Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 20/09/2013 Issue 14967 14967 الجمعة 14 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

النبش في ملفات الماضي، والعودة إلى قصص الأولين وحكايات السلف، فيهما متعة لا تحد، لكن الأهم في ذلك السفر بين سطور التاريخ، الذي يكشف لنا من خبايا في سيرة الناس وحكامهم، وما يكتنفها من صعود وهبوط، وما تزخر به من صور وعبر تعكس واقع تلك الأزمان الغابرة وطبيعة حياة أهلها، بما فيها من جوانب إيجابية وأخرى سلبية.

وفي كتابي مباهج الأندلس تطرقت إلى العديد من الوقائع السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والشخصيات التي شاركت فيها أو صنعتها، والتي طبعت بسيرتها أزمنة مختلفة في العصر الأندلسي الذي يشكّل إحدى أهم الحلقات في تاريخنا العربي والإسلامي الحافل بالكثير من الأحداث المهمة.

وأورد هنا بعضاً مما ذكرته عن الخليفة الحكم المستنصر من حكام بني أمية، الذي اشتُهر بين حكام عصره بشغفه بالكتب واقتناء كل ما تقع عليه يداه منها. وقد تولى الحكم بعد أبيه وعمره ثمانية وأربعون عاماً، ويقال إن والده قد ولاه العهد منذ أن كان عمره ثماني سنوات، ولم يتزوج مدة حكم أبيه؛ لأنه كان يغار عليه، ويأبى أن يشاركه أحد فيه. وهو من خيرة حكام بني أمية علماً وعدلاً وخلقاً، وكان يقضي مظالم الناس، ويردع الولاة عن ظلمهم، ويتحرى العدل بسريرة صافية نقية.

وكان من مباهجه جمع الكتب، فجمع منها الكثير. وأورد المقَّرِي ما قيل فيه، ومن ذلك قوله: “إنه كان حسن السيرة، مكرماً للقادمين عليه، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وإنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالماً نبيهاً صافي السريرة، وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد بن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه، وأجاز له ثابت بن قاسم، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه، وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك، فاستوسع علمه ودق نظره، وجمّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذياً نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله”.

وقد أنشأ الخليفة الحكم المكتبة الأموية الكبرى، وقد جهد ملوك الدول الأخرى في إهدائه نفائس الكتب. ويقول ابن حيان: “إنه لم يسمع في الإسلام بخليفة بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين، وإيثارها والتهمم بها، أفاد على العلم، ونوه بأهله، ورغب الناس في طلبه، ووصلت عطاياه وصلاته إلى الأمصار النائية”. وقد بعث إلى أبي الفرج الأصفهاني للحصول على نسخة من كتاب الأغاني، وأعطاه ألف دينار من الذهب العين، كما أرسل له أبو الفرج كتاباً عن بني أمية ونسبهم فوصله بصلة جزيلة. كما أنه فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري ما فعله مع الأصفهاني؛ إذ بعث إليه بمبلغ كبير لقاء حصوله على نسخة من شرحه لمختصر ابن الحكم.

وكان للخليفة الحكم وراقون بأقطار البلاد، ينتخبون لـه غرائب التوليف، ومع هذا فهو لا يجمع الكتب فحسب، بل يقرأ كل ما يقع تحت يده منها، وقلما تجد كتاباً في خزانته لم يطلع عليه، وكان قد قرب إليه العلماء، ومنهم اللغوي المشهور (أبو علي القالي) صاحب كتاب (الأمالي)، وقد ألفه بأمره وتحت كنفه، وأهداه إليه، كما أهدى أبو عبد الله الخشني بعض كتبه، ومنها كتاب (القضاة)، وأهدى إليه مطرف الغساني كتاب (أخبار كورة البيرة)، وكان الخليفة قد عهد إلى أخيه عبد العزيز إدارة تلك المكتبة الأموية، بينما يقضي هو معظم وقته بمدينة الزهراء يستمتع بمباهجها وظلالها الوارفة، معتكفاً على قراءة الكتب، برفقة أحد خلاصه وهو محمد بن يوسف الحجاري الذي ألّف لـه كتاب (تاريخ الأندلس والمغرب).

وقد سار كثير من وجهاء الأندلس وأهلها سيرة أميرهم، فتنافسوا في اقتناء الكتب لتصبح ظاهرة ذلك العصر الزاهر. وقد ساير النصارى واليهود المسلمين في ذلك فكانت لهم مكتبة زاخرة بنفائس الكتب، وكان من أشهر هؤلاء الطبيب اليهودي (ابن حسداي) طبيب الحكم الخاص، وتحت طلبه كتب يهود قرطبة باللغة العربية، وفيما بعد كانت من بين أشهر المكتبات الأندلسية الخاصة مكتبة يوسف بن إسماعيل ابن النغريلة اليهودي. أما النساء فقد ساهمن في هذا الشغف أو ربما التقليد للأمير، ومن أشهرهن عائشة بنت محمد بن قادم، فكانت خزانة كتبها من أغنى المكتبات.

ويبدو أن العلم انتشر في الأندلس في ذلك العصر فتم تأسيس الكثير من المدارس حتى أصبح أغلب سكان الأندلس يجيدون القراءة والكتابة، ولديهم قسط من العلوم والآداب، وكان مسجد قرطبة أعظم جامع على وجه البسيطة في ذلك العصر.

ويقول أحد شهود ذلك العصر: “إن إغداق الأمير الحكم على العلماء الأندلسيين والأجانب لم يعرف حدًّا، وقد كانوا يهرعون إلى بلاطه، وكان الأمير يشجعهم ويوليهم رعايته، حتى الفلاسفة في ظله استطاعوا أن ينصرفوا إلى بحوثهم دون خوف من أن يقتلهم الأتقياء الورعون”. ويبدي النقد الحديث تقديره وإعجابه بتلك الرغبة العلمية التي امتاز بها الخليفة الحكم المستنصر، والتي سادت كل عصر، كما يقول لنا المؤرخ الإسباني “موديستو لافونتي”: “كانت دولة الحكم الثاني دولة الأدب والحضارة، كما كانت دولة أبيه دولة العظمة والبهاء”.

نوازع
الخليفة الحكم المستنصر
د.محمد بن عبد الرحمن البشر

د.محمد بن عبد الرحمن البشر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة