأسد «باني سوريا الحديثة» على ما كان يقال وما زال يقال حتى الآن. هذا البنّاء الذي لا بد كان يحمل في جيناته كروموسومات دراكولية بعقل نازي سادي حول سوريا، مهد الحضارات القديمة، إلى مشرحة للموتى الأحياء. إلى مدرسة للذل حيث تهان كرامة الإنسان في بلده. ولم أستغرب يوم قامت الثورة على وريثه إذ ليست سوى ثأر من أصحابها نتيجته الغضب الذي ترك سنوات حبيس الصدور وخرج دفعة واحدة.

(4)

لم تكن جوبر الغوطة، كانت بوابتها، ولم تكن جوبر بوابتها فقط، بل كانت النافذة التي حين تفتح فعلى بساتين وأنهار وسواقٍ وغلال كثيرة. بعدها كانت زملكا وبعد زملكا كان عربين وبعدها حمورية وبعدها بيت سوا حيث كنا نذهب كل يوم جمعة نزهتنا الأسبوعية. هناك أكلت ولأول مرة في حياتي المشمش في كافة مراحل نموه عن الشجرة الأم. كنت طفلاً، وكانت الغوطة تعني لي الخضرة والماء والجمال الذي يمجد الله في علاه. كنت طفلاً وفهمت أن الريف أجمل من المدن وأن أهل الريف أجمل من أهل المدن وأن بيوت الريف جميلة وواسعة على رغم الفقر والعوز والحاجة. وكان أهل تلك المناطق فقراء لكنهم كانوا ودودين أكثر مما وجدت في هذا العالم.

لم تكن الغوطة يوماً بالنسبة للطفل الذي فيَّ سوى ما أذكره عنها من ذلك العام. وسوى ما بقيت أراه حين كنت أزورها تلميذاً في مراحل مختلفة. لم تكن سوى ذلك حتى يوم قصفها وريث الدمِ الأسود بالصواريخ المحملة بغاز السارين. قتل الأطفال وهم نيام والنساء وهن نائمات وقتلت بيوت وعائلات وقرى كاملة. وطال القصف ذاكرتي.

*** ***

- تنويه .. «ابتداءً من الأسبوع القادم سيكون موعد صدور الملحق الثقافي يوم السبت من كل أسبوع بدلاً من الخميس، وستعاود المجلة الثقافية الإصدار اعتباراً من السبت الذي يليه»

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة