Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 29/09/2013 Issue 14976 14976 الأحد 23 ذو القعدة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

لو كان في مقدوري أن أسيِّر أسطولاً من ثلاث أو أربع شاحنات إلى العاصمة (الرياض).. محملة بـ (بالات) من الشكر و(رزم) من التقدير، لإيصالها.. إلى حي (التعاون)، حيث يقيم الصديق العزيز وزميل القلم فوق صحيفتنا (الجزيرة):

الروائي المبدع الأستاذ يوسف المحيميد.. صاحب (الحمام.. لا يطير في بريدة)، التي كانت واحدة من أجمل رواياتنا المحلية التي صدرت خلال السنوات الثلاث الماضية.. لما ترددت!! فما كتبه مؤخراً.. في عموده (نزهات) - يوم الأحد الماضي - بعنوان (تذكرة سفر لمعالي أمين العاصمة)!! كان يستحق ذلك الأسطول من شاحنات الشكر والتقدير بـ (بالاته) و(رزمه).. وأكثر!!

فقد طالب في ذلك (العمود).. المختصر والمتقن.. بـ (تذكرة سفر) لأمين العاصمة.. حتى يغادر بها إلى العاصمة الإيطالية (روما) أو إلى العاصمة الإسبانية (مدريد)، علَّه يلتقي مصادفة بمعماري فنان كـ (جوليو لافونتي) - الإسباني المولد، والفرنسي الثقافة، والإيطالي الإقامة - الذي التقاه منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً أمين مدينة جدة الأسبق وفنانها (محمد سعيد فارسي)، فتحاورا وتفاهما.. بكلمتين: (كبيتو).. الإيطالية التي يعرفها الفارسي، و(تمام).. العربية التي يعرفها لافونتي، ليجذبه بعدها إلى (جدة).. فيصنع عبر الحوارات وتبادل الأفكار والزيارات المشتركة معه.. إلى بقايا (الكنداسة) التاريخية، ومصانع بن لادن والرخام الوطني.. عشرات المجسمات الجمالية الرائعة في جاداتها وميادينها وكورنيشها، أو كما قال الأستاذ المحيميد في إيجازه الجميل (ليضع لمساته ووعيه المعماري على جدة بأكملها)، وهو ما فعله (لافونتي) حقاً عبر ذلك الكم الهائل من المجسمات.. النابضة حيوية والباذخة جمالاً كمجسمات: (المشكاوات الأربع) و(اتجاه القبلة) و(الكرة الأرضية) و(شعار التوحيد) و(الدين والعلم) و(نافورة البيعة) و(نافورة الرمان).. إلى بقية التسعة والثلاثين مجسماً جمالياً الممتدة في طول المدينة وعرضها.

إن المشكلة - يا عزيزي - ليست في تأمين تذكرة سفر لمعالي أمين مدينة الرياض.. ولكنها في العثور على (لافونتي) آخر.. بوعيه المعماري وإحساسه الفني العميق، وقدرته الخلاقة على تحويل الأفكار والأحلام والكلمات.. إلى مجسمات جمالية تبهر وتمتع ولا تتصادم مع مقدسات الناس ومواريثهم الروحية، ولذلك فإن (معاليه) سيحتاج إلى رفقة (كولومبوس) عربي أو أوروبي.. ليدله على طريق الوصول - سواء في روما أو مدريد - إلى (لافونتي) الآخر.. هذا، أو (جيوفاني) جديد مُلْهَم كـ (جيوفاني) جدة السابق والرائع بمجسماته الست الفريدة فيها.. كـ (زهرة الصبار) أو (الطيور المهاجرة) أو (النور والظل)..!

لقد كنت يا عزيز.. رائعاً بقدر ما كنت صادقاً وأنت تقول في ختام مقالك إن (المدينة التي تكبر دون العناية بجمالها تهرم بسرعة وهذا ما سيحدث للعاصمة الرياض)!! وهو ما حدث ويحدث الآن في (جدة).. مصداقاً لما قلت..!

