Monday 18/11/2013 Issue 15026 الأثنين 14 محرم 1435 العدد
18-11-2013

كيف يكون النص الكتابي .. أو لا يكون ؟!

- كتب أديب فيلسوف رسالة طويلة جداً إلى صديق رديف له في الفلسفة والأدب، بث له من خلالها العديد من المعاني، وطرزها بلآلئ من المشاعر المرسلة، ثم ختمها قائلاً ((ما معناه)): اعذرني أيها الصديق لهذا الإطناب في الكتابة، فليس لدي من الوقت ما يعينني على كتابة نص مختصر!

**

- وأجمل ما في هذا النص خاتمته، ففيها من حكمة البلاغة أو بلاغة الحكمة قدر غير يسير، وهي دليل على أن ليس كل نص مسهب الطرح إبداعاً ولا بلاغة،، لأن القلم يجنح أحياناً بصاحبه في كل اتجاه، بوعي أو بسواه كقارب تتقاذفه الأمواج وسط البحار، ليكتشف ربما بعد فوات الأوان أن ما عبر عنه في عشر صفحات كان يمكن احتواؤه ببلاغة واقتدار في صفحة أو صفحتين! وأستثني من ذلك بعض النصوص العلمية في بعض الرسائل الأكاديمية التي قد تحتم موضوعيتُها مدَّ رواق الحديث شرحاً وبرهاناً وتدليلاً!

**

- ورغم ذلك، أتذكر أن معالي فقيد الوطن والتنمية والأدب، الدكتور غازي القصيبي -طيب الله ثراه- لم تتجاوز رسالته لنيل (شهادة الماجستير) في كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية مئة صفحة، لتحتفيَ الكلية بتميزها وتقررها الجامعة مرجعاً علمياً لطلاب الكلية، في حين أنه قد يبلغ حجم بعض رسائل الماجستير والدكتوراه في بعض جامعاتنا المئاتِ وربما الآلافَ من الصفحات، مما قد يحتسبه البعض مؤشراً للتميز العلمي والإبداع!

**

- أختم هذا الحديث بخاطرة خاصة، أعرض من خلالها سبب التزامي بجادة الاختصار في مسار الكتابة، فقد كنت في مطلع العمر أفخر بالإطناب في النصّ بل وأحرص عليه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وكان بعض أساتذة (التعبير) الذين عاصرتهم في مرحلتي الدراسة المتوسطة والثانوية يشيدون بهذا المسار في الكتابة، ويعتبرونه مؤشر تفوق، إلى درجة أن أحدَهم في السنة الثانية الثانوية (أدبي) كان يكلفني أحياناً بقراءة نصّي الإنشائي أمام زملاء الفصل!

**

- لم يكن لي من خيار في تلك المرحلة العمرية والتربوية إلا أن (أصدق) ما كنت أسمعه، ولما خضت تجربة الكتابة الصحفية أثناء تلك الفترة، كرست ذلك النهج من الكتابة تطبيقاً، ثم ابتعثت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة الجامعية، وهناك اكتشفت - عبر تعرضي لجرعات مكثفة من دروس اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة- اكتشفت عمق الخطأ الذي مارسته خلال تجربتي التربوية السابقة للمرحلة الجامعية وأن ما كنت أظنه (مؤشر) تفوق في الكتابة وهو الإسهاب، لم يكن سوى وهم لا سند له، وأن الكتابة يجب أن تبدأ بـ(خارطة طريق) تقودني بدْءاً ونهاية إلى ما أريد التعبير عنه، ناهيك عن (هندسة) الترتيب المنطقي لمسار النصّ، تمهيداً له أولاً، مروراً ببسط الفكرة المراد عرضها، وانتهاء بخاتمة تضم خلاصة لما فعلته في الصفحات السابقة وما أفرزه النص من نتائج، إن وُجِدتْ.

**

- وبعد، فأسلم بأن الكتَّابَ يختلفون في آليات طرحهم، فهناك من يسهب إسهاباً مملاً يجعل الفهم معه أكثرَ عسراً من سلبية الاختصار، وهناك من يوجزُ في الطرح إيجازاً يغلفُه الغموض، فيخلُّ بالمعنى ولا يعين على الفَهْم، وأرجو ألا أكونَ أحد أولئك أو هؤلاء!

**

- كما أسلّم بأن الاختصار ليس خيراً كله في كل الأحوال، مثلماً أن الإسهابَ ليسَ مذمةً كله في كل المواقف، الاختصار مطلوبٌ إن لم يكن منه بدُّ، ولم يخل بالمعنى، والإسهاب مطلوبٌ متى وجدت له ضرورة، ولكن بلا غلو فيه ولا تكلّف ولا إسراف، ولنتذكر في الختام، أن ما يستطيع المرءُ التعبيرَ عنه في سطر أو سطرين بدقة ووضوح، خير من ألف سطر تعبيراً عن ذات المعنى!

مقالات أخرى للكاتب