* * *

لقد أثار إعجابي.. (مقالك) بقدر ما أثار أشجاني وبعض أحزاني؟! فالعلاقة التي أقامها (الفارسي) مع (لافونتي).. وأثمرت تلك اللمسات والأعمال والمجسمات الجمالية الباذخة، أقام مثلها في الوقت ذاته مع ما يزيد على خمسين فناناً سعودياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً.. ليسفر صبح جدة الجميل آنذاك عن ثلاثمائة وخمسة وعشرين عملاً جمالياً تنتشر في ميادينها وزواياها وعلى كورنيشها وضفاف بحيراتها، تمثل ذوب أرواح أولئك الفنانين وأحلامهم.. بعد أن وجدوا في شخص أمينها عاشقاً مثلهم، وأسيراً مثلهم لذاكرة المدن الجميلة التي يطمحون لإقامتها، ولكن ما إن ترك (الفارسي).. موقعه وترجل عنه، وترك أولئك الفنانون خلفهم تلك الأعمال.. وغادروا، وهم واثقون بأن مدينة (الفن والجمال) التي أصبحت عليها (جدة).. ستدافع عن نفسها ومكتسباتها ومقتنياتها، وهو ما لم يحدث.. حيث أخذت يد الإهمال تمتد إلى تلك الأعمال شيئاً فشيئاً، ثم أخذت تزحف عليها مشروعات الإزاحة عن مواقعها إلى مواقع أخرى بحجة التوسعة لمرور السيارات.. ثم ليختفي بعضها في مستودعات الأمانة ليلتهمها الصدأ والغبار، على أن ما عانته تلك الأعمال من إهمال أو إزاحة أو اختفاء يثير الشك ويبعث على الارتياب حول مصيرها، وبعضها بملايين الدولارات.. كأعمال ومجسمات الفنان البريطاني الكبير (هنري مور)، يظل متواضعاً في إجماله.. أمام الأضرار الفادحة التي أخذت تعانيها (المدينة) مع أمنائها الذين خلفوا (الفارسي) إذا استثنينا أمينيها: الدكتور نزيه نصيف والمهندس عبد الله المعلمي.. اللذين حافظا على جمال المدينة ومقتنياتها الفنية بـ (العناية) بها والصيانة الدائمة لها كـ (النصيف)، وبـ (الإضافة) لها كـ (المعلمي).. الذي قدم على أرض الواقع تطويراً رائعاً لكورنيش الحمراء.. أعجب معظم أهالي جدة وسكانها.. إن لم يكن جميعهم، إلا أنه لم يعجب من خلفوه في (الأمانة).. ليجري تطوير على التطوير فوق ذات الكورنيش!! أفقد المدينة أحد أهم معالمها الجديدة.. وأقصد به (متحف الهواء الطلق) الذي صممه (لافونتي) بمحازاة الخليج - الشرقي - لقصر السلام بمياهه الفيروزية النادرة، الذي كان يضم ما يزيد على خمسين عملاً جمالياً لكبار فناني العالم، لينكمش (المتحف) على يد تطوير التطوير - هذا !! - إلى خمسة عشر عملاً فنياً.. عليك أن تبحث عنها وسط أشجار من النخيل لا حاجة لها في هذا الموقع، وإذا كان يُحمد لتطوير التطوير هذا شيء.. فإه يحمد له أنه أبقى على (الساعة الشمسية) التي ينفرد بها كورنيش الحمراء.. التي قدمتها (شركة موبيل أويل) - فيما أذكر - لمدينة جدة مع التعهد بصيانتها إلى الأبد، ولكنه يعاب على أصحاب تطوير التطوير هذا.. أنهم لم يكلفوا خاطرهم بـ (سؤال) الشركة، أو الكتابة لها.. لدعوتها لصيانة (ساعتها) المتوقفة عن العمل بإعطاء التوقيت وقياس درجات الحرارة - منذ سنوات - وقد كانت تقدم الخدمتين معاً في تلك الأيام!!

* * *

لقد كان أول الأضرار الفادحة التي تعرض له (جمال) جدة.. هو دفن ثلاث بحيرات من البحيرات الست التي ينفرد بها كورنيش جدة الشمالي عن الواجهات البحرية في كل مدن العالم قاطبة، وكانت حجة دفنها.. توفير (المواقف) لسيارات المتنزهين من قصاد الكورنيش الشمالي، دون أن يفكر الأمين السابق في تأهيل الكورنيش الجنوبي وهو الأجدر طولاً وسعة ورمالاً.. ليمتص تلك الأعداد التي دُفنت من أجلها البحيرات الثلاث، لتمتد بعد ذلك يد التشويه للمدينة بـ (إلغاء) بعض الميادين.. بحجة إقامة جسر أو نفق! فإن لم يكن هذا أو ذاك.. فمن أجل سيولة المرور.. حتى يتدفق سير السيارات دون عائق الدوران حولها وكأن جدة مدينة للسيارات والمركبات لا مدينة بشر ومهج.. ليبلغ عدد تلك الميادين الملغاة بين يدي الأمين الحالي وسابقه ستة ميادين.. والسابع وهو ميدان (الدراجة)، الذي يئن الآن تحت مقصلة الإزالة.. بينما ينتظر أفخم ميادين جدة وأغلاها ثمناً وأجملها تشكيلاً وأندرها قاعدة: ميدان (الفلك) للفنان الألماني (هولمان).. لحظة إزالته القادمة والقاصمة.. كما أسمع..!.

ولا تسل يا عزيزي عن إغلاق شوارع المحاور الرئيسية الكبرى كشارع المعادي وفلسطين والتحلية وصاري والحمراء والأمير نايف وحراء.. ليكون (شارع الأندلس) من جنوبه إلى امتداده الشمالي عبر (طريق الملك) شارعاً بلا ميادين أو إشارات!! ليتقاتل عابروه عند الدخول إلى (يوتيرناته) الضيقة والمجهولة، وليتخبط القادمون إلى جدة وهم لا يعرفون كيف يصلون إلى كورنيشها، وليهلك قاطعوه.. سيراً على الأقدام في غياب (جسور) للمشاه، ليصبح وسط المدينة.. وكأنه مقسوم طولياً إلى قسمين: قسم غرب شارع الأندلس.. خال من السيارات والمارة والحياة، ينعى قاطنوه من أصحاب المراكز والمتاجر والمطاعم والمقاهي.. حظوظهم العاثرة فيه، وقسم إلى الشرق من شارع الأندلس.. مكتظ بالناس مزدحم بالسيارات.. وهؤلاء وأولئك يبحثون عن طريق يوصلهم إلى غرب شارع الأندلس، أما الناس.. من المواطنين والمقيمين.. فقد ألفوا - وبسرعة - المرور على المستشفيات والعيادات الخاصة طلباً لـ (المساعدة) على مواجهة هذا الغيظ.. الذي يعيشونه صباح مساء!!

* * *

إن أخشى ما أخشاه يا عزيزي.. أن يستجيب معالي أمين مدينة الرياض لـ (فكرتك)، ويستلم تذكرة السفر المقترحة - هذه -، ويغادر - على عجل - إلى (روما) أو (مدريد).. بحثاً عن (لافونتي) أو (جيوفاني) أو (سيزر) أو (فاساريللي) جديد، ولن يعدم وسيلة الوصول إلى أي منهم.. سواء بـ (كولومبس) عربي أو أوروبي أو بدونهما، والإتيان بهذا الـ (لافونتي) الجديد.. الذي سيمكنه (معالي الأمين) حتماً من وضع لمساته وجمالياته ووعيه المعماري على كل الرياض.. وكما فعل (لافونتي) القديم - من قبل - في جدة في تلك الأيام، فيضع على شفاه شباب الرياض وكهولها وربما بعض شيوخها.. (بسمة) تطيل العمر، وفي قلوبهم (بهجة).. تسعد بها الأفئدة والأرواح، وهم يتنقلون وسطها من شارع إلى آخر.. ومن ميدان إلى آخر.. دون أن تلتبس عليهم الأحياء بتشابهها وتكرارها، فلا يفرقون بين (حي المروج) و(حي المصيف) كما هي الحال معك (يا عزيزي)؟!

ولكن.. من يضمن بقاء تلك الأعمال بعد مغادرة أمينها (المقدام) هذا بعد أربع أو خمس سنوات أو أقل أو أكثر..؟ فلا تتعرض لأنماط (إزالتها) بـ (الحجج) المتوافرة دائماً، وبـ(التبريرات) الجاهزة.. أبداً..!!

إن العيش في هذه الحالة بـ(الأمل) على وهنه.. يظل خيراً من العيش بفجيعة فقده، ودمت يا عزيزي، ودام قلمك روائياً مبدعاً، وصحفياً.. معنياً بهموم الناس وقضاياهم..!!

«المحيميد» و«لافونتي» .. و«ذاكرة» المدن الجميلة..؟!
د.عبدالله مناع

د.عبدالله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